بسم الله الرحمن الرحيم
إن المتأمل في كتاب الله - تبارك وتعالى - وما جاء فيه عن دعوات الرسل، وما أُنزل عليهم من الكتب ليخرج بحقيقة واحدة، اتفق عليها جميع الرسل، وأُنزلت بها جميع الكتب السماوية. وهذه الحقيقة هي: الدعوة إلى توحيد الله وعبادته دون سواه. فهي أُسّ الرسالات وعمودها الفقري، وهي القاسم المشترك بينها. وإن اختلفت بعد ذلك الشرائع والمناهجº فما من نبي أرسل ولا كتاب أنزل إلا وكان أول ما يدعو إليه هو توحيد الله تبارك وتعالى.
يقول الله - عز وجل - في تقرير هذه الحقيقة: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين)(1)
وفي آية أخرى يقول: (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون)(2) وإذا استعرضنا القرآن الكريم في حديثه عن رسل الله عليهم الصلاة والسلام نجد أن كل رسول قال لقومه: (يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) (3) ابتداء من أولهم نوح - عليه السلام -، وانتهاء بخاتمهم نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام دينهم واحد، وهو الإسلام، وشرائعهم مختلفة كما قال المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: \"أنا أولى الناس بعيسى بن مريم في الدنيا والآخرة والأنبياء إخوة لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد\"(4) قال الحافظ ابن حجر: ومعنى الحديث: أن أصل دينهم واحد، وهو التوحيد وإن اختلفت فروع الشرائع. وقيل المراد إن أزمنتهم مختلفة) (5)
وقال الحافظ ابن كثير في معنى الحديث: \"أي: القدر المشترك بينهم وهو عبادة الله وحده لا شريك له، وإن اختلفت شرائعهم ومنابعهم)(6) لقوله - تعالى -: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً) (7)
وكل الأنبياء أخبروا بأنهم مسلمون ودعوا قومهم للإسلامº لأنه الدين الحق الذي لا يقبل الله غيره (إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب)((8)
(ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) (9) وهذا يدل على أن دين جميع الأنبياء واحد، هو الإسلام ودعوتهم واحدة، وهي الدعوة لتوحيد الله - عز وجل - وإفراده بالعبادة، على هذا مضى رسل الله والمسلمون من أممهم، ولكن أقوامهم غيّروا وبدّلوا بعدهم، وحرفوا وأدخلوا في دين الله ما لم يأذن به الله، وشمل التحريف والتبديل أساس دعوة الرسل، وهو التوحيد. وما يتعلق بذات الله - عز وجل - من الأسماء والصفات فتفرقت الأمم في ذلك ما بين مفرّط، ومُفرط، وغالٍ, ومقصّرº لإعراضهم عن هدي المرسلين واتباعهم غير سبيل المؤمنين، ومن أعظم الأمم اختلافاً وضلالاً في هذا الباب، أمتي اليهود والنصارى، واليهود غلب عليهم التقصير والتفريط والجفاء، وإن كان لديهم غلو وإفراط، والنصارى غلب عليهم الغلو والإفراط، وإن كان وقع منهم تفريط وتقصير في جوانب.
والمسلمون اتبعوا الرسل، فهُدوا لأقوم السٌّبل، فكان قولهم هدى بين ضلالتين، وحقاً بين باطلين، فهو كاللبن سائغ يخرج من بين فرث ودم، وإليك البيان فيما ذهبت إليه كل من هذه الأمم الثلاث في هذا الباب (10)
موقف أمة اليهود:
عرفنا مما تقدم أن أمة يهود أمة غلب عليها طابع التفريط، والتقصير في هذا الباب، بل هو الغالب عليهم في أكثر الأبواب.
ولعل من أبرز مظاهر تفريطهم وتقصيرهم في هذا الباب أمرين.
الأول: اتخاذهم الأنداد لله - عز وجل - وعبادة الأصنام.
الثاني: إغراقهم في تشبيه الخالق بالمخلوق، ووصف الله - عز وجل - بالنقائص التي لا تليق إلا بالمخلوق. فأما الأمر الأول: وهو اتخاذهم الأنداد وعبادة الأصنامº فإن القوم لما أنقذهم الله من عدوهم فرعون وجنوده، وجاوز بهم البحر مع موسى - عليه السلام -، وأغرق عدوهم على مشهد منهم، ومروا على قوم يعكفون على أصنام لهم. مالت نفوسهم إلى الوثنية، وطالبوا موسى - عليه السلام - أن يجعل لهم مثلها: يقول الله - عز وجل - في ذلك: (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون) (11) ثم بيّن لهم موسى - عليه السلام - ضلال أولئك وبطلان عملهم، وأن الإله الحق هو الله الذي فضلهم على العالمين فقال: (إن هؤلاء متبّر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعلمون. قال أغير الله أبغيكم إلهاً وهو فضّلكم على العالمين)(12) اتخاذهم العجل في زمن موسى:
لم يلق نصح موسى - عليه السلام - وتذكيره ووعظه من القوم قلباً واعياً أو أذناً صاغية، فما أن تركهم - عليه السلام - وذهب إلى ربه يناجيه، حتى اتخذوا العجل من بعده إلهاً من دون الله قال - تعالى -: (واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلاً جسداً له خوار ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلاً اتخذوه وكانوا ظالمين) (13)
(وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون)(14) ثم بين - تعالى -من تولى كبر إضلالهم وصناعة العجل لهم فقال: (فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري) إلى قوله: (فأخرج لهم عجلاً جسداً له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي)(15)
فبين - تعالى -أن الذي عمل لهم العجل هو السامري. ومن العجيب أن كتاب العهد القديم ينسب هذا العمل الشنيع إلى هارون - عليه السلام - كما جاء في (سفر الخروج) (16) ولقد تكرر من القوم، اتخاذ الأصنام وعبادتها بعد موسى - عليه السلام -.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: \"وأهل الكتاب معترفون بأن اليهود عبدوا الأصنام مرات....(17) وفي كتاب العهد القديم، إشارات كثيرة لعبادتهم الأوثان والأصنام، من ذلك:
1) ما جاء في (سفر الملوك الثاني) عن عودتهم لعبادة العجل في عهد رحبعام (18). يقول السفر: \"...... وعمل عجلي ذهب وقال لهم: كثير عليكم أن تصعدوا إلى أورشليم هوذا ألهتك يا إسرائيل الذين أصعدوك من أرض مصر ووضع واحداً في بيت أيل، وجعل الآخر في دان) (19)
2) عبادتهم الأفعى وبعض التماثيل
يذكر (سفر الملوك الثاني) عن الملك خرقيال أنه: (أزال المرتفعات وكسر التماثيل وقطع السواري وسحق حية النحاسي التي عملها موسىº لأن بني إسرائيل كانوا إلى تلك الأيام يوقدون لها....... ) (20)
على أن موسى - عليه السلام - لم يعمل تمثالاً نحاسياً للحية، وإنما كانت عصاه تنقلب إلى حية تسعى معجزة له ثم تعود سيرتها الأولى بعد ذلك عصا يتوكأ عليها، ويهش بها على غنمه، ولكن لعل بني إسرائيل عملوا ذلك ونسبوه إلى موسى - عليه السلام - لتروج عند الناس، ويعظموها ويعبدوها.
وأما الأمر الثاني: هو قولهم بالتشبية ووصف الخالق بصفات المخلوق:
وهذا أمر مشهور عنهم، حتى عده الشهرستاني (21) من طباعهم الملازمة لهم، فإن القوم أسرفوا في تشبيه الله - عز وجل - بالمخلوق، ووصفوه - جل وعلا - بالنقائص التي تختص بالمخلوق، ولقد سجل عليهم القرآن الكريم صوراً من ذلك. وكتابهم الذي بين أيديهم ينضح بالكثير من ذلك. ونحن نذكر فيما يلي نماذج من أقوالهم التي شبهوا فيها الخالق - عز وجل - بخلقه.
1) فمن ذلك: (وصفهم الله بالفقر) وهو وصف لا يليق بخالق البشر، ولكن القوم لا عقول ولا حياء عندهم، قال - تعالى -(لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق) (22)
2) ومن ذلك: (وصفهم له بأن يده مغلولة) قال - عز وجل - ذاكراً قولهم هذا: (وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء) (23)
3) وصفوه بأنه: (يحزن، ويندم على أفعاله). - تعالى -عن ذلك علواً كبيراً يصفه (سفر التكوين) بذلك فيقول: (ورأى الرب أن بشر الإنسان قد كثر في الأرض، وأن كل تصور أفكار قلبه، إنما هو شرير كل يوم فحزن الرب أنه عمل الإنسان الذي خلقه، الإنسان مع بهائم ودبابات وطيور السماء، لأني حزنت أني عملتهم) (24)
4) ووصفوه: (بالتعب والاستراحة) - تعالى - عن ذلك.
جاء في (سفر الخروج): أذكر يوم السبت لتقديسه، ستة أيام تعمل وتصنع جميع عملك وأما اليوم السابع ففيه سبت للرب إلهك، لا تصنع عملاً أنت وابنك وابنتك وعبدك وأمتك وبهيمتك ونزيلك الذي داخل أبوابك، لأن في ستة أيام صنع الرب الأرض والسماء والبحر وكل ما فيها (25) واستراح اليوم السابع لذلك بارك الرب اليوم السابع وقدسه... )
وفى (سفر التكوين): (فأكملت السموات والأرض وكل جندها وفرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمله فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمله) (26)
وقالو: (بأنه إنسان وصارع يعقوب - عليه السلام - إلى الفجر) ففي (سفر التكوين): (فبقي يعقوب وحده وصارعه إنسان حتى طلوع الفجر، ولما رأى أنه لا قدرة عليه ضرب فخذه فأنخلع حق فخذ يعقوب في مصارعته معه، وقال: أطلقنيº لأنه قد طلع الفجر، فقال: لا أطلقك إن لم تباركني فقال له: ما اسمك؟ فقال يعقوب: وقال: لا يدعى اسمك فيما بعد يعقوب بل إسرائيلº لأنك جاهدت مع الله والناس وقدرت... فدعا يعقوب اسم المكان فينئيل قائلاً: لأني نظرت الله وجهاً لوجه ونجيت نفسي) (27)
6- وصفوه بما يفيد أنه (لا يعلم الغيب ويحتاج علامات يميز بها بنى إسرائيل من غيرهم، فوضع الدم علامة على بيوت بني إسرائيل ليميزها عن بيوت المصريين حتى لا يهلكهم).
ففي (سفر الخروج): (إن الرب كلم موسى - عليه السلام - وقال له فيما قال: فإني اجتاز في أرض مصر هذه الليلة، وأضرب كل بكر في أرض مصر من الناس والبهائم، وأضع أحكاماً بكل ألهة المصريين أنا الرب، ويكون لكم الدم علامة على البيت التي أنتم فيها، فأرى الدم وأعبر عنكم فلا يكون عليكم ضربه للهلاك حين أضرب أرض مصر) ((28)
7) أنهم: جعلوا له أبناء كما أن للمخلوق أبناء جاء في (سفر التكوين): (وحدث لما ابتدأ الناس يكثرون على الأرض، وولد لهم بنات أن أبناء الله رأوا بنات الناس أنهن حسنات فاتخذوا لأنفسهم نساء من كل ما اختاروا) (29)
وحكى الله - عز وجل - عنهم أنهم جعلوا له ابناً فقال: (وقالت اليهود عزيز ابن الله....... ) (30)
ثانياً: - موقف النصارى:
لقد ضلت أمة النصارى في هذا الباب ضلالاً بعيداً، ولعل أمة من الأمم لم تضل في دينها وربها وإلهها كما ضل الذين قالوا إنا نصارى. ولا عجب فالضلالة صفتهم المميزة لهم، كما أخبر بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله: (اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضُلاّل) (31) قال ذلك في تفسير قول الله - عز وجل - (غير المغضوب عليهم ولا الضالين)(32) ولعل من أعظم ضلالهم في باب توحيد الله وصفاته أنهم:
1) شبهوا المخلوق بالخالق:
وأضفوا عليه من الصفات والخصائص مالا يليق إلا بالله - عز وجل -، ولا يصلح إلا له - سبحانه -. فوصفوا المخلوق بصفات الخالق المختصة به، فقالوا: (إنه يخلق ويرزق و يغفر ويرحم الخلق ويثيب ويعاقب) (33) إلى غير ذلك من خصائص الربوبية و خصائص الألوهية التي لا تكون إلا لله - سبحانه -، وذلك أن هذه الأمة الضالة، جعلت المسيح - عليه السلام - هو الله، كما ذكر الله - عز وجل - قولهم هذا وكفَرهم به فقال: (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم.... ) (34)
وتارة جعلوه ابناً لله، - سبحانه وتعالى - عما يقول المبطلون، وعن قولهم هذا يقول الحق- تبارك وتعالى -: (وقالت اليهود عزيز ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون) (35)
وقالوا تارة أخرى: إنه شريك لله وجزء من ثلاثة يتكون منها الإله كما ذكر الله قولهم هذا وكفرهم به أيضاً فقال: (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب اليم) (36)
فألّهوا المسيح - عليه السلام - وجعلوه شريكاً لله، وعبدوه من دونه، بل وصفوه بأخص صفات الألوهية والربوبية من الخلق والرزق والأحياء، والإماتة، وبذلك فارقوا عباد الأصنام والأوثان الذين قالوا في معبوداتهم: (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) (37)، ولم يضيفوا إليها شيئاً من خصائص الربوبية كالخلق والرزق ونحو ذلك، بل أقروا بكل ذلك لله وحده كما قال - عز وجل -: (قل من يرزقكم من السماء والأرض أمّن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون) (38)
(ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون) (39) (ولئن سألتهم مَن نزل مِن السماء ماءً فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولُنّ الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون))(40) (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون) (41)
أما هؤلاء فلئن سألتهم عن شيء من ذلك ليقولُن المسيح، فهو عندهم الإله الخالق المحي المميت، باعث الرسل، ومنزل الكتب، حكى الإمام ابن القيم عنهم أنهم قالوا: \" وليس المسيح عن طوائفنا الثلاثة (هكذا) بنبي ولا عبد صالح، بل هو رب الأنبياء وخالقهم وباعثهم ومرسلهم وناصرهم، ومؤيدهم ورب الملائكة\" (42)
وفي قرارهم الذي قرروه في (مجمع نيقية) (43) الذي عقدوه سنة 325م وسموه بـ (الأمانة) ونصّوا فيه على ألوهية المسيح - عليه السلام -، صرّحوا بأنه هو الذي سينزل للقضاء بين الناس يوم القيامة لمحاسبتهم ومجازاتهم فقالوا: \"وهو مستعد للمجيء تارة أخرى للقضاء بين الأموات والأحياء\" ((44) يقول أحد قساوستهم في رسالة إلى أبي عبيدة الخز رجي (45)، مصرحاً بألوهية المسيح، وأنه خالق السماوات والأرض: \"أما بعد حمد الله الذي هدانا لدينه، وأيّدنا بيمينه، وخصّنا بابنه ومحبوبة، ومدّ علينا رحمته بصلبه المسيح إلهنا، الذي خلق السماوات والأرض، وما بينهن، والذي أمدّنا بدمه المقدس، ومن عذاب جهنم وقانا....... \" (46) وقال مخاطباً أبا عبيدة داعياً إياه للإيمان بألوهية المسيح الخالق: \"وما عقائدكم كلها إلا حسنة، وكان عندكم عدل كثير في أصل دينكم، وخير شامل، فهل آمنتم بالمسيح وقلتم: \" إنه هو الله خالق السماوات والأرض لكمل إيمانكم\" (47) وهكذا نرى النصارى يصفون المسيح - عليه السلام - بصفات الربوبية المختصة برب العالمين - عز وجل -، وهذا أمر انفردوا به من بين العالمين.
ولم يقتصر الأمر على المسيح - عليه السلام -، بل جعلوا لغيره من الخلق بعض صفات الله تبارك وتعالى. فجعلوا مريم - عليها السلام - آلهةº لأنها أم الله بزعمهم، ووصفوها بالجلوس على العرش مع الله - عز وجل -، وسألوها ما لا يُسأل إلا من الله - عز وجل -، يقول الإمام ابن القيم: \"وأما قولهم في مريم! فإنهم يقولون: إنها أم المسيح ابن الله ووالدته في الحقيقة... وإنها على العرش جالسة عن يسار الرب- تبارك وتعالى -والد ابنها، وابنها عن يمينه. قال: والنصارى يدعونها، ويسألونها سعة الرزق وصحة البدن وطول العمر ومغفرة الذنوب\" (48) وهذه الأمور لا يملكها إلا الله - عز وجل - ولا يُسألها إلا هو - سبحانه -. ولقد أشار القرآن الكريم إلى قول النصارى بألوهية مريم في قوله- تبارك وتعالى - مخاطباً عيسى - عليه السلام -: (وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب)(49)
بل خصوا كنائسهم وبابواتهم ومطارنتهم ببعض خصائص الله - عز وجل - كمغفرة الذنوب ودخول الجنة والحرمان منهاº ففي المجمع الثاني عشر من مجامعهم المعقود في سنة 1215/ قرروا: (أن الكنيسة البابوية تملك الغفران وتمنحه لمن تشاء) (50) وبناء على هذا القرار قامت الكنيسة بإصدار ما يُسمّى(صكوك الغفران).
يقول أحد قسسهم في هذا: (وقد جعل الله في أيدي المطارين ما لم يجعله في يد أحد، وذلك أن كل ما يفعلون في الأرض يفعله الله في السماء، فإذا أذنبنا فهم الذين يقبلون التوابات ويعفون عن السيئات بأيديهم صلاح الأحياء والأموات (51) ماذا أبقوا لله - عز وجل -؟
2) ومن ضلالهم في هذا الباب أيضاً أنهم نسبوا إلى الخالق - عز وجل - وتنقّصوه، وذلك من وجهين:
الأول: - قولهم: إنه اتخذ ولداً. حيث قالوا: إن المسيح ابن الله، كما قال - تعالى -: (وقالت النصارى المسيح ابن الله) (52)
وقد نزه الله - عز وجل - نفسه عن اتخاذ الصاحبة والولد فقال: (وقالوا اتخذ الله ولداً - سبحانه - بل له ما في السموات والأرض كل له قانتون) (53)
وقال - سبحانه -: (وقالوا اتخذ الرحمن ولداً لقد جئتم شيئاً إدّا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدّا أن دعوا للرحمن ولداً وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً) ((54)، فأنكر قولهم، ونزه نفسه عن أن يكون له ولد وبيّن - سبحانه - في آية أخرى أن الولد لا يكون إلا من صاحبة، وهو - سبحانه - لا صاحبة له. فقال - عز وجل -: (بديع السموات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم) (55)
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: (أي: كيف يكون له ولد، ولم تكن له صاحبة؟ أي: الولد إنما يكون متولداً عن شيئين متناسبين، والله لا يناسبه ولا يشابهه شيء من خلقهº لأنه خالق كل شيء فلا صاحبة له ولا ولد............ ) (56)
وقد بين - سبحانه - في الحديث القدسي، أن من نسب إليه اتخاذ الولد فقد شتمه وسبه بقوله ذلك. ففي الصحيح عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (قال الله: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فقوله: لي ولد، فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولداً) (57)
الثاني: زعمهم أن الله - سبحانه وتعالى - عن قولهم علواً كبيراً (نزل من السماء وتجسد من روح القدس وصار إنساناً وحبل وولد من مريم البتول وقتل وصلب) (58)
وقال القس القوطي في رسالته إلى أبي عبيدة الخزرجي يشرح فيها مذهبه: (.... فهبط بذاته من السماء منها حجاباً كما سبق في حكمته...... ) (59)
يقول الإمام ابن القيم: (.... إن هذه الأمة أي: النصارى ارتكبوا محذورين عظيمين، لا يرضى بهما ذو عقل ولا معرفة، أحدهما: الغلو في المخلوق، حتى جعلوه شريك الخالق وجزءاً منه، وإلهاً آخر معه، وأنفوا أن يكون عبداً له.
والثاني: - تنقّص الخالق وسبّه ورميه بالعظائم، حيث زعموا أنه - سبحانه -، وتعالى عن قولهم علواً كبيراً نزل من العرش عن كرسي عظمته، ودخل في فرج امرأة وأقام تسعه أشهر يتخبط بين البول والدم و النجو (60) وقد علته أطباق المشيمة والرحم والبطن، ثم خرج من حيث دخل، رضيعاً صغيراً يمص الثدي.....
ثم صار إلى أن لطمت اليهود خديه، وربطوا يديه، وبصقوا في وجهه، وصفعوا قفاه، وصلبوه جهراً بين لصين وألبسوه إكليلاً من الشوك، وسمروا يديه ورجليه، وجرعوه أعظم الآلام، هذا هو الإله الحق الذي بيده أُتقنت العوالم وهو المعبود المسجود له.
ولعمر الله إن هذه مسبة لله - سبحانه وتعالى -، ما سبه بها أحد من البشر قبلهم ولا بعدهم..... )
وذُكِر عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال فيهم: \"أهينوهم ولا تظلموهم فلقد سبوا الله - عز وجل - مسبة ما سبّه إياها أحد من البشر\" (61)
وذكره شيخ الإسلام ابن تيمية من قول معاذ بن جبل - رضي الله عنه - (62)
ثالثاً: موقف المسلمين:
أما هذه الأمة المسلمة فقولها في هذا الباب هو ما جاء به المرسلون من توحيد الله وإفراده بالعبادة.
فآمنت بأنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا إله غيره، ولا رب سواه، هو رب العالمين، وخالق الكون، ومدبره (ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين) (63)
ونزهوه - سبحانه - عن الأنداد، واتخاذ الصاحبة والأولاد، تصديقاً لقوله - تعالى -عن نفسه: (ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون) (64) وقوله: (قل هو الله أحد الله الصمد. لم يلد ولم يولد. ولم يكن له كفواً أحد) (65)، وقالوا كما قال مؤمنو الجن: (وأنه - تعالى -جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا) (66)
ووصفوه - سبحانه - بصفات الكمال والجلال، ونزهوه عن جميع صفات النقص، كما نزهوه عن أن يماثله شيء من المخلوقات في شيء من الصفات..... (67)
ولم يصفوه إلا بما وصف به نفسه - سبحانه -، أو وصفته به رسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، من غير تعطيل ولا تمثيل.
فلم يشبهوا شيئاً من خلقه به، لا في ذاته ولا في شيء من صفاته، ولم يجعلوا له نظيراً أو نداً أو مثيلاً أو شريكاً في شيء من خصائص ألوهيته وربوبيّته كما صنع النصارى بل نزّهوه - سبحانه - عن الشبيه والنظير والكفء والند والمثيل (68)
وإذا تأملت سورة الإخلاص وجدت بها صفات الكمال لله - سبحانه وتعالى -- وهو أنه المنفرد بها وحده دون ما سواه قال - تعالى -: (قل: هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد) (69)
ففي هذه السورة وصف الله - سبحانه - نفسه بأنه أحد صمد، فهذان الوصفان يدلان على اتصاف الله بغاية الكمال المطلق (70)
وذكر أبو هريرة في معنى الصمد \" إنه المستغني عن كل أحد والمحتاج إليه كل أحد) (71)
ومن خلال قول أبي هريرة في معنى الصمد يدل على الإثبات والتنزيه، فالإثبات بوصفه - سبحانه وتعالى - بأنه هو الذي يُصمد إليه أي يُرجع في كل أمر، وذلك لأنه هو المتصف بجميع صفات الكمال، فهو القادر على كل شيء، والفعّال لما يريد والذي بيده الخلق والأمر والجزاء وما من قوة لغيره - تعالى -إلا بهيمنة منه إذا شاء أبقاها ومتى شاء سلبها، فالمرجع والمراد إليه - سبحانه - (72)
وأما التنزيه، فبوصفه - تعالى -بأنه غني عن كل شيء فلا افتقار فيه بوجه من الوجوه، لا في وجوده فإنه الأول الذي ليس قبله شيء وهو الذي لم يلد ولم يولد، ولا في بقائهº فإنه الذي يطعم، ولا في أفعاله فلا شريك ولا ظهير) (73)
كما أن وصفه - سبحانه - بأنه أحد صمد يدل على اتصافه بالكمال المطلق فكذلك يدلان على معنى آخر وهو نفي الولادة والتولد عن الله - سبحانه -، فإن الصمد جاء في بعض الأقوال بأنه لا جوف له ولا أحشاء، فلا يدخل فيه شيء فلا يأكل ولا يشرب - سبحانه وتعالى - كما قال - تعالى -.
(قل أغير الله أتخذ ولياً فاطر السموات والأرض وهو يُطِعم ولا يُطعَم قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونَنّ من المشركين)(74)
وقال - تعالى -: (وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون، ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين) (75)
فإن الأحد هو الذي لا كفؤ له ولا نظير فيمتنع أن تكون له صاحبة.
والتولّد إنما يكون من شيئين.
قال - تعالى -: (بديع السموات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم) ((76)
وفي هذا سلب عن المخلوق مكافأته ومماثلته للخالق ومثال ذلك قوله - تعالى -: (الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون) (77)
أي يعدلون به غيره فيجعلون له من خلقه عدلاً، ومثال هذا قوله - تعالى -: (رب السموات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سمياً) (78) أي لا شيئاً يساميه ولا نداً ولا عدلاً ولا نظير له يساويه، فأنكر التشبيه والتمثيل وبهذا يتبين لنا تنزيهه - سبحانه - عن العيوب والنقائص واجب لذاته، كما دلت على ذلك سورة الإخلاص (79).
----------------------------------------
الهوامش
1- سورة النحل آية 36
2- سورة الأنبياء آية 25
3- سورة المؤمنون آية 23، الأعراف آية 85، 73، 65
4- أخرجه البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء، باب (واذكر في الكتاب مريم) ج6/478
5- فتح الباري(ج6 / 489)
6- تفسير ابن كثير (ج7 / 183)
7- سورة المائدة، آية 48
8- سورة آل عمران آية 19
9- سورة آل عمران آية 85
10- وسطية أهل السنة بين الفرق ص (243، 242)
11- سورة الأعراف آية 138
12- سورة الأعراف آية 139-140
13- سورة الأعراف آية 148
14- سورة البقرة آية 51
15- سورة طه الآيات من 88-85
16- انظر: العهد القديم، سفر الخروج إصحاح 32 فقرة1-6
17- الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (ج3/ 247)
18- هو رحبعام ابن سليمان - عليه السلام - ملك بعد أبية
19- سفر الملوك الأول، إصحاح 12 فقرة 28 - 29
20- إصحاح 18 فقرة 4
21- انظر: الملل والنحل (ج1 / 106) هو أبو الفتح محمد عبد الكريم توفي 48ه
22- سورة آل عمران آية 181
23- سورة المائدة، آية 64
24- إصحاح 6 فقرة 5-8
25- إصحاح 20 فقره 1-17
26- إصحاح 2 فقره 1-2
27- إصحاح 32 فقره (24-30)
28- سفر الخروج، إصحاح 12 فقره 12-13
29- إصحاح 6 فقرة 1-2
30- سورة التوبة آية 30
31- الترمذي: كتاب التفسير، باب سورة الفاتحة (ج5 / 204)
32- سورة الفاتحة آية 7
33- ابن تيمية، الوصية الكبرى، ص 14
34- سورة المائدة آية 17
35- سورة التوبة آية 30
36- سورة المائدة آية 73
37- سورة الزمر آية 3
38- سورة يونس آية 31
39- سورة العنكبوت آية 61
40- سورة العنكبوت آية 63
41- سورة لقمان آية 25
42- هداية الحيارى، ص (269)
43- سمي بذلك، نسبة إلى مدينة نقية من أعمال اصطنبول التي اجتمع بها عدد من علماء النصارى، وكان من إقرارهم القول بإلهية المسيح
44- انظر: الشهر ستاني، الملل والنحل (ج2 / 28)
45- هو أبو جعفر احمد بن عبد الصمد بن أبي عبيدة الخز رجي الساعدي كان مشهوراً بالذكاء والنبل مات بفأس بالمغرب عام 582هـ
46- أبو عبيدة الخزرجي بين المسيحية والإسلام ص (72)
47- نفس المصدر ص (87)
48- هداية الحيارى ص (261)
49- سورة المائدة آية 116
50- أبو زهرة النصرانية، ص 148
51- أبو عبيدة الخز رجي، بين المسيحية والإسلام، ص (91)
52- سورة التوبة من آية 30
53- سورة مريم آية 88- 93
54- سورة الأنعام آية 101
55- سورة البقرة آية 116
56- تفسير ابن كثير (ج3 / 302)
57- البخاري: كتاب التفسير، باب (وقالوا اتخذا لله ولداً... ) (ج8 / 168) رقم 4482
58- انظر: الشهر ستاني، الملل والنحل (ج2 / 28)
59- أبو عبيدة الخز رجي، بين المسيحية والإسلام ص(83 84)
60- النجو: ما يخرج من البطن من ريح وغائط: انظر: لسان العرب (ج15/ 306)
61- إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (ج2 / 278)
62- الجواب الصحيح (ج2 /52)
63- سورة الأعراف آية 54
64- سورة المؤمنون آية 91
65- سورة الإخلاص
66- سورة الجن آية 3
67- منها ج السنة لابن تيمية (ج5 / 169)
68- وسطية أهل السنة بين الفرق ص (258)
69- سورة الإخلاص إلى آية 4
70- علو الله على خلقه بتعرف ص 28
71- تفسير القرطبي (ج2 / 245)
72- علو الله على خلقه بتصرف ص 28، 29
73- علو الله على خلقه بتصرف ص 28، 29
74- سورة الأنعام آية 14
75- سورة الذاريات آية 56-57-58
76- سورة الأنعام آية (101)
77- سورة الإخلاص آية 4
78- سورة الأنعام آية 1
79- سورة مريم آية (65)
- علو الله على خلقه بتصرف ص 28 إلى 34) .
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد