الشرك بتقديس الأشخاص


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 




إن الناظر اليوم في واقع المسلمين، والمتأمل في تاريخهم الماضي يجد تبديلاً وتغييراً في الدين وتعاليمه، من تضييع للسنن، وإحداث للبدع، فنجد أن صوراً كثيرة من صور الشرك قد انتشرت بينهم، حتى صارت ديناً يدين به الجهال ربهم فصاروا من (الأخسرين أعمالاً الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً). ومن أعظم ما أوقع الكثيرين في ذلك هو تقديس الأشخاص وتعظيمهم، وإن شئت فقل: تعظيم الصالحين والكبراء والرؤساء والعظماء، وتقديسهم ورفعهم فوق منزلتهم التي أنزلهم الله إياها، سواء في حياتهم أو بعد مماتهم. ولقد حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه من أن يقعوا في أي نوع من أنواع التعظيم والتقديس المحرمة فيه أو في غيره. ومن ذلك أن معاذ بن جبل رضي الله عنه لما رجع من الشام ورأى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - سجد له فقال صلى الله عليه وسلم: ما هذا يا معاذ؟ قال: يا رسول الله رأيتهم يسجدون لعظمائهم وأنت أعظم منهم وأحق بالسجود! فنهاه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك وزجره وقال: لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها. (رواه أبو داود). وجلس - عليه الصلاة والسلام - يوماً في بيت عائشة وعندها جوارٍ, صغيرات ينشدن الأشعار في يوم عيد، فقالت إحداهن في شعرها: وفينا نبي يعلم ما في غدِ فنهاها النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك. وجاءه - عليه الصلاة والسلام - رجل يوماً فقال: يا رسول الله أنت خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا فقال - عليه الصلاة والسلام -: لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله. رواه البخاري. أيها المسلمون الموحدون: وما نراه اليوم مما تعرضه وسائل الإعلام والفضائيات، أو ما يراه المسافرون إلى بلاد المسلمين في مختلف الأرجاء، من تعظيم للأموات أو دفنهم في الأضرحة أو بناء القبب على قبورهم، كله من وسائل الشرك التي نهى الله ورسوله عنها، بل قد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يرفع القبر فوق شبر، أو يشيد بالرخام أو الجبس أو غير ذلك: روى الإمام مسلم عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته ولا قبراً مشرفاً إلا سويته. وفي صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يموت بخمس وهو يقول: \" ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك\". وقالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي لم يقم منه: \" لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ولولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خُشي أن يتخذ مسجدا \". متفق عليه. أيها الأخوة الكرام: وما عبد قوم نوح الأصنام إلا من تعظيمهم للأشخاص ورفعهم فوق منزلتهم، أتدرون ما ودٌ وسواع ويغوث ويعوق ونسر الذين ظل نوح - عليه السلام - في قومه ألف سنة يدعوهم إلى ترك عبادتها وما أطاعوه؟. قال ابن عباس رضي الله عنه: يغوث ويعوق ونسر كانوا قوماً صالحين من بني آدم، لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابه: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوروا لهم تماثيل، فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس، فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يسقون المطر، فعبدوهم. وهل تدرون ما هو أصل صنم اللات الذي كانت تعبده العرب فيقولون في حلفهم: واللات والعزى؟ اللات رجل كان إذا قدم الحجاج جلس عند صخرة يلت السويق (يعني يعجن العجين) فيطعمه الحجاج ويتصدق به عليهم، فلما مات أرادوا أن يتذكروا عمله الصالح ليقتدوا به - زعموا - فصوروا تمثالاً على صورته ونصبوه عند تلك الصخرة، ثم ما زالت القرون تتابع حتى عبد من دون الله. قال الإمام ابن القيم: ومن أعظم مكايده التي كاد بها أكثر الناس: ما أوحاه إلى أوليائه من الفتنة بالقبور. حتى آل الأمر فيها إلى أن عبد أربابها من دون الله، وعبدت قبورهم وبنيت عليها الهياكل، وصورت صور أربابها فيها، ثم جعلت تلك الصور أجسادا لها ظل، ثم جعلت أصناما، وعبدت مع الله - تعالى -. وقد كان الناس قبل هذه الصور موحدين، قال عكرمة: كان بين آدم ونوح - عليهما السلام - عشرة قرون، كلهم على الإسلام. (إغاثة اللهفان).

فتأملوا - أيها المسلمون - كيف نجَا الناس من الشرك عشرة قرون حتى احتال الشيطان عليهم بهذه الحيلة فجعلهم يعبدون الأصنام. وفئام من المسلمين اليوم إذا مات فيهم الرجل الصالح أو الرئيس لم تطب أنفسهم أن يدفنوه تحت التراب وإنما يبنون له ضريحاً يبالغون في تزيينه ورفعه، وقد يزيدون على ذلك أن يصوروا صورته عنده أو ينصبوا تمثالاً على هيئته، وهذا عين ما كان ولا يزال يفعله اليهود والنصارى، وهو عين ما حذر منه النبي - صلى الله عليه وسلم - عند موته: ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: \" إن أم سلمة - رضي الله عنها - ذكرت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كنيسة رأتها بأرض الحبشة، يقال لها: مارية. فذكرت له ما رأت فيها من الصور. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح - أو الرجل الصالح - بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله - تعالى - \". فجمع في هذا الحديث بين التماثيل والقبور. ولعمرُ الله، من هذا الباب بعينه دخل الشيطان على عباد يغوث ويعوق ونسر، ومنه دخل على عباد الأصنام منذ كانوا إلى يوم القيامة. قال الشيخ حافظ الحكمي - رحمه الله -:

ومن على القبر سراجاً أوقداً *** أو ابتنى على الضريح مسجداً

فــإنه مــجدد جهاراً *** لسنن اليهود والنصــارى

كم حذر المختار عن ذا ولعن *** فاعله كما روى أهل السنن

بل قد نهى عن ارتفاع القبر *** وأن يزاد فيه فوق الشبــر

وكل قبر مشرف فقد أمر *** بأن يسوى هكذا صح الخبر

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وهذه العلة التي لأجلها نهى الشارع عن اتخاذ المساجد على القبور هي التي أوقعت كثيراً من الأمم إما في الشرك الأكبر، أو فيما دونه من الشرك، ومنهم من يسجد لها. وأكثرهم يرجون من بركة الصلاة عندها والدعاء ما لا يرجونه في المساجد. أيها المسلمون الموحدون: وكما أنه لا يجوز أن يبنى على القبور مساجد كذلك لا يجوز رفع القبور أو تزيينها بالرخام أو الجص أو غير ذلك، ولا وضع الأنوار عليها أو السرج والثريات، كل هذا محرم وهو من طرق الشرك: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: \" لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج \" (رواه أحمد وأهل السنن).

فانظر إليهم قد غــلو وزادوا *** ورفعوا بناءها وشــادوا

بالشيد والآجــرِّ والأحجارِ *** لا سيما في هذه الأعصارِ

وللقنــاديل عليها أوقـدوا *** وكم لواء فوقها قد عقدوا

ونــصبوا الأعلام والرايات *** وافتتنوا بالأعظم الرفـات

بل نحروا في سوحها النـحائر *** فعل أولي التسييب والبحائر

والتمسوا الحاجات من موتاهم *** واتخذوا إلههم هــواهـم

والفتنة بالقبور كثيراً ما تدعو صاحبها إلى الشرك ودعاء الموتى، واستغاثتهم، وطلب الحوائج منهم، واعتقاد أن الصلاة عند قبورهم أفضل منها في المساجد. وغير ذلك، مما هو محادة ظاهرة لله ورسوله. ولهذا حكى الله - سبحانه وتعالى- عن المتغلبين على أمر أصحاب الكهف أنهم قالوا: (لنتخذن عليهم مسجداً) وغرهم الشيطان، فقال: بل هذا تعظيم لقبور المشايخ والصالحين. وكلما كنتم أشد لها تعظيماً، وأشد فيهم غلواً، كنتم بقربهم أسعد، ومن أعدائهم أبعد. ولقد بلغ تعظيم المخلوقين عند بعض الناس أن فضلوا بعض الزهاد ومن ظنوا فيهم الصلاح على الأنبياء، بل فضل بعضهم بعض المخلوقين على الخالق جل جلاله كما قال أحدهم لآخر: هل رأيت أبا يزيد البسطامي؟ قال: لا قال: لأن ترى أبا يزيد مرة خير لك من أن ترى الله سبعين مرة ??!! أعوذ بالله.. - تعالى - الله وتقدّس.. ناهيك عما يقع من دعاء هؤلاء المخلوقين والاستغاثة عند شدائد البر والبحر، حتى صار بعض مشركي زماننا أعظم كفراً وإلحاداً من مشركي قريش فأولئك كانوا إذا أصابهم الضر في البحر دعوا الله مخلصين له الدين فإذا نجاهم إلى البر عادوا إلى شركهم، أما مشركو زماننا فهم في الرخاء يدعون الأموات ويتمسحون بالأضرحة، وفي الضراء يستغيثون بالأموات ويستنجدون بالرفات. كما حكى بعض المشايخ أنه كان في سفينة فاشتدت الريح فجأة وتلاطمت الأمواج وخشي من فيها الغرق، قال: فضجّ أكثرهم يتصايحون ويستغيثون بشيخ دفن منذ ستمائة سنة ويقولون: يا عمود الدين ابن عيسى يا سعيد بن عيسى، قال: فلما نهيتهم تصايحوا! وقالوا: وهابي.. وهابي!! وكادوا يلقونني في البحر لأني تعديت على جناب الشيخ.. قال: فلم يلبث الموج أن هدأ وسكنت الريح، فأخذوا يقولون لي: لولا ابن عيسى لكنا في بطون الأسماك!! (م: كيف نفهم التوحيد-باشميل). وحدثنا شيخنا الشيخ عبد الله بن جبرين قال: كنت في عرفات محرماً حاجاً فلما وقفت في عرفات رأيت رجلاً من أهل إفريقية واقفاً بإحرامه وهو يدعوا عبد القادر الجيلاني ويسأله المغفرة والرحمة والشفاعة في ذنوب الخلق، من دون الله، قال الشيخ: فقلت له اتق الله ولا تدعُ غيره، فلما سمع ذلك دفعني بيده وقال: اسكت يا شيبة! فأنا أعتقد عقيدة جازمة أنه لا تنزل قطرة من السماء ولا تخرج نبتة من الأرض إلا بإذن عبد القادر الجيلاني! نعوذ بالله من الخذلان.. نعوذ بالله من الخذلان.. (أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون * ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون *وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون * إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين * ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون * إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين * والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون * وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون). نسأل الله - تعالى - أن يعصمنا جميعاً من كل أنواع الشرك، وأن يحفظ ذرياتنا من ذلك.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply