أو يكفر أحد من أهل القبلة؟!


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 


أيها المسلمون، تعلموا قبل أن تتكلموا، وتكتبوا، وتعترضوا



يستنكر البعض ويستبشع إكفار أهل العلم لمن أكفره الله ورسوله، والإكفار حكم شرعي، فلا يكفر إلا من أكفره الله ورسوله، بنفي ما أثبتاه، أو إثبات ما نفياه، أو أجمعت عليه الأمة، والأمة لا تجتمع على ضلالة، أما العلماء الشرعيون فهم فقط موقعون عن الله ورسوله، ولهذا لا ينبغي أن يخوض في هذا إلا أهل الاختصاص، فقد زلت في هذا الباب أقدام، وضلت أفهام.



من عجيب أمر البعض، سيما بعض إخواننا من الصحفيين والإعلاميين، أنهم يخوضون في هذا الأمر، ويتجرأون على أهل الحل والعقد، ويتهمونهم، هذا مع اعترافهم بأنهم ليسوا علماء، وأنهم ليسوا من أهل هذا الشأن، ولعمري أن هذه لإحدى الكبر.

لهذا يتحتم على أهل العلم تجلية الأمر في مسألة الإكفار هذه بصورة لا تدع مجالاً للشك، وتذهب بالحيرةº على الرغم من أن هذا الموضوع كبير ومتشعب، إلا أنني سأشير إلى أهم جوانبه، فأقول:



أولاً: مذاهب الناس في الإكفار

ذهب الناس أهل القبلة في ذلك مذاهب ثلاثة، وسط وطرفي نقيض. الوسط هم أهل السنة نقاوة المسلمين. وطرفا النقيض من أهل الأهواء، وهم:

الخوارج والمعتزلة من ناحية، والمرجئة من ناحية أخرى.

فبينما نجد الخوارج يكفرون بكل ذنب كبير، والمعتزلة يحبطون كل العمل بالكبيرة، نجد المرجئة منعوا التكفير منعاً باتاً، علماً بأن أهل القبلة فيهم المنافقون نفاق الاعتقاد، وفيهم الزنادقة.

ولهذا فإن أهل السنة توسطوا بين القولين، فقالوا لا يكفر أحد بكل ذنب يرتكبه، ولكن من الذنوب والمعاصي القولية، والفعلية، والاعتقادية، ما يكفر من تعاطى شيئاً منهاº وذلك لأن الدخول في الإسلام والنطق بالشهادتين لا يعني العصمة من الكفر. قال - تعالى -: \"إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعدَ إِيمَانِهِم ثُمَّ ازدَادُوا كُفرًا لَّن تُقبَلَ تَوبَتُهُم وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّآلٌّونَ\". وقال: \"يَحلِفُونَ باللهِ مَا قَالُوا وَلَقَد قَالُوا كَلِمَةَ الكُفرِ وَكَفَرُوا بَعدَ إِسلاَمِهِم\".

لو كان الدخول في الإسلام والنطق بالشهادتين يعصم من الخروج منه لعصم الذين ارتدوا أول الإسلام.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الرسالة السَّنية، وقد ذكر الخوارج ومروقهم من الدين كما يمرق السهم من الرمية: (فإذا كان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه من انتسب إلى الإسلام ثم مرق منه مع عبادته العظيمة، حتى أمر - صلى الله عليه وسلم - بقتلهم، فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام والسنة في هذه الأزمنة قد يمرق أيضاً من الإسلام).

وقال الشيخ بكر أبو زيد: (لا يجوز لمسلم التحاشي عن تكفير من كفرهم الله - تعالى -ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، لما فيه من تكذيب الله ورسوله).

فما تغني كلمة التوحيد عمن أنكر ما هو معلوم من الدين ضرورة؟

قال ابن أبي العز الحنفي في شرح العقيدة الطحاوية: (اعلم أن باب التكفير وعدم التكفير باب عظمت الفتنة والمحنة فيه، وكثر فيه الافتراق، وتشتت فيه الأهواء والآراء.

إلى أن قال: فطائفة تقول: لا نكفر من أهل القبلة أحداً، فتنفي التكفير نفياً عاماً، مع العلم بأن في أهل القبلة المنافقين، الذين فيهم من هو أكفر من اليهود والنصارى بالكتاب، والسنة، والإجماع، وفيهم من قد يظهر بعض ذلك حيث يمكنهم، وهم يتظاهرون بالشهادتين.

وأيضاً فلا خلاف بين المسلمين أن الرجل لو أظهر إنكار الواجبات الظاهرة المتواترة، والمحرمات الظاهرة المتواترة، ونحو ذلك، فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل كافراً مرتداً.

إلى أن قال: ولهذا امتنع كثير من الأئمة عن إطلاق القول بأنا لا نكفر أحداً بذنب، بل يقال: لا نكفرهم بكل ذنب كما تفعله الخوارج، وفرق بين النفي العام، ونفي العموم، والواجب إنما هو نفي العموم، مناقضة لقول الخوارج الذين يكفرون بكل ذنب).

إلى أن قال عن قول الإمام الطحاوي: \"ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله..\" إلخ: (رد على المرجئة، فإنهم يقولون: \"لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الكفر طاعة\"، فهؤلاء في طرف، والخوارج في طرف).

هاتان البدعتان القديمتان، الجديدتان، النقيضان المتلازمتان، أعني ظاهرتي الخروج والإرجاء، من أوائل البدع التي ظهرت في الإسلام، ومن أخطرها، ولهما آثارهما السيئة على الأمة قديماً وحديثاً، فقد ظهرت بدعة الإرجاء كرد فعل لظاهرة الخروج.

كثير من الناس اليوم يحملون أفكار وعقائد هاتين الظاهرتين من غير انتساب إليهما.

وعلى الرغم من خطورة بدعة الخروج، إلا أن بدعة الإرجاء أشد ضرراً منها، وأعظم خطراً من أختها، وكلاهما خطر ومضر.



ثانياً: نوعا الإكفارº الممنوع، والمشروع

وضح لنا أن هناك أقوالاً وأفعالاً واعتقادات كفرية تخرج المرء من حظيرة الإسلام إلى دائرة الكفر، أما المعاصي والذنوب مهما كبرت ما لم يستحلها فاعلها فلا يكفر.

والتفريق بين الذنوب التي يكفر فاعلها وتلك التي لا يكفر متعاطيها أمر عسر، لا ينبغي أن يفتي فيه إلا أهل الحل والعقد من العلماء المتخصصين في هذا الأمر، ولا يحل لأحد أن يخوض في ذلك إن لم يكن من هذا الصنف، وإلا فقد قفا ما ليس له به علم.

ولهذا لابد من إعطاء القارئ الكريم فكرة عامة عن نوعي الإكفار الممنوع والمشروع، وأسباب كل منهما.



أ. الإكفار البدعي المذموم

هو الذي ابتدعه أهل الأهواء من شيعة، وخوارج، وجهمية، وقلة من الجهلة المقلدين من أصحاب المذاهب الفقهية، وهذا هو الذي لا يجوز تعاطيه، ولا التلاعب فيه، ولهذا شدد الشارع والسلف على المقترفين له، المتهاونين فيه، المتجاسرين عليه.

فعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"أيما امرئ قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما، إن كان كما قال وإلا رجعت إليه\".

وعن أبي ذر - رضي الله عنه - يرفعه: \".. من دعا رجلاً بالكفر، أو قال: عدو الله، وليس كذلك إلا حار عليه\".

ولهذا كان ابن عمر - رضي الله عنهما - يرى أن الخوارج شرار الخلق، لتعاطيهم هذا النوع، ولتكفير بعضهم بعضاً لأتفه سبب في البدعة التي ابتدعوها.



أسباب الإكفار البدعي

أسباب الإكفار البدعي كثيرة، ولكن بالاستقراء يمكننا أن نحصرها في الآتي:

1. أن تبتدع طائفة من أهل الأهواء بدعة ما أنزل الله بها من سلطان، ولم تؤثر عن علم من الأعلام، كما فعلت الشيعة، حيث كفروا كبار الصحابة لعدم تنصيبهم لعلي خليفة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك عندما ابتدعت المعتزلة بدعة خلق القرآن، وكفَّرت وقتلت وعذبت من لم يوافقها على باطلها هذا.

2. الإكفار بارتكاب المعاصي الكبائر وقد ابتدعته الخوارج، وجاراهم في ذلك إخوانهم من المعتزلة.

3. الإكفار بسبب البغي والحسد، كالذي أصاب شيخ الإسلام ابن تيمية.

4. الإكفار بسبب التعصب المذهبي.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (والرافضة أشد بدعة من الخوارج، وهم يكفرون من لم تكن الخوارج تكفره كأبي بكر وعمر، ويكذبون على النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة كذباً ما كذب أحد مثله.

إلى أن قال: والخوارج تكفر أهل الجماعة، وكذلك أكثر المعتزلة يكفرون من خالفهم، وكذلك أكثر الرافضة، ومن لم يكفر فسِّق، وكذلك أكثر أهل الأهواء يبتدعون رأياً ويكفرون من خالفهم فيه، وأهل السنة يتبعون الحق من ربهم، الذي جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولا يكفرون من خالفهم فيه، بل هم أعلم بالحق وأرحم بالخلق، كما وصف الله به المسلمين بقوله: \"كُنتُم خَيرَ أُمَّةٍ, أُخرِجَت لِلنَّاسِ\"، قال أبو هريرة: \"كنتم خير الناس للناس\"، وأهل السنة نقاوة المسلمين، فهم خير الناس للناس).



ب. الإكفار الشرعي

كما أن هناك كفراً أكبر مخرجاً من الملة، وكفراً أصغر لا يخرج عن الملة، فهناك كفر مطلق، وكفر مقيد.



الكفر المطلق

هو الكفر بكل ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -.



والكفر المقيد

وهو أن يكفر ببعض الكتاب ويؤمن ببعض، فمن كفر بحرف واحد مما جاء به الله - عز وجل -، أو جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو أجمعت عليه الأمة فقد كفر.

ولهذا كفر الصحابة جاحدي الزكاة وقاتلوهم، هذا مع إقرارهم بالشهادتين، وإقرارهم بالصلاة، والصوم، والحج، وغيرها من الأعمال.

سواء كان كفره عن جحود وإنكار، أو عن إباء وإصرار.



أنواع الكفر الأكبر

الكفر الأكبر قد يكون بالفعل دون الاعتقاد، وقد يكون بالاعتقاد وإن لم يقترن بفعل وقول، كما قد يكون بالقول، وهو خمسة أنواع:

1. كفر تكذيب.

2. كفر استكبار وإباء مع التصديق: \"فَإِنَّهُم لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجحَدُونَ\".

3. كفر إعراض.

4. كفر شك.

5. كفر نفاق.

قال ابن القيم: (وأما الكفر الأكبر فخمسة أنواع: كفر تكذيب، وكفر استكبار وإباء مع التصديق، وكفر إعراض، وكفر نفاق).



إكفار المعين

الإكفار يصح أن يكون عاماً، تقول: من قال كذا، أو اعتقد كذا، أو فعل كذا مما هو كفر بواح فهو كافر.

وكذلك يصح أن يطلق الكفر على المعين إذا تعاطى سبباً من أسبابه المعلومة من الدين ضرورة، ولا حرج في ذلك البتة، بل كل الحرج في عدم إكفار من أكفره الله ورسوله إذا توفرت الشروط، وهي:

البلوغ. والعقل. وانتفت الموانع، وهي:

الجهل. والخطأ. والإكراه. والتأويل أوالشبهة، والمراد بالتأويل المستساغ، وليس كل تأويل.

قال الشيخ العثيمين - رحمه الله - في جواب عن سؤال: (هل يجوز أن يطلق على شخص بعينه أنه كافر؟ فأجاب: نعم، يجوز لنا أن نطلق على شخص بعينه أنه كافر إذا توفرت فيه أسباب الكفر).

وقال الشيخ بكر أبو زيد -متع الله المسلمين بصحته-: (.. مع العلم بأن الحكم بكفر المعين المتلبس بشيء من هذه النواقض المذكورة موقوف على توافر الشروط وانتفاء الموانع في حقه، كما هو مقرر معلوم).

العبرة ليست في إكفار المعين أو عدم إكفاره، وإنما العبرة هل هذا المعين تعاطى أسباب الكفر أم لم يتعاطاها؟ هل هو جاهل؟ هل هو حديث عهد بالإسلام، هل هو مخطئ في اجتهاده إن كان من أهل الاجتهاد، أما إن كان من أهل الأهواء فلا ينظر إلى ما صدر منه. فالإكفار حكم شرعي، والحكم الشرعي قد يكون مطلقاً وقد يكون معيناً. ولو كان المجال يتسع لمثلنا لذلك من أقوال السلف.



نواقض الإسلام

هنالك نواقض للإسلام توصل إليها أهل العلم بالاستقراء، تتلخص في الآتي:

1. نفي ما أثبته الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -.

2. إثبات ما نفاه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -.

3. الأمر بما نهى عنه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -.

4. النهي عما أمر به الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -.

وتتلخص هذه الأسباب في جملة واحدة، هي: إنكار ما هو معلوم من الدين ضرورة.

5. الاستهزاء بأي أمر من أمور الدين، صغيراً كان أم كبيراً.



من لم يكفر من أكفره الله ورسوله فقد كذب الله ورسوله

هذه النواقض جزء كبير منها حققه الترابي في شخصه كما بين العلماء ذلك في فتاويهم، سيما الاستهزاء والسخرية بالدين، متمثلة في استهزائه وسخريته بالأنبياء والرسل، وانتقاصه للصحابة، وسبه وشتمه للعلماء، بل استهزائه وسخريته بركن من أركان الإسلام وهو الحج، حيث قال ساخراً من الطواف والسعي، وناقل الكفر ليس بكافر: \"ماشين.. جايين.. يرمون الشيطان\" (!!).



فمن تعاطى سبباً بل أسباباً كثيرة من هذه النواقض، وأتى بما هو مخالف للدين ضرورة، فلم يكفر، فقد كذب الله ورسوله.

ولهذا من نواقض الإسلام المتفق عليها: \"من لم يكفر الكافر، أوشك في كفره، أو صحَّح مذهبه، فقد كفر\".

اللهم هل بلغت؟ اللهم فاشهد.



وفي الختام أتوجه بهذه الكلمات للعلماء الشرعيين في داخل السودان وخارجه، أن يقوموا بواجب البيان والنصح للأمة، وليحذروا المجاملة، والمداهنة، والخوف، وليعلموا أن سكوتهم، بل تبرير البعض لهذه الكفريات، جريمة لا تغتفر، وأن الساكت عن ذلك شيطان أخرس، وهو متوعد أن يلجمه الله بلجام من نار يوم القيامة، وليعلم أن عذاب الله أشد وأبقى.

ورحم الله الإمام أحمد عندما قال: إذا سكتٌّ أنا وسكتَّ أنت فمن للحق؟

وليعلموا أنه لا تزال طائفة من هذه الأمة مدافعة عن دينها، وذابة عن حياضه، لا يضرهم تخذيل المخذلين، ولا مخالفة المخالفين، ولا تجمع حزب الشيطان الرجيم.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والخسران المبين على المخذلين، والمثبطين، والخائفين، وصلى الله وسلم على المبعوث رحمة للعالمين.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply