الإرشاد والإيمان والنفاق


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 




المؤمن يعلّم الفضيلة ويلقّنها باسم الحق والحقيقة في المجتمع الذي يعيش فيه بدءأً من أقرب الدوائر إليه، وهذه نتيجة ضرورية لإيمانه، إذ سلامة المسلمين من يده ولسانه تولد هذه النتيجة، ومن جهة أخرى فالمؤمنون كالجسد الواحد كما ورد في الحديث الشريف، فإذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، ومن المعلوم أن سلامة كل عضو من النقص والعوز تولد سلامة الجسد كله، لذا فهو أمر فطري وطبيعي جداً أن يهتم المؤمن بهموم المؤمنين فيتألم بآلامهم، وينشرح بسرورهم، ويسعد بسعادتهم، أليسوا أعضاء جسد واحد؟ وبالأخص إن كان هذا التألم والسرور يتعلق بالعالم الأخروي الأبدي، فكيف يظل المؤمن غير مبال بذهاب أخيه إلى الجنة أو إلى النار؟ لذا فإن قيام المؤمن بالواجب المقدس أي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تجاه أخيه المؤمن صفة ملازمة له، ولأجل هذا المعنى يشير القرآن الكريم بقوله - تعالى -: (وَالمُؤمِنُونَ وَالمُؤمِنَاتُ بَعضُهُم أَولِيَاءُ بَعضٍ, يَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَيَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[التوبة: 71].

نعم المؤمنون ذكراناً وإناثاً بعضهم أولياء بعض، ومقتضى هذه الموالاة هو الأمر بالمعروف أي الذي يراه الله حسناً، والنهي عن المنكر وهو ما يراه الله قبيحاً.. وفي الحقيقة لا يتعامل المرء مع وليّه بغير هذا التعامل.

والمهم هو ألاّ ينسى المؤمن نفسه في أثناء قيامه بهذا العمل أي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ عليه أن يحقق الإسلام أولاً في نفسه، حتى يجعله جزءاً من طبعه وخلقه، فيقيم صلاته بإتقان، ويؤتي زكاته على أفضل وجه، أي يطيع الله ورسوله - صلى الله عليه و سلم - في كل شأن من شؤونه، فإذا ما أصبح كل فرد في المجتمع على هذه الصورة فالمجتمع بدوره ينتظم، وعندها تحتضنه الرحمة الإلهية بكل سعتها ويكلأ أفراده في كنفه - سبحانه - فينبعث جو رحماني في ذلك المحيط.

وتجاه هذا النمط السامي للمجتمع وهذه النماذج الفريدة الخالصة للمؤمنين يصور القرآن الكريم المنافقين كالآتي:

(المُنَافِقُونَ وَالمُنَافِقَاتُ بَعضُهُم مِن بَعضٍ, يَأمُرُونَ بِالمُنكَرِ وَيَنهَونَ عَنِ المَعرُوفِ وَيَقبِضُونَ أَيدِيَهُم نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُم إِنَّ المُنَافِقِينَ هُمُ الفَاسِقُونَ)[التوبة: 67].

وكما يبدو لا يستعمل القرآن الكريم كلمة \"الولي\" للمنافقين، بل يخبر أن (بَعضُهُم مِن بَعضٍ,)، لأن الولاية لا وجود لها بين المنافقين، إذ المنفعة هي الرابطة الوحيدة التي تربطهم، فلو أصابت منافعهم بضرر طفيف إذا بصراع حاد يدبّ فيما بينهم، فالآية الكريمة: (بَعضُهُم مِن بَعضٍ,) تظهر حالتهم النفسية بأنهم خبثاء كلهم.

وصفة أخرى يشتركون فيها هي: أنهم (يَأمُرُونَ بِالمُنكَرِ) بما ينشرون من نشريات مبتذلة خليعة، ويلقنون باستمرار الفساد، فيستحوذون بها على الشباب استحواذ التنويم المغناطيسيº فينقاد الناس لأوامرهم، حيث إن وسائل الإعلام والإعلانات قوية إلى درجة تؤثر في الإنسان، فالذين زاغت عقولهم وغشيت أبصارهم وسطاء وعملاء وآلات بيد المنافقين لا ينفكون عنهم، فلا يدعون خبثاً ولا فساداً لعيناً إلاّ واقترفوه لأجل إدامة قواهم الاستغلالية، ولأنهم منافقون، فهم يُعرفون حالاً بصفتهم المميزة هذه أينما كانوا في العالم، حيث إنهم يأمرون الناس بالمنكر، وينهونهم عن المعروف.

نعم، الصفة المشتركة الثانية لهم هي: أنهم \"يحولون دون المعروف ويمنعون الحسنة\"، حيث يسعون لجعل المجتمع تحت سيطرتهم النفسية بوصمهم كل من يريد العيش الفاضل \"إنه متخلف رجعي\"، فكل مصلّ وصائم متخلف رجعي في نظرهم، والزي المميز للنساء وما يغطي رؤوسهن علامة رجعية مرعبة، وإشارة شؤم لهم، وإذا ما تطرقت إلى محبة الأمة فإذن أنت قومي متطرف في نظرهم.. وهكذا.

نعم كل جميل وحسن منكر وقبيح عندهم، حتى كأنهم مصابون بمرض حساسية مفرطة تجاه كل ما هو معروف لدى الأمة، وهذا من مقتضى النفاق الذي هو الدرك الأسفل الذي يسقط فيه من لم يتكامل ظاهراً وباطناً، كما يعبّر عنهم القرآن الكريم، بل يجسّم القرآن الكريم صورتهم واضحة بقوله: (بَل هُم أضَلّ)[الأعراف: 179].

وعلى هذا الأساس ينبغي على المؤمنين أن يقوا أنفسهم من التورط في السقوط في هذا الدرك الأسفل بأدائهم مسؤولياتهم على وجهها، وذلك بأمرهم بعضهم البعض بالمعروف، والحث عليه، ونهيهم عن المنكرات والسعي عن التخلي عنها، فكما أنهم يتجنبون ويخشون السقوط في هاوية النفاق عليهم أن يخشوا كذلك من مثل هذه العاقبة لأصدقائهم وأحبابهم، وعليهم أن يكونوا يقظين ويجعلوا المجتمع الذي يعايشونه في حالة متيقظة أيضاً، نعم، إن هذه الميزات لا تنفك عن كونهم مؤمنين كما ذكرنا آنفاً.

وفي الحقيقة لأجل إقامة مجتمع سعيد آمن ينبغي عدم إفساح المجال لأصغر منكر، وبخلافه فإن ما يبدو صغيراً في بادئ الأمر ينتشر في وقت قصير جداً، ويستشري كالوباء الساري إلى حد قد يهدد المجتمع بكامله، وأحياناً الأمة قاطبة، بل الإنسانية جميعاً، فيهددهم بالفناء والتعاسة، وما دبّ الفساد والانحراف في المجتمع إلاّ من مستصغر المنكراتن، فلو ألقينا نظرة إلى التاريخ من هذه الزاوية نرى كثيراً من فساد المجتمعات وتفسخها نتيجة لتكرر الأمر نفسه، والحديث الشريف الذي سنورده مهم جداً من حيث التحليل التاريخي لمثل هذه المجتمعات المتفسخة:

(إِنَّ أَوَّلَ مَا دَخَلَ النَّقصُ عَلَى بَنِي إِسرَائِيلَ كَانَ الرَّجُلُ يَلقَى الرَّجُلَ فَيَقُولُ: يَا هَذَا اتَّقِ اللهَ وَدَع مَا تَصنَعُ فَإِنَّهُ لا يَحِلٌّ لَكَ!! ثُمَّ يَلقَاهُ مِن الغَدِ فَلا يَمنَعُهُ ذَلِكَ أَن يَكُونَ أَكِيلَهُ وَشَرِيبَهُ وَقَعِيدَهُ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ ضَرَبَ اللهُ قُلُوبَ بَعضِهِم بِبَعضٍ,، ثُمَّ قَالَ: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابنِ مَريَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَكَانُوا يَعتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَونَ عَن مُنكَرٍ, فَعَلُوهُ لَبِئسَ مَا كَانُوا يَفعَلُونَ * تَرَى كَثِيراً مِنهُم يَتَوَلَّونَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئسَ مَا قَدَّمَت لَهُم أَنفُسُهُم أَن سَخِطَ الله عَلَيهِم وَفِي العَذَابِ هُم خَالِدُونَ * وَلَو كَانُوا يُؤمِنُونَ بِالله وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزلَ إِلَيهِ مَا اتَّخَذُوهُم أَولِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنهُم فَاسِقُونَ )[المائدة 78-81].

ثم قال رسول الله - صلى الله عليه و سلم -: (كَلاّ وَالله لَتَأمُرُنَّ بِالمَعرُوفِ، وَلَتَنهَوُنَّ عَن المُنكَرِ، وَلَتَأخُذُنَّ عَلَى يَدَي الظَّالِمِ، وَلَتَأطُرُنَّهُ عَلَى الحَقِّ أَطراً، وَلَتَقصُرُنَّهُ عَلَى الحَقِّ قَصراً)[1].

هنا عندما يذكر موقف قسم من بني إسرائيل الذين أجازوا المنكر، يجنّب المؤمنين من مغبة العاقبة نفسها، وينبّهون إلى عدم السقوط في الهاوية نفسها، ولاشك أن ذكر أمثال هذه الحوادث هو لبيان قسم من الحكم لكل زمان.

ويمكن أن نحلل الحادثة نفسها كالآتي:

لقد شوهد منكر مرتكَب، فالذي نبّه مرتكِب المنكر هو في الحقيقة ينكر ذلك المنكر ويعارضه.. وقد نبّه المرتكِب في اليوم الأول، ولكن مثل هذا الأمر الذي يتطلب الدوام والثبات، لم يتصرف وفقه قط، إذ لم يتمكن من أن يحافظ على حيويته الروحية ومعنوياته تجاه إصرار مرتكب المنكر على منكره، بل تقرّب إليه وجالسه وواكله وسامره مديماً صداقته معه، أي لم يستطع أن يحرك ساكناً بإظهار البغض في قلبه الذي ما بعده من حبة خردل من الإيمان، ولما لم يبق تجاه ذلك المنكر ما يقاومه فقد تهيأ له وسطاً ملائماً لينتشر في المجتمع، والله - سبحانه - جعل قلوبهم مختلفة حتى ألقى فيما بينهم منازعات داخلية، ومزّقهم شر ممزق.

نعم، إن الله - سبحانه وتعالى - قد ألقى في قلب اليهود النفاق بجعله موافقاً لقلب صاحب المنكر، ولم يبق من صنوف التعذيب وأنواع الهوان والذل إلا سامهم بها عالم النصارى في حقبة من أحقاب التاريخ، ومن قبل عاشوا حياة الأسرى طوال عصور في بابل، وقبل ذلك في فترة أخرى ذاقوا صنوف التنكيل والعذاب في عهد \"شابور\"، وهكذا لم يجدوا الراحة والأمان في أي وقت كان، والسبب الوحيد الذي أرداهم إلى هذه الحالة هو تركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما بينهم، فانتعشت فتن التفرقة والاختلاف في قلوبهم، بل كانوا يتزعزعون من الأساس بين حين وآخر.

فالرسول - صلى الله عليه و سلم - عندما يذكر هذه الحالة عن بني إسرائيل يبين في الحقيقة للأمة ما ينبغي القيام به مقدماً لئلا تجد العاقبة نفسها، ويعلّم كيفية الحيلولة دون التفكك والانهيار الاجتماعي.

ولما كنا قد وصلنا إلى هذا الموقف أود أن أبين بعض النقاط التي ألحظ فيها فائدة وهي خارج الصدد:

إن بني إسرائيل كما هو لدى البعض لم يحققوا الاتفاق والتوحد حتى في زمن سيدنا موسى - عليه السلام -، ولهذا كانوا يؤدَّبون دائماً، فلئن كان اليهود ظاهرين في الوقت الحاضر ويعدّ هكذا فلابد أنه نتيجة اتفاقهم الظاهر ناشئ من التمسك والاعتزاز بقيمهم التاريخية، حتى حقق لهم إنشاء دولة بشكل من الأشكال، فلو ابتعدوا عن قيمهم التاريخية، وانشغلوا بالمنازعات الداخلية فلا مناص من الانهيار المحتم، نعم، إن بني إسرائيل اليوم واليهود يجنون ثمرات احترامهم لدين سماوي رغم أنه مفتوح من حيث بعض جوانبه للتصحيح والتجديد.

وإن العالم الإسلامي اليوم مضطرب مما فيه من أمراض وعلل وفقر إلى حد البؤس، فلابد له من انتفاضة ورجوع إلى ذاته، فروحه يكابد الذل، وعقله يعاني من القصور والضعف، وأعضاؤه تضطرب من العلل والأسقام، فلئن لم يسعف عاجلاً، ويضمد فوراً فلربما يتدهور أكثر فأكثر، وحينما يتداوى لابد أن يُعلم في أثناء التداوي والضماد أن رسالته تحيط الكائنات برمتها، وحينها يحتضن الإسلام - بإذن الله - جميع أمم الأرض ناشراً المحبة والوئام والوفاق، ونافثاً روحاً جديدة في العالم أجمع.

إن حوادث كثيرة تدل على أن شعار الإيمان هو أداء مهمة الدعوة والإرشاد، وسأفتتح هذا الفصل بإحدى تلك الحوادث، هذه الحادثة متعلقة بسيدنا أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -:

قام أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - فحمد الله وأثنى عليه، وقال: أيها الناس، إنكم تقرأون هذه الآية: (يَاأَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيكُم أَنفُسَكُم لا يَضُرٌّكُم مَن ضَلَّ إِذَا اهتَدَيتُم إِلَى الله مَرجِعُكُم جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُم تَعمَلُونَ)، وإنكم تضعونها على غير موضعها، وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه و سلم - قَالَ: (وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَتَأمُرُنَّ بِالمَعرُوفِ وَلَتَنهَوُنَّ عَن المُنكَرِ أَو لَيُوشِكَنَّ الله أَن يَبعَثَ عَلَيكُم عِقَاباً مِنهُ ثُمَّ تَدعُونَهُ فَلا يُستَجَابُ لَكُم)[2] ولا تعني الآية الكريمة: لا تلتفتوا إلى الآخرين، وانكفئوا على أنفسكم، بل المراد منها هو خلاف هذا المفهوم، وهو: أنكم إذا تباحثتم عن ضلال الآخرين وزلاّتهم لا تنسوا أنفسكم، أي أن في الآية حثاً على محاسبة الفرد لنفسه، وسيدنا أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - هو أحد الذين أدركوا هذا المعنى على أفضل وجه فروى حديث رسول الله - صلى الله عليه و سلم - دليلاً على فهمه الصائب للآية الكريمة، وهناك أحاديث كثيرة في هذا الباب نسجل هنا بعضها:

روى الترمذي في حديث عن رسول الله - صلى الله عليه و سلم - أنه قال:(وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَتَأمُرُنَّ بِالمَعرُوفِ وَلَتَنهَوُنَّ عَن المُنكَرِ أَو لَيُوشِكَنَّ الله أَن يَبعَثَ عَلَيكُم عِقَاباً مِنهُ ثُمَّ تَدعُونَهُ فَلا يُستَجَابُ لَكُم)[3]، وروى الترمذي أيضاً حديثاً ضعيفاً هو الحديث السابق مع زيادة الآتي: (أو ليسلطن الله عليكم شراركم ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم)[4]

الشرار هم الحثالات والرعاع الذين لا يفهمون شيئاَ من الأعمال وشؤون الإدارة، ولا يعلمون شيئاً عن الدين والتدين، ولا يؤمنون بكتاب أو نبي، فيسخرون بالمقدسات المعروفة كلها ولا يقدرونها حق قدرها، ولم يسلطهم الله على أمة من الأمم أو دولة من الدول إلاّ خابت وما أفلحت، فصنف من أصناف ذلك العقاب هو تسلط الأشرار على الأمة وتوليهم أمرها بالقوة والقهر، حتى غدا هذا العقاب عقاباً عادلاً استحقه المسلمون، ذلك لأن الله - سبحانه - يمهل ولا يهمل قط، فيؤخر ويؤجل عقاب عدم الإيفاء بمهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن ما إن يحين موعد العقاب حتى يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، وفي هذه الأثناء لو ملأ الأخيار والأبرار المساجد وتضرعوا إلى الله بدموع غزيرة ساخنة حتى ابتلت سجاجيدهم بها وقاموا بهذا إلى الفجر فلا يُرفع عنهم هذا العقاب ولا يفلتون منه إلاّ باكتمال مدته، وهذا قانون إلهي لا يحيد ولا يتبدل في أي زمان.

ولو بسطتم هذه العبارات كحقيقة في واقع الحياة وعلى جميع وحداتها تروا أن الأمر نفسه لا يختلف منذ القدم، فحالنا اليوم ما هو إلاّ بضعة أجزاء من هذه الدورة التاريخية المتكررة.

فالأدعية المرفوعة والتضرعات والزفرات الصاعدة والدموع المنهمرة في المناجاة في المساجد إن لم تجد القبول عند ذي العرش العظيم، فكيف إذن يمكننا أن نوضح الأمر إلاّ بأنه كفارة لذنب قد ارتكب، هذا الذنب هو الذي أكّدنا عليه كثيراً وهو إهمال القيام بمهمة مقدسة أو على الأقل عدم إيفاء حقها من الأداء.

نعم، لقد جعَلنا هذا الذنب مقطوعي الصلة بربنا، إذ إن غاية وجودنا هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد خلقنا ربٌّنا لأجل هذا الأمر، ولاسيما الداعين إلى الحق، الذين نذروا أنفسهم في سبيل الحق، أولئك العشاق الذين لا يجعلون غاية سعيهم في الدنيا حتى الجنة، بل لو استطاعوا ووجدوا فرصة لبلّغوا هناك كذلك عن ربهم، ودعوا إليه مفضلين هذا الأمر على نعم الجنة الأخرى، أولئك الذين يحملون أرواحاً سامية يفضلون دخول جهنم دون تردد إن أمكن للتبليغ حتى لزبانيّها، نعم فلئن أهمل هؤلاء غاية وجودهم تلك المهمة الجسيمة.. فهذا يعني أن البلايا والمصائب قد استأذنت بالنزول على الدنيا، وليس بعد ذلك ما ينبغي أداؤه إلا الدعاء، والله أعلم بجدوى الدعاء، لأن الإصابة بهذه الحالة توجه تام نحو الفناء من زاوية، ومثل هذا اليوم يوم عصيب، حيث أسدلت فيه الرحمة نقاباً على وجهها، ورفع الغضب لثامه عن وجهه، بمعنى أنه قد ابتلي ببلاء جارف لا رجعة له.

وإذا استطعتم أن تنظروا إلى هذا الوضع المزري للعالم الإسلامي تروا في هذه المرآة ما ذكرناه آنفاً الواحد تلو الآخر.

نعم، إذا نظرتم إلى التاريخ سترون كيف أن أمة عظيمة عريقة قد دفعت إلى هاوية سحيقة، ولوليتم فراراً من المنظر الرهيب، فالأجيال أصبحوا مقطوعي الصلة بالله ورسوله وكتابه حتى ضلوا ضلالاً بعيداً، فقد نزع عنهم الروح والقلب، وغدوا خلقاً عجيباً ليس لهم إلا المعدة والأمعاء، من دون رأس ولا رئيس.

هذا الجمع من الشعوب العريقة دون حظ ولا سعد يكابدون ويعانون تحت مخالب القوى السرية الأجنبية، ولا يجدون الخلاص والفكاك منها، ترى ماذا حل بالأدعية المرفوعة في الكعبة المشرفة؟ لِمَ لا تسعف الدموع التي تسكب في المساجد؟ ذلك لأن كفارة ذلك الذنب ليست هذه، فلقد حلّت بنا هذه الطامة بتركنا وظيفة جليلة، ولنأت البيوت من أبوابها، فالخروج من الهاوية السحيقة هو من موضع السقوط فيها، ولئن أدينا تلك المهمة على وجهها نجونا من هذه الحالة الرهيبة - بإذن الله تعالى -، ولهذا فالأدعية المرفوعة بالألسنة لا تجدي وحدها مع أن لها فوائد أخروية للداعي بلا شك، ولكن النجاة من الذل والهوان في الدنيا ليس إلاّ بأداء مهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أفضل أداء.

وكما ذكرنا سابقاً يمكن أن يكون في الجماعة والمجتمع أشخاص أفاضل كثيرون، ويمكن أن يكونوا مقربين إلى الله، ولكن إن لم يكن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يؤدّى، ولم تؤسس مؤسسات لتوفي هذه المهمة حقها بصورة منظمة، فالله - سبحانه وتعالى - يجعل ذلك المجتمع عاليه سافله، وهيهات أن يحظى ذلك المجتمع أو تلك الأمة بدوام البقاء.

نعم إن الله - سبحانه وتعالى - لا يؤاخذ الجميع لذنب ارتكبته ثلة منهم، فلا يؤاخذ المجتمع بما يرتكبه المترفون الضالون، إلاّ أن القادرين على القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إن لم ينطلقوا إلى الميدان فالعذاب يحيط بالجميع.

يروي أحمد بن حنبل حديثاً شريفاً حول هذه القضية: (إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوا المُنكَرَ فَلَم يُنكِرُوهُ أَوشَكَ أَن يَعُمَّهُم الله بِعِقَابِهِ)[5]، والأمر نفسه تبينه الآية الكريمة الآتية:(وَاتَّقُوا فِتنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُم خَاصَّةً وَاعلَمُوا أَنَّ الله شَدِيدُ العِقَابِ)[ الأنفال: 25].

______________________

[1] أبو داود، الملاحم، 17º ابن ماجة، الفتن20.

[2] الترمذي، الفتن 9º المسند 5/388

[3] الترمذي، الفتن 9º المسند 5/388

[4] الهيثمي، مجمع الزوائد، 7/266

[5] المسند 1/25º أبو داود، الملاحم 17

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply