مسائل في النفاق ( أنواعه وحكمه )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله وصحبه أجمعين:

هذه ورقات في أنواع النفاق وحكمه، لأن هذا اللفظ من ألفاظ الشرع، وإذا كان اللفظ كذلك فإنه يجب رد العلم به إلى الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولفظ النفاق من أعظم الألفاظ الشرعية التي يجب العلم بها، ومثله لفظ الكفر والإيمان، والخطأ في فهم هذه الألفاظ يوقع صاحبه في الجهل بما قاله الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وقد رأينا من كان سكوته خيراً من كلامه يزعم أن من ترك حكم الله - تعالى - واستبدل به شرائع الباطل الكافرة أنه منافق وليس بكافر، ثم يستطرد بأن الله - تعالى - أمرنا بأن نعامل المنافقين معاملة المسلمين، وذهب هذا - وذهب معه من ذهب - إلى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقم الحد على المنافقين، ولم يقتلهم مع ثبوت النفاق في قلوبهم، وقالوا: هؤلاء كأولئك سواء بسواء، فالواجب علينا - زعموا- أن لا نحكم عليهم بالكفر، ثم لا يجوز قتالهم، بل حكمهم حكم المنافقين زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الموادعة والمسالمة والصبر عليهم.

ثم رأيت ناساً يسمون بعض الناس منافقين، ويصرحون أكثر بأنهم زنادقة، ثم بقليل من الحوار تعلم أنه لا يقصد تكفيرهم، ولا الحكم عليهم بالردة.

بل رأينا من يفتري ويزعم أن المجتمع المدني زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان مجتمع أحزاب متعددة العقائد والأديان، ويستدل على هذا بوجود حزب للمنافقين، وهو حزب ظاهر يعرفه الناس ولا يصادرون حريته.

ورأينا من يفتري ويزعم أن حكم الردة ليس بواجب إلا إذا خرج المرتد عن نظام الدولة الإسلامية بحجة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يقيم الحدود على المنافقين وهم كفار-، فجاز للناس في الدنيا أن يغيروا أديانهم، وقال: ها هو ذا القرآن يقول: (آمنوا ثم كفروا)، ولم يرد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتل واحد منهم.

وقالوا… وقالوا…

فمن أجل هذا ولغير ذلك من الفوائد التي ستراها كان هذا البحث، وسيتبين لك فيه أن الحكم على الرجل بالنفاق في زمننا هو حكم عليه بالردة (1)، ولا يجوز لك ذلك حتى تقام لك الحجة الشرعية على كفر باطنه، ومن المعلوم أن علمك بالشيء ملزم لك وحدك، وملزم لغيرك بالبينة الشرعية التي تقام بها الأحكام.

ثم سيتبين لك أنه إن ثبت في حق رجل حكم النفاق، وأنه يسر كفره ويظهر خلافه، فإن حكمه هو حكم الزنديق، وهو أشد حكماً عند جمهور العلماء من المرتد، إذ يوجبون قتله من غير استتابة، بل لا يقبلون توبته حتى لو فعلها، لأنه لم يفعل سوى أن عاد إلى أمره الذي كان عليه قبل ظهور بينات، وحجج زندقته.

وفي هذا البحث الرد على من زعم أن المنافقين زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد علم الناس نفاقهم، وثبت حكم النفاق عليهم بالبينة الشرعية، ثم ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إقامة الحد عليهم عياذاً بالله - تعالى -، وفيه بيان نوعي النفاق، ويتبين لمن علمها أن أحد نوعيه يمنع ثبوت حكم النفاق عليه لعدم استقراره عليه فيمنع إطلاق الحكم عليه.

تذكرة:

نحن هنا نتكلم عن النفاق الأكبر الذي هو الكفر بعينه كما سيأتي، لا الأصغر وهو الذي يسميه البعض نفاق العمل، ويسمون الأول نفاق الاعتقاد، وهي تسمية عليها كثير من المحترزات، نترك الكلام عليها لموطن آخر، وأهم هذه المحترزات أن النفاق الأكبر يكون من عمل القلب وعمل اللسان، وجزء من عمل القلب هو الاعتقاد، فتسميته بنفاق الاعتقاد يخرج الكثير من صوره، وكذا النفاق الأصغر يكون في القلب واللسان والجوارح، فتسميته بنفاق العمل قصر له على بعض صوره، وليس هذا نفياً لهذا التقسيم بل هو إعادة لترتيبه ترتيباً صحيحاً، قال ابن تيمية: (النفاق كالكفر، نفاق دون نفاق، ولهذا كثيراً ما يقال: - كفر عن الملة، وكفر لا ينقل، ونفاق أكبر، ونفاق أصغر)(2).



النفـاق(3):

النفاق: هو إظهار الإيمان والإسلام وإسرار الكفر(4).

قال الله - تعالى -: ((ومن الناس من يقول آمنا بالله واليوم الآخر وما هم بمؤمنين * يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون* في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون))[البقرة 8 10].

وقال تعالى: ((إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون))[المنافقون 1].

وقال تعالى:((وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤون))[البقرة14].

فهذه الآيات دليل على أن المنافق باطنه على خلاف ظاهره، وهذا هو معنى النفاق في دين الله - تعالى -.

قال عبد الله ابن الإمام أحمد في السنة حدثني وكيع عن الأعمش عن شقيق عن أبي المقدام عن أبي يحيى قال: - سئل حذيفة عن المنافق قال: (الذي يعرف الإسلام ولا يعمل به)(5).

فإن قيل هل المنافقون كفار؟ قلنا: - نعم، فإن قيل: لِمَ لم يقتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قلنا: لأنهم خدعوا المؤمنين، ولم تقم عليهم حجة شرعية بالقتل، فإن قيل ما الدليل؟ قلنا: - اقرأ هذا المبحث:-



كفر المنافق(6)

يشهد لهذا آيات عظيمة في كتاب الله - تعالى - نأتي على بعضها:-

قال الله - تبارك وتعالى -: ((إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون* اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون* ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون))[المنافقون13].

فهذا نوع من النفاق آمنوا ثم كفروا ثم استقر النفاق في قلوبهم، وختم عليها وهو فيه.

قال تعالى: ((إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفراً لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلاً* بشر المنافقين بأن لهم عذاباً أليماً*... إلى قوله تعالى: .. إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيراً* إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجراً عظيماً))[النساء137 - 146].

فهذه الآيات فيها بيان حال جماعة من المنافقين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفراً.

ثم حكمهم أنهم في الدرك الأسفل من النار، والنار دركات، كما الجنة درجات، ومعلوم أن من كان هذا حاله فهو من عتاة الكفار كما قال - تعالى -: ((هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون)).

ثم بين - سبحانه - أنهم لا يدخلون زمر المؤمنين حتى يتوبوا ويصلحوا ما أفسدوا، ويلتزموا حكم الله - تعالى -، ويحسنوا ما في بواطنهم ليوافقوا ظاهرهم… قال تعالى: ((ألم تر إلى الذين تولوا قوماً غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم يحلفون على الكذب وهم يعلمون* أعد الله لهم عذاباً شديداً إنهم ساء ما كانوا يعملون* اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين* لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون* يوم يبعثهم الله جميعاً فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون* استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون))[المجادلة14 - 19].

قوله: ((أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)) لا تقال إلا للكفار.

وقال تعالى: ((وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم))[التوبة 68].

فقد جمع الله المنافقين والكفار في مستقر واحد وهو جهنم فدل على اتحاد أمرهم في الحكم عند الله - تعالى -، وقبلها قال الله تعالى: ((المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون))[التوبة67].

وقوله تعالى: ((إن المنافقين هم الفاسقون)) يشبه قوله سبحانه: ((والكافرون هم الظالمون)) والله أعلم.

واستقصاء هذا يطول، وهذا يكفي لمن أسلم قلبه لله - تعالى-.

ولكن قد يعترض أحدهم بقوله: إن الله جعل المنافقين من المسلمين بقوله: ((قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلاً* أشحة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيراً)) فهؤلاء من المنافقين لم يؤمنوا ومع ذلك قال الله عنهم (منكم).

فيقال له: - إن هذه لا تنافي قوله - سبحانه وتعالى-: ((ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون))[التوبة56].

فإن المنافقين من المسلمين بل من أصحابه - صلى الله عليه وسلم - في الظاهر وليسوا في الباطن إلا مباينين للمؤمنين، فهم في الظاهر منهم وفي الباطن ((هم العدو فاحذرهم)).

\"وجماع الأمر أن الاسم الواحد ينفي ويثبت بحسب الأحكام المتعلقة به\"(7).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) وليس هو حكم آخر يفارق هذا الحكم.

(2) مجموع الفتاوى7/524.

(3)الحديث عن المعنى اللفظي للنفاق موجود في أغلب المراجع التي تحدثت عن النفاق وفي كل معجم، ولا ضرورة هنا لذكره… وقال ابن تيمية: وكما ينبغي أن يعلم أن الألفاظ الموجودة في القرآن والحديث إذا عرف تفسيرها وما أريد بها من جهة النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحتج في ذلك إلى الاستدلال بأقوال أهل اللغة ولا غيرهم. (مجموع الفتاوى7/286).

(4) انظر شرح السنة للبربهاري فقرة44.

(5) ح رقم806 وقال محققه الدكتور محمد سعيد القحطاني: أبو يحيى لم أجد له ترجمة، قلت: هو حبيب بن أبي ثابت، وهو كوفي تابعي ثقة، وسند الحديث صحيح.

(6)هذا الأمر معلوم بيّن، وإنما ذكرته لأننا في زمن العجائب ولن نعدم وجود قوم ينفون ذلك، كما وجدنا ما ينفي كفر اليهود والنصارى، ويسمي كفرهم كفراً أصغراً، فالعجائب لا تنقضي، وقد ذكر ابن تيمية (مجموع الفتاوى7/216) أن بعض المصنفين في الملل والنحل نسب للكرامية (نسبة لمحمد بن كرام السجستاني) القول: إن المنافقين من أهل الجنة، قال: هو غلط عليهم وإنما نازعوا في الاسم لا في الحكم.

(7) مجموع الفتاوى7/ 418.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply