صفات المنافقين وحكمهم


 

بسم الله الرحمن الرحيم



قد يشكل على أهل الغلو في التكفير ما يظهر من قرائن تدل على كفر من يدعي الإسلام، كمن يعارض تطبيق بعض أحكام الشريعة، أو نصر أهل الكفر على أهل الإسلام، أو تثبيط المسلمين عن جهاد أعدائهم الكفار، أو السخرية من علماء المسلمين الذين يدعون إلى تطبيق الإسلام...

والجواب على هذا الإشكال أن من ظهرت منه القرائن التي تدل على كفره كما في الأمثلة السابقة، مع ادعائه أنه باق على الإسلام، هو من أهل النفاق الاعتقادي المخرج من الملة.

وكفر المنافقين أعظم وأشد من كفر من صرح بالكفر، لأن المنافقين في الدرك الأسفل من النار، ولكن إظهارهم الإسلام يجعلهم يأخذون أحكام المسلمين في الدنيا، فيصلون صلاتهم ويحجون حجهم ويزكون زكاتهم، ويتزوجون نساء المسلمين، ويتزوج المسلمون نساءهم، ويخرجون للجهاد مع المسلمين، وتقام عليهم الحدود والقصاص، ويقتص لهم من المسلمين...

وهذا المعنى واضح في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وسيرته المطهرة...

صفات المنافقين في القرآن تدل على كفرهم.

والذي يتابع الآيات التي نزلت في المنافقين، وما جبلوا عليه من ادعاء الإيمان وهم كافرون، وادعاء الإصلاح وهم مفسدون، والاستهزاء بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ووصفهم بالصفات التي هم بها متلبسون، وموالاة أعداء الله الكافرين على أوليائه المؤمنين...

الذي يتابع تلك الآيات يتبين خطرهم وتأكيد شدة كفرهم، وهي كثيرة جدا مبثوثة في كثير من سور القرآن الكريم، وبخاصة السور الآتية:

[البقرة، آل عمران، النساء، الأنفال، التوبة، الأحزاب، محمد، الفتح، الحديد، المنافقون]

وسنقتصر على ذكر بعض تلك الآيات، وندعها تتحدث إلى القارئ عن هذا الصنف الخطير من الكافرين.

قال - تعالى -: ((وَإِذَا قِيلَ لَهُم لا تُفسِدُوا فِي الأَرضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحنُ مُصلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُم هُم المُفسِدُونَ وَلَكِن لا يَشعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُم آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤمِنُ كَمَا آمَنَ السٌّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُم هُم السٌّفَهَاءُ وَلَكِن لا يَعلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوا إِلَى شَيَاطِينِهِم قَالُوا إِنَّا مَعَكُم إِنَّمَا نَحنُ مُستَهزِئُونَ (14) اللَّهُ يَستَهزِئُ بِهِم وَيَمُدٌّهُم فِي طُغيَانِهِم يَعمَهُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشتَرَوا الضَّلالَةَ بِالهُدَى فَمَا رَبِحَت تِجَارَتُهُم وَمَا كَانُوا مُهتَدِينَ (16))) [البقرة]

وقال - تعالى -: ((أَلَم تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزعُمُونَ أَنَّهُم آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَد أُمِرُوا أَن يَكفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيطَانُ أَن يُضِلَّهُم ضَلالاً بَعِيداً (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُم تَعَالَوا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيتَ المُنَافِقِينَ يَصُدٌّونَ عَنكَ صُدُوداً (61) فَكَيفَ إِذَا أَصَابَتهُم مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَت أَيدِيهِم ثُمَّ جَاءُوكَ يَحلِفُونَ بِاللَّهِ إِن أَرَدنَا إِلاَّ إِحسَاناً وَتَوفِيقاً (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِم فَأَعرِض عَنهُم وَعِظهُم وَقُل لَهُم فِي أَنفُسِهِم قَولاً بَلِيغاً (63))) [النساء]

وقال - تعالى -: ((يَحذَرُ المُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيهِم سُورَةٌ تُنَبِّئُهُم بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُل استَهزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخرِجٌ مَا تَحذَرُونَ (64) وَلَئِن سَأَلتَهُم لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلعَبُ قُل أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُم تَستَهزِئُونَ (65) لا تَعتَذِرُوا قَد كَفَرتُم بَعدَ إِيمَانِكُم إِن نَعفُ عَن طَائِفَةٍ, مِنكُم نُعَذِّب طَائِفَةً بِأَنَّهُم كَانُوا مُجرِمِينَ (66) المُنَافِقُونَ وَالمُنَافِقَاتُ بَعضُهُم مِن بَعضٍ, يَأمُرُونَ بِالمُنكَرِ وَيَنهَونَ عَن المَعرُوفِ وَيَقبِضُونَ أَيدِيَهُم نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُم إِنَّ المُنَافِقِينَ هُم الفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ المُنَافِقِينَ وَالمُنَافِقَاتِ وَالكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسبُهُم وَلَعَنَهُم اللَّهُ وَلَهُم عَذَابٌ مُقِيمٌ (68))) [التوبة]

وقال - تعالى -: ((هُنَالِكَ ابتُلِيَ المُؤمِنُونَ وَزُلزِلُوا زِلزَالاً شَدِيداً (11) وَإِذ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (12))) [الأحزاب]

وقال - تعالى -: ((أَلَم تَرى إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخوَانِهِم الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أَهلِ الكِتَابِ لَئِن أُخرِجتُم لَنَخرُجَنَّ مَعَكُم وَلا نُطِيعُ فِيكُم أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلتُم لَنَنصُرَنَّكُم وَاللَّهُ يَشهَدُ إِنَّهُم لَكَاذِبُونَ)) [الحشر (11)]

وقال - تعالى -: ((إِذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ قَالُوا نَشهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشهَدُ إِنَّ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيمَانَهُم جُنَّةً فَصَدٌّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُم سَاءَ مَا كَانُوا يَعمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُم آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِم فَهُم لا يَفقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيتَهُم تُعجِبُكَ أَجسَامُهُم وَإِن يَقُولُوا تَسمَع لِقَولِهِم كَأَنَّهُم خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحسَبُونَ كُلَّ صَيحَةٍ, عَلَيهِم هُم العَدُوٌّ فَاحذَرهُم قَاتَلَهُم اللَّهُ أَنَّى يُؤفَكُونَ (4) وَإِذَا قِيلَ لَهُم تَعَالَوا يَستَغفِر لَكُم رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوا رُءُوسَهُم وَرَأَيتَهُم يَصُدٌّونَ وَهُم مُستَكبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيهِم أَستَغفَرتَ لَهُم أَم لَم تَستَغفِر لَهُم لَن يَغفِرَ اللَّهُ لَهُم إِنَّ اللَّهَ لا يَهدِي القَومَ الفَاسِقِينَ (6) هُم الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنفِقُوا عَلَى مَن عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضٌّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرضِ وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لا يَفقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِن رَجَعنَا إِلَى المَدِينَةِ لَيُخرِجَنَّ الأَعَزٌّ مِنهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلمُؤمِنِينَ وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لا يَعلَمُونَ (8))) [المنافقون]

كيف عامل الرسول المنافقين؟

لقد عامل الرسول - صلى الله عليه وسلم -، المنافقين الذين كان كفرهم أشد من الكفار الصرحاء، معاملة المسلمين في أحكام الدنيا، فلم يفرق بينهم وبين غيرهم من صحابته - رضي الله عنهم -، على رغم أن سيرتهم كانت دالة دلالة لا لبس فيها أنهم يكفرون بالله ورسوله وباليوم الآخر، ولم يكونوا مؤمنين مطلقا.

وبهذا يعلم أن من أظهر الإسلام ودلت القرائن على كفره، لا يعامل معاملة الكفار حتى يكون كفره صريحا...

وقد كان بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يتخذون ما يبدو لهم من القرائن الدالة على خيانة بعض الأشخاص ممن أظهروا إسلامهم حجة على عدم إيمانهم، ويستأذنونه في قتلهم ويصفونهم بالمنافقين لما يظهر لهم من أن نفاقهم نفاق اعتقادي أي إنهم كفار وليسوا بمسلمين.

وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم -، يدافع عمن عرف صدقه وإيمانه ويقبل عذره ويذكر ما له من فضائل، كما في قصة \"حاطب بن أبي بلتعة\" - رضي الله عنه -، الذي كشف في رسالة له سر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عزمه على فتح مكة أرسلها إليهم مع امرأة، وكان - صلى الله عليه وسلم - قد أخفاه ليهاجم قريشا قبل أن يستعدوا لقتاله.

وأظهر الله أمره قبل أن تصل رسالة حاطب إلى قريش، فبعث عليا والزبير والمقداد، فأدركوا المرأة وأخذوا الرسالة منها، وسلموها للرسول - صلى الله عليه وسلم -، فأنكر على حاطب فعله، فاعتذر حاطب بأنه أراد أن يتخذ عند قريش يدا يحمي بها قرابته التي لا يوجد من يحميهم كبقية قرابات قريش ونفى عن نفسه الارتداد عن الإسلام...

فقال عمر: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق.

فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (إنه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله اطلع على من شهد بدرا فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) [صحيح البخاري (4/1557) رقم (4025)

فكأن عمر - رضي الله عنه -، فهم أن حاطبا - رضي الله عنه - يظهر الإسلام ويبطن الكفر، لأن ما فعله لا يصدر من مسلم يؤمن بالله ورسوله، وهو قرينة على كان منافقا في إسلامه... ولم يقره الرسول - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، بل أثنى على حاطب وعذره. وقد روى قصة حاطب بطولها الإمام البخاري وغيره كما سبق، وذكرها المفسرون في تفسير سورة الممتحنة.

وكذلك أنكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - على من رمى \" مالك بن الدخشن\" بالنفاق، واستدل على ذلك بقرينة وهي نصحه للمنافقين، أي لمصلحتهم.

كما في قصة صلاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في مكان من بيت عتبان بن مالك ليتخذه مسجدا، التي رواها محمود بن الربيع - رضي الله عنه -... قال قائل ممن اجتمعوا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أين مالك بن الدخيشن أو بن الدخشن؟ فقال بعضهم ذلك منافق لا يحب الله ورسوله.

فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تقل ذلك ألا تراه قد قال لا إله إلا الله يريد بذلك وجه الله) قال: الله ورسوله أعلم، قال فإنا نرى وجهه ونصيحته إلى المنافقين.

قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (فإن الله قد حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله) [صحيح البخاري (1/164) رقم (415) وصحيح مسلم (1/61) رقم (33)]

أما من دلت القرائن على نفاقه ولم يعلم الرسول - صلى الله عليه وسلم - صدقه، بل قد يترجح له أنه منافق فعلا، فلم يكن - صلى الله عليه وسلم - يدافع عنه ولا يثني عليه، ولكنه لا يقر أحدا على قتله، ويعلل ذلك بأنه قد أظهر للناس أنه من المسلمين، والإسلام يعصم دماء من أظهره وماله، فإذا إذن في قتله ظن الناس أن محمدا يقتل من آمن به...

كما في حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -، قال: كنا في غزاة... فكسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين!

فسمع ذاك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: (ما بال دعوى جاهلية)؟

قالوا: يا رسول الله كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار. فقال: (دعوها فإنها منتنة)

فسمع بذلك عبد الله بن أبي فقال فعلوها؟ أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل.

فبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقام عمر فقال: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق!

فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه) [صحيح البخاري (4/1861) رقم (4622) وصحيح مسلم (4/1998) رقم (2584)]



ويؤخذ مما سبق الأمور الآتية:

الأمر الأول: أن المنافق نفاقا اعتقاديا يعتبر كافرا في الواقع.

الأمر الثاني: أنه لا يعامل في أحكام الدنيا معاملة الكفار، بل معاملة المسلمين، لأنه قد عصم دمه وما له بإعلان إسلامه، وتلك هي الجنة التي ذكرها الله - تعالى -في كتابه: ((اتخذوا أيمانهم جنة)) [الممتحنة (16)]

المنافقون يظهرون الإسلام تَقِيَّة

فإذا ظهر من المنافقين ما يدل على الكفر والردة عن الإسلام، أقسموا الأيمان المغلظة على أنهم مؤمنون، فيتحصنون بذلك من حكم المرتد.

قال الإمام الشافعي - رحمه الله -: ((اتخذوا أيمانهم جنة)) \"يعني والله أعلم من القتل، فمنعهم من القتل، ولم يُزِل عنهم في الدنيا أحكام الإيمان بما أظهروا منه، وأوجب لهم الدرك الأسفل من النار، بعلمه بسرائرهم وخلافها لعلانيتهم بالإيمان\" [أحكام القرآن (1/299- 300)]

الأمر الثالث: جهل من يستحلون دماء وأموال من يظهرون الإسلام فيصلون ويصومون ويحجون، بحجة أنهم معارضتهم لتطبيق شرع الله، مع أن هؤلاء يسلكون سبيل المنافقين في اتخاذهم إظهار الإسلام جنة يتحصنون به من اتهامهم بالكفر...

ومن عجب أن هؤلاء المستحلين لدماء وأموال من يظهر الإسلام ويسلك سبيل المنافقين، ليسوا حكاما للبلدان الإسلامية، بل هم أفراد أو جماعات ليسوا أهل حل ولا عقد، ومع مخالفتهم للرسول - صلى الله عليه وسلم - في أصل الحكم، وهو معاملة من أظهر الإسلام ودلت القرائن على كفره معاملة المسلم في أحكام الدنيا، هم يخالفونه كذلك ويخالفون جماهير علماء الأمة قديما وحديثا في توليهم تنفيذ قتل من لا يشرع قتله، فأحدثوا بذلك على الأمة الإسلامية من الأضرار ما الله به عليم.

وإذا كان الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهو يتلقى الوحي من الله، وكان ولي أمر المسلمين في عهده، لم يقتل المنافقين ولم يأذن بقتلهم، فكيف يستحل غيره قتل من شابه أولئك المنافقين؟

وقد يكون بعض من تظهر عليهم قرائن النفاق، ليس نفاقهم نفاقا عَقَدِيا، بل قد يصدر ذلك منهم عن جهل أو تأويل، وقد يرجعون عن ذلك إذا أقيمت عليهم الحجة...

رأي الإمام الشافعي في المنافقين

وقد بين الإمام الشافعي - رحمه الله - أن المنافقين لا يدخلون في أحكام المرتدين، مع شدة كفرهم، بل تجري عليهم في الدنيا أحكام المسلمين، واستدل على ذلك بأدلة من القرآن والسنة، ومما قاله فذلك ما يأتي:

\" قال الشافعي - رحمه الله -: \"قال الله- تبارك وتعالى -لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون)) إلى ((يفقهون)).

قال الشافعي: فبين أن إظهار الإيمان ممن لم يزل مشركا حتى أظهر الإيمان، وممن أظهر الإيمان ثم أشرك بعد إظهاره ثم أظهر الإيمان، مانع لدم من أظهره في أي هذين الحالين كان، وإلى أي كفر صار كفر يسره أو كفر يظهره، وذلك أنه لم يكن للمنافقين دين يظهر كظهور الدين الذي له أعياد وإتيان كنائس، إنما كان كفر جحد وتعطيل.

وذلك بين في كتاب الله - عز وجل - ثم في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بأن الله - عز وجل - أخبر عن المنافقين بأنهم اتخذوا أيمانهم جنة، يعني والله أعلم من القتل، ثم أخبر بالوجه الذي اتخذوا به أيمانهم جنة فقال: ((ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا.. ))

فأخبر عنهم بأنهم آمنوا ثم كفروا بعد الإيمان كفرا، إذا سئلوا عنه أنكروه وأظهروا الإيمان وأقروا به وأظهروا التوبة منه، وهم مقيمون فيما بينهم وبين الله على الكفر، قال الله - جل ثناؤه-: ((يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم)).

فأخبر بكفرهم وجَحدهم وكذب سرائرهم، وذكر كفرهم في غير آية، وسماهم بالنفاق إذ أظهروا الإيمان وكانوا على غيره، قال - جل وعز -: ((إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا))

فأخبر - عز وجل - عن المنافقين بالكفر، وحكم فيهم بعلمه من أسرار خلقه ما لا يعلمه غيره، بأنهم في الدرك الأسفل من النار، وأنهم كاذبون بأيمانهم، وحكم فيهم جل ثناؤه في الدنيا بأن ما أظهروا من الإيمان، وإن كانوا به كاذبين، لهم جنة من القتل وهم المسرون الكفر المظهرون الإيمان.

وبين على لسانه - صلى الله عليه وسلم -، مثل ما أنزل في كتابه من أن إظهار القول بالإيمان جنة من القتل أقر من شُهِد عليه [بالكفر] بالإيمان بعد الكفر أو لم يقر، إذا أظهر الإيمان فإظهاره مانع من القتل.

وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذا حقن الله - تعالى -دماء من أظهر الإيمان بعد الكفر، أن لهم حكم المسلمين من الموارثة والمناكحة وغير ذلك من أحكام المسلمين.

فكان بينا في حكم الله - عز وجل - في المنافقين ثم حكم رسوله - صلى الله عليه وسلم -، أن ليس لأحد أن يحكم على أحد بخلاف ما أظهر من نفسه، وأن الله - عز وجل - إنما جعل للعباد الحكم على ما أظهر، لأن أحدا منهم لا يعلم ما غاب إلا ما علمه الله - عز وجل -، فوجب على من عقل عن الله أن يجعل الظنون كلها في الأحكام معطلة فلا يحكم على أحد بظن وهكذا دلالة سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث كانت لا تختلف \"

وقال في موضع آخر:

\"قال الشافعي: \"وأخبر الله جل ثناؤه عن المنافقين في عدد آي من كتابه بإظهار الإيمان والاستسرار بالشرك، وأخبرنا بأن قد جزاهم بعلمه عنهم بالدرك الأسفل من النار، فقال: ((إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا))

فأعلم أن حكمهم في الآخرة النار بعلمه أسرارهم، وأن حكمه عليهم في الدنيا إن أظهروا الإيمان جُنَّة لهم، وأخبر عن طائفة غيرهم فقال: ((وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا))

وهذه حكاية عنهم وعن الطائفة معهم، مع ما حكي من كفر المنافقين منفردا، وحكي من أن الإيمان لم يدخل قلوب من حكي من الأعراب.

وكل من حقن دمه في الدنيا بما أظهر مما يعلم جل ثناؤه خلافه من شركهم، لأنه أبان أنه لم يول الحكم على السرائر غيره، وأن قد ولي نبيه الحكم على الظاهر وعاشرهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يقتل منهم أحدا ولم يحبسه ولم يعاقبه ولم يمنعه سهمه في الإسلام إذا حضر القتال، ولا مناكحة المؤمنين وموارثتهم والصلاة على موتاهم وجميع حكم الإسلام وهؤلاء من المنافقين\" [الأم (6/157 (6/166)]



كيف يطبق على المنافقين ما يطبق على المسلمين؟

قلت: قد يشكل على ما سبق من تطبيق أحكام الإسلام على المنافقين، كما تطبق على غيرهم من المسلمين، نَهيُ الله - تعالى -نبيه - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة عليهم بعد أن صلى على رأسهم عبد الله بن أبي بن سلول، كما قال - تعالى -: ((وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ, مِنهُم مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُم عَلَى قَبرِهِ إِنَّهُم كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُم فَاسِقُونَ)) [التوبة ((84))]

كما حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، أنه قال: \"لما مات عبد الله بن أبي بن سلول، دعي له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليصلي عليه، فلما قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وثبت إليه، فقلت: يا رسول الله! أتصلي على بن أبي وقد قال يوم كذا وكذا كذا وكذا أعدد عليه قوله.

فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال: (أخر عني يا عمر) فلما أكثرت عليه، قال: (إني خيرت فاخترت، لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها)

قال: فصلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم انصرف، فلم يمكث إلا يسيرا حتى نزلت الآيتان من براءة: ((ولا تصل على أحد منهم مات أبد)) إلى ((وهم فاسقون))

قال فعجبت بعد من جرأتي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ والله ورسوله أعلم\" [صحيح البخاري (1/459) رقم (1300) ورواه من حديث عبد الله ابن عمر بلفظ آخر (1/ص427) رقم (1210) وهو صحيح مسلم (4/ 1865) رقم (2400)]

وقد أجاب الشافعي - رحمه الله - على هذا الإشكال، بقوله في تفسير الآية:

\"فأما أمره أن لا يصلي عليهم، فإن صلاته بأبي هو وأمي - صلى الله عليه وسلم - مخالفة صلاة غيره، وأرجو أن يكون قضى إذ أمره بترك الصلاة على المنافقين، أن لا يصلي على أحد إلا غفر له، وقضى أن لا يغفر لمقيم على شرك، فنهاه عن الصلاة على من لا يغفر له

قال الشافعي ولم يمنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الصلاة عليهم مسلما ولم يقتل منهم بعد هذا أحدا\" [أحكام القرآن للشافعي (1/297)]

وتوسع في الجواب على هذا الإشكال في \"الأم\":

\"فإن قال قائل فإن الله - عز وجل - قال: ((ولا تصل على أحد منهم مات أبدا)) إلى قوله: ((فاسقون))؟

فإن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مخالفة صلاة المسلمين سواه، لأنا نرجو أن لا يصلى على أحد إلا صلى الله عليه ورحمه، وقد قضى الله إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا.

وقال جل ثناؤه: ((استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم))

فإن قال قائل: ما دل علي الفرق بين صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ نهى عنهم، وصلاة المسلمين غيره؟

فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انتهى عن الصلاة عليهم بنهى الله له، ولم ينه الله - عز وجل - ورسوله - صلى الله عليه وسلم - عنها، ولا عن مواريثهم...

قال الشافعي: وقد عاشروا أبا بكر وعمر وعثمان أئمة الهدي وهم يعرفون بعضهم، فلم يقتلوا منهم أحدا، ولم يمنعوه حكم الإسلام في الظاهر، إذ كانوا يظهرون الإسلام.

وكان عمر يمر بحذيفة بن اليمان إذا مات ميت، فإن أشار عليه أن اجلس جلس واستدل على أنه منافق، ولم يمنع من الصلاة عليه مسلما، وإنما يجلس عمر عن الصلاة عليه لأن الجلوس عن الصلاة عليه، مباح له في غير المنافق إذا كان لهم من يصلي عليهم سواه... \" [الأم (1/259- 260)]

وذكر الحافظ ابن حجر - رحمه الله - أن النهي عن الصلاة على المنافقين، كان في عدد معين منهم، قال:

\"ظاهر الآية أنها نزلت في جميع المنافقين، لكن ورد ما يدل على أنها نزلت في عدد معين منهم، قال الواقدي: أنبأنا معمر عن الزهري قال قَال: حذيفة: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إني مسر إليك سرا فلا تذكره لأحد، إني نهيت أن أصلي على فلان وفلان رهط ذوي عدد من المنافقين\" [فتح الباري فتح الباري (8/387-338)]

وبهذا يتضح أن الأصل بقاء تطبيق أحكام الإسلام على كل من أظهر الإسلام منهم، ولو ظهرت على بعضهم علامات النفاق، وأن النهي عن الصلاة عليهم خاص بالرسول - صلى الله عليه وسلم -، بدليل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم ينه المسلمين عن الصلاة عليهم، وأن الصحابة استمروا في الصلاة عليهم، وأن عمر - رضي الله عنه - الذي قال لرسول - صلى الله عليه وسلم - عندما أراد الصلاة على ابن أبي.

حكم إسناد الولايات العامة للمنافقين

سبق أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عاشر المنافقين كما عاشر عامة المسلمين في أحكام الدنيا، ولكنه لم يأتمن أحدا منهم فيما أعلم - على مصالح الأمة في وظائفهم العامة، فلم يسند إليهم جباية الأموال، ولا الإمارة في الحرب، ولا القضاء بين الناس، ولا إمامتهم في الصلاة، ولا غيرها من الولايات التي يتمكنون بها من تدبير شئون المسلمين.

والسبب في ذلك أنهم يكفرون بالله ورسوله، ويحاربون الله ورسوله والمؤمنين، يضاف إلى ذلك فقدهم الأمانة التي هي أحد أسس الولايات على المسلمين.

والأمانة مطلب أساسي عند المسلم وغير المسلم، فقد أغرت فتاة مدين أباها الصالح باستئجار موسى - عليه السلام -، بصفتين عظيمتين يقل في كثير من الناس اجتماعهما:

الصفة الأول: الأمانة.

والصفة الثانية: القوة.

كما قال - تعالى -عنها: ((قَالَت إِحدَاهُمَا يَا أَبَتِ استَأجِرهُ إِنَّ خَيرَ مَن استَأجَرتَ القَوِيٌّ الأَمِينُ)) [القصص (26)]

وكانت الأمانة من أعظم الصفات التي جعلت ملك مصر، وهو غير مسلم، يمكين يوسف - عليه السلام - من الولاية على أهم الوظائف في عهده، وهي \"خزائن الأرض\" كما قال - تعالى -:

((وَقَالَ المَلِكُ ائتُونِي بِهِ أَستَخلِصهُ لِنَفسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ اليَومَ لَدَينَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجعَلنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)))

لقد أكَّد الله - سبحانه وتعالى - فرض أداء الأمانات إلى أهلها، فقال: ((إِنَّ اللَّهَ يَأمُرُكُم أَن تُؤَدٌّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهلِهَا وَإِذَا حَكَمتُم بَينَ النَّاسِ أَن تَحكُمُوا بِالعَدلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً)) [النساء: (58)].

قال القرطبي - رحمه الله -:

\"هذه الآية من أمهات الأحكام تضمنت جميع الدين والشرع\".

ثم ذكر الخلاف في المراد بالمخاطب بها، ورجح العموم فقال:

\"والأظهر أنها عامة في جميع الناس، فهي تتناول الولاة فيما إليهم من الأمانات في قسمة الأموال ورد الظلامات والعدل في الحكومات، وتتناول من دونهم \". إلى أن قال: \"فالآية شاملة بنظمها لكل أمانة\". [الجامع لأحكام القرآن (5/255ـ257)].

وأخبر - صلى الله عليه وسلم - أن إضاعة الأمانة من علامات الساعة، وأن من أبرز إضاعتها إسناد الأمور إلى غير أهلها، كما في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: \"قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة) قال: كيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال: (إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة). [البخاري (7/188)].

وأثني - صلى الله عليه وسلم - على الخازن الأمين الذي يؤدي ما أمر به طيبة به نفسه، وجعله أحد المتصدقين، مع أن المال الذي تصدق منه ليس ملكا له وإنما هو خازن فقط، فلما كان والياً لخزانته وأدى حقوق الناس في ولايته طيبة نفسه بما أدى، استحق ذلك التكريم لأمانته.

روى أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الخازن الأمين الذي يؤدي ما أمر به طيبة نفسه أحد المتصدقين). [البخاري (3/47-48) ومسلم (2/710)].

وأثنى - صلى الله عليه وسلم - على أبي عبيدة بن الجراح بأمانته، كما روى ذلك أنس بن مالك - رضي الله عنه -: أنه قال: (لكل أمة أمين، وإن أميننا أيتها الأمة أبو عبيدة بن الجراح). [البخاري (4/216)].

وعندما أراد - صلى الله عليه وسلم - بعث أبى عبيدة هذا إلى أهل نجران، ذكر أبرز مؤهلاته لهذا الاختيار، وهي الأمانة التي أشرف لها أصحابه - رضي الله عنهم - لينالوا شرفها..

روى حذيفة - رضي الله عنه - قال: قال: النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل نجران: (لأبعثن عليكم أميناً حق أمين، فأشرف أصحابه، فبعث أبا عبيدة رضي الله عنه). [المرجع السابق.. ].

وأثني - صلى الله عليه وسلم - على الخازن الأمين الذي يؤدي ما أمر به طيبة به نفسه، وجعله أحد المتصدقين، مع أن المال الذي تصدق منه ليس ملكه وإنما هو خازن فقط، فلما كان والياً لخزانته وأدى حقوق الناس في ولايته طيبة نفسه بما أدى، استحق ذلك التكريم لأمانته.

روى أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الخازن الأمين الذي يؤدي ما أمر به طيبة نفسه أحد المتصدقين). [البخاري (3/47-48) ومسلم (2/710)].

وأثنى - صلى الله عليه وسلم - على أبي عبيدة بن الجراح بأمانته، كما روى ذلك أنس بن مالك - رضي الله عنه -: أنه قال: (لكل أمة أمين، وإن أميننا أيتها الأمة أبو عبيدة بن الجراح). [البخاري (4/216)].

وعندما أراد - صلى الله عليه وسلم - بعث أبى عبيدة هذا إلى أهل نجران، ذكر أبرز مؤهلاته لهذا الاختيار، وهي الأمانة التي أشرف لها أصحابه - رضي الله عنهم - لينالوا شرفها..

روى حذيفة - رضي الله عنه - قال: قال: النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل نجران: (لأبعثن عليكم أميناً حق أمين، فأشرف أصحابه، فبعث أبا عبيدة رضي الله عنه). [المرجع السابق.. ].

والذي لا يتصف بالأمانة يكون متصفاً بضدها وهي الخيانة، والخيانة من علامات النفاق، والمنافق ليس كفؤاً لولاية أمور المسلمين.

ولهذا كان الرسول - صلى الله عليه وسلم -، يعامل المنافقين معاملة سائر المسلمين بحسب ظواهره، ولكنه لم يكن يسند إليهم ولاية شئون أمته، لأنه قد وصفهم بالخيانة على ما يؤتمنون عليه.

روى أبو هريرة - رضي الله عنه -: عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: (آية المنافق ثلاث.. )، وفيها: (وإذا اؤتمن خان). [البخاري (1/14) ومسلم (1/78)].

وقد عَرَّف - صلى الله عليه وسلم - المؤمن بأنه الذي يأمنه الناس على دمائهم وأموالهم، ونفى كمال الإيمان الواجب عمن خان أمانته، كما في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال قَال رسول الله:

(المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم) [سنن الترمذي، برقم (2627) وقال: \"هذا حديث حسن صحيح\"

وحديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -، قال قَال رسول الله (المؤمن من أمنه الناس، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر السوء، والذي نفسي بيده لا يدخل الجنة عبد لا يأمن جاره بوائقه) [المستدرك على الصحيحين، برقم (25) وقال: \"وزيادة أخرى صحيحة سليمة من رواية المجروحين في متن هذا الحديث ولم يخرجاها\"

وأقسم - صلى الله عليه وسلم - على نفي هذا الإيمان عمن خان جاره، فلم يأمن شروره ومفاسده، كما عن أبي شريح [وأبي هريرة - رضي الله عنهما -، أن النبي قال:

(والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن) قيل: ومن يا رسول الله؟ قال: (الذي لا يأمن جاره بوائقه) [صحيح البخاري، برقم (5670) وصحيح مسلم، برقم (46)]

ومعنى هذه الأحاديث أن الإيمان الصادق إنما يظهر للناس من معاملة صاحبه لهم، و من أبرز الأدلة على صدق إيمانه أن يأمنوه على دمائهم وأموالهم وأسرارهم، فلا يخون أمانته، وليست دعوى الإنسان الإيمان كافية على صدق إيمانه.

والمنافقون يفقدون الصدق كما يفقدون الأمانة، كما قال الله - تعالى -عنهم:

((أَلَم تَرى إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخوَانِهِم الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أَهلِ الكِتَابِ لَئِن أُخرِجتُم لَنَخرُجَنَّ مَعَكُم وَلا نُطِيعُ فِيكُم أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلتُم لَنَنصُرَنَّكُم وَاللَّهُ يَشهَدُ إِنَّهُم لَكَاذِبُونَ)) [الحشر (11)]

وقال - تعالى -: ((إِذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ قَالُوا نَشهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشهَدُ إِنَّ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيمَانَهُم جُنَّةً فَصَدٌّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُم سَاءَ مَا كَانُوا يَعمَلُونَ (2)]

والخائن الكاذب المخادع، لا يجوز أن يأمنه الناس على تدبير مصالحهم ولا أسرارهم، لأنه كما سبق لا يضمر للمسلمين إلا الشر والكيد، وهم أولياء لإخوانهم الكفار ينصرونهم على المسلمين، يتجسسون لهم عليهم، فلا يحل لوال مسلم أن يسند إلى المنافقين أي ولاية يحصل منهم بها ضرر المسلمين.

الإنكار على ما يقترفه المنافقون في ولاياتهم

فالأصل عدم تولية المنافقين على شئون المسلمين، لأنهم غير مؤتمنين على تدبير شئونهم، ولكن إذا ما ابتلي المسلمون بولاية المنافقين عليهم مكرهين، بأن قويت شوكتهم فاغتصبوا الأمر بدون رضاهم، أو تحالفوا مع الكفار من اليهود والنصارى والوثنيين، فمكنوهم من السيطرة على الشعوب الإسلامية.

فالواجب على المسلمين أن ينكروا عليهم ما يخالفون فيه كتاب الله وسنة رسوله، بحسب مراتب المخالفة ومراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع مراعاة المصالح والمفاسد في الأمر والنهي.

فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قاعدة من أهم قواعد الإسلام التي لا يجوز التقصير فيها، وهي من فروض الكفاية التي إذا تركت أثم كل قادر على القيام بها من الأمة الإسلامية، حتى يوجد من يقوم بها قياما كافيا.

وكون مرتكب الكفر المعين لا يكفر حتى تقوم عليه الحجة، لا يبيح للمسلمين السكوت عنه وإشعاره بأنه مسلم، بل إن ذلك يوجب عليهم، أن يبينوا له أن الكفر يخرج صاحبه بعد إقامة الحجة عليه من الملة، و أن صاحبه مخلد في النار إذا مات عليه.

ومن أمثلة ذلك إنكار ما علم من الدين بالضرورة وجوبه، كاعتقاد تحكيم شرع الله والحكم به، وهو كثير في أبواب الفقه الإسلامي، ومنه أركان الإسلام، وإقامة الحدود، وتقسيم الميراث بين الورثة كما نزل بها القرآن.

وكذلك استحلال ما علم من الدين بالضرورى تحريمه، كشرب المسكر وأكل الميتة والزنا...

فكل ذلك يجب على المسلمين وبخاصة العلماء إنكاره وبيانه لمن اتصف به، فإذا أنكروه وبينوه وقامت الحجة على صاحبه ولم يؤب إلى الله ويستسلم لحكمه أصبح بعينه مستحق للتكفير...

ويجب أن يعلم أنه كلما كانت المخالفة أشد كان وجوب الإنكار أعظم، وكلما كانت القدرة على إنكار المنكر أقوى كان وجوبه أشد، وكلما كانت مصالح الأمر والنهي أكثر من مفاسدهما، كانا أوجب.

ومعرفة تحقق هذه الأمور والموازنة بينهما تعود إلى أهل الحل والعقد، من علماء الأمة وعقلائها وأعيانها وذوي التخصصات المتنوعة فيها.

وليس ذلك إلى غوغاء الناس وجهالها وسفهائها وذوي العواطف غير المنضبطة الذين يضرون الأمة أكثر مما ينفعونها.

قال ابن تيمية - رحمه الله -: \"وَجِمَاعُ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي \"القَاعِدَةِ العَامَّةِ\": فِيمَا إذَا تَعَارَضَت المَصَالِحُ وَالمَفَاسِدُ، وَالحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ أَو تَزَاحَمَت ; فَإِنَّهُ يَجِبُ تَرجِيحُ الرَّاجِحِ مِنهَا فِيمَا إذَا ازدَحَمَت المَصَالِحُ وَالمَفَاسِدُ، وَتَعَارَضَت المَصَالِحُ وَالمَفَاسِدُ.

فَإِنَّ الأَمرَ وَالنَّهيَ وَإِن كَانَ مُتَضَمِّنًا لِتَحصِيلِ مَصلَحَةٍ, وَدَفعِ مَفسَدَةٍ,، فَيُنظَرُ فِي المُعَارِضِ لَهُ، فَإِن كَانَ الَّذِي يَفُوتُ مِن المَصَالِحِ أَو يَحصُلُ مِن المَفَاسِدِ أَكثَرَ، لَم يَكُن مَأمُورًا بِهِ; بَل يَكُونُ مُحَرَّمًا إذَا كَانَت مَفسَدَتُهُ أَكثَرَ مِن مَصلَحَتِهِ\" [مجموع الفتاوى(28/129)]

وذكر ابن القيم - رحمه الله -: أن لإنكار المنكر أربع درجات، فقال:

\"فإنكار المنكر أربع درجات:

الأولى: أن يزول ويخلفه ضده.

الثانية: أن يقل وإن لم يزل بجملته.

الثالثة: أن يخلفه ما هو مثله.

الرابعة: أن يخلفه ما هو شر منه.

فالدرجتان الأوليان مشروعتان

والثالثة موضع اجتهاد

والرابعة محرمة\" [إعلام الموقعين (3/4)] .

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply