اليهود ( 2 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم





الخطبة الأولى:

أما بعد: عباد الله تتمة لخطبتنا الماضية عن اليهود نواصل معكم أيها الإخوة سلسلة جرائم اليهود عبر التاريخ، وكنا قد تكلمنا عن اليهود وتاريخهم قبل الإسلام، فنبدأ بمحاولتهم اغتيال الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليتخلصوا منه، وكان له عدة أساليب منها:

أنه عندما ذهب الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع نفر من أصحابه منهم أبو بكر وعمر وعلي إلى بني النضير ليتفاهم معهم في دية القتيلين من المشركين من بني عامر الذين قتلهما أحد المسلمين، فقال رؤوساء بنى النضير من اليهود: نعم يا أبا القاسم نعينك على ما أحببت مما استعنت بنا عليه، وذهبوا ليفكروا فيما يدفعون من المال مساهمة في دية القتيلين، وخلا بعضهم ببعض، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاعد إلى جنب جدار من بيوتهم، مع النفر من الصحابة، فقال اليهود في خلوتهم: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه، فمَن رجل يعلو على هذا البيت فيلقى عليه صخرة فيريحنا منه، فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب أحد يهود بنى النضير، فقال: أنا لذلك، فنهاهم عنه أحد أحبارهم وهو سلام بن مشكم، وقال لهم: هو يعلم، فلم يقبلوا منه، وصعد ذلك اليهودي عمرو بن جحاش ليلقي الصخرة على رأسه ليغتاله بها، فنزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الوحي من السماء بما أراد القوم، وأن اليهود قد ائتمروا به ليقتلوه، وطلب منه الانسحاب في صمت، فقام وقال لأصحابه: لا تبرحوا حتى آتيكم، وخرج راجعاً إلى المدينة دون أن يخبر أصحابه بالأمر، وظنوا أنه قد ذهب لبعض حاجة وهو عائد إليهم، فلما طال انتظار أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - قاموا في طلبه، فالتقوا رجلاً مقبلاً من المدينة فسألوه عنه، فقال: رأيته داخلاً المدينة، فأقبل أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى انتهوا إليه، فأخبرهم الخبر وبما كانت اليهود أرادت من الغدر به، وشاع في المدينة خبر المكيدة التي دبرها اليهود لقتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غدراً، وضج المسلمون بالتذمر، وأخذ اليهود يلوم بعضهم بعضاً على هذه الجريمة الشنعاء، ولم ينكروا مكيدة الغدر بالرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولم يصدر بيان بنفي هذا الخبر كما هو شأن الإعلام في وقتنا الحاضر، وأنزل الله على نبيه قوله - تعالى - في سورة المائدة،: \"يا أَيٌّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا اذكُرُوا نِعمَةَ اللَّهِ عَلَيكُم إِذ هَمَّ قَومٌ أَن يَبسُطُوا إِلَيكُم أَيدِيَهُم فَكَفَّ أَيدِيَهُم عَنكُم\" [المائدة: 11]، وعقب مكيدة الغدر هذه رأى المسلمون خطر بقاء اليهود بين ظهرانيهم، عندئذ أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالتهيؤ لحرب بنى النضير، والسير إليهم بعد الذي كان منهم، واستعمل - صلى الله عليه وسلم - على المدينة ابن أم مكتوم، ثم سار بالناس حتى نزل بهم، فتحصنوا من المسلمين في حصونهم، وحاصرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقذف الله الرعب في قلوبهم، فسألوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يجليهم كما أجلى بني قينقاع، ويكف عن دمائهم، على أن لهم ما حملت الإبل من الأموال إلا السلاح، فوافق الرسول - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به الإبل، فكان الرجل منهم يهدم بيته، ويأخذ ما يستطيع حمله، ويضعه على ظهر بعيره وينطلق به، فخرجوا إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام، وأنزل الله فيهم قوله - تعالى - في سورة الحشر: \"سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَـاواتِ وَمَا فِي الأَرضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ هُوَ الَّذِي أَخرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أَهلِ الكِتَـابِ مِن دِيَـارِهِم لأَِوَّلِ الحَشرِ مَا ظَنَنتُم أَن يَخرُجُوا وَظَنٌّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُم حُصُونُهُم مّنَ اللَّهِ فَأَتَـاهُمُ اللَّهُ مِن حَيثُ لَم يَحتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرٌّعبَ يُخرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيدِيهِم وَأَيدِي المُؤمِنِينَ فَاعتَبِرُوا يا أُولِى الأَبصَـارِ وَلَولاَ أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيهِمُ الجَلاَء لَعَذَّبَهُم فِي الدٌّنيَا وَلَهُم فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ\" [الحشر: 1-3].

أيها المسلمون: بعد ما فشل اليهود في المكر والكيد ضد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فكروا في وسيلة أخرى للتخلص من المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وذلك محاولة دس السم له، وقد دفعوا لتنفيذ هذه الجريمة الشنعاء امرأة يهودية منهم اسمها زينب بنت الحارث، وهى زوج سلام بن مشكم أحد أحبارهم، وذلك بعد أن انتهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أمر خيبر، واطمأن به الحال، قدمت له هذه المرأة شاة مشوية كانت قد دست فيها سماً كثيراً، وكانت قد سألت: أي عضو من الشاة أحب إلى محمد؟ فقيل لها الذراع، فلاك منها مضغة فلم يسغها، ومعه بشر بن البراء بن معرور قد أخذ منها كما أخذ رسول - صلى الله عليه وسلم -، فأما بشر فأساغها، وأما رسول الله فلفظها، ثم قال: ( إن هذا العظم يخبرني أنه مسموم )، ثم دعا بالمرأة اليهودية فاعترفت، فقال: (ما حملك على ذلك؟) قالت: بلغت من قومي ما لم يخف عليك، فقلت: إن كان ملكاً استرحت منه، وإن كان نبياً فسيخبر، تعني أن الوحي سيخبره بذلك، فتجاوز الرسول - صلى الله عليه وسلم - عنها، ومات بشر من أكلته التي أكل.

أيها المسلمون لم تنته جرائم اليهود ضد الرسول - صلى الله عليه وسلم - عند هذا الحد، فحاولوا أن يستخدموا وسيلة السحر ضده، ودفع اليهود إلى ذلك ساحراً من سحرتهم واسمه لبيد بن أعصم، فسحره هذا اليهودي عليه وعلى جميع اليهود اللعنة، فأثر السحر في جسد الرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى كان يخيل إليه أنه يأتي نساءه ولا يأتيهم.

روى البخاري ومسلم في صحيحهما عن عائشة - رضي الله عنها -. أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سحر حتى أنه كان ليخيل إليه أنه يفعل الشيء وما فعله، حتى إذا كان ذات ليلة عند عائشة دعا ودعا ثم قال: (يا عائشة، أشعرت أن الله أفتاني فيما استفيته فيه؟ أتاني رجلان - أي ملكان على صفة رجلين وهما: جبريل وميكائيل -، فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي، فقال: ما وجع الرجل؟ قال: مطبوب ـ أي مسحور ـ، قال: من طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم).

ثم إن الله صرف أذى السحر عن جسد الرسول - صلى الله عليه وسلم - بسر الدعاء والالتجاء إلى الله، وأنزل الله عليه سورتي المعوذتين ليكررهما في استعاذاته، وليكررهما المسلمون.

والسحر ـ يا عباد الله ـ من أعمال اليهود التي ما زالوا يمارسونها منذ تعلموها من الشياطين التي سخرها الله لسليمان - عليه السلام -، ومن الملكين ببابل هارون وماروت، وكثير من اليهود يعتقدون أن سليمان إنما نال ملكه بالسحر لا بالنبوة، وقد أجهد اليهود أنفسهم في تعلم السحر فلم يظفروا منه بخير، كيف يكون لهم منه خير والله - تعالى - يقول في كتابه. \"وَلاَ يُفلِحُ السَّـاحِرُ حَيثُ أَتَى\" [طه: 69]، وقد أنزل الله براءة سليمان من السحر، وأسند تلاواته إلى الشياطين الذين سخرهم الله له بسلطان النبوة، فقال - تبارك وتعالى - في سورة البقرة مندداً باليهود استعمالهم السحر، وتعلمهم وسائله وحيله: \"وَاتَّبَعُوا مَا تَتلُوا الشَّيَـاطِينُ عَلَى مُلكِ سُلَيمَـانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيمَـانُ وَلَـكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلّمُونَ النَّاسَ السّحرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى المَلَكَينِ بِبَابِلَ هَـارُوتَ وَمَـارُوتَ وَمَا يُعَلّمَانِ مِن أَحَدٍ, حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحنُ فِتنَةٌ فَلاَ تَكفُر فَيَتَعَلَّمُونَ مِنهُمَا مَا يُفَرّقُونَ بِهِ بَينَ المَرء وَزَوجِهِ وَمَا هُم بِضَارّينَ بِهِ مِن أَحَدٍ, إِلاَّ بِإِذنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرٌّهُم وَلاَ يَنفَعُهُم وَلَقَد عَلِمُوا لَمَنِ اشتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن خَلَـاقٍ, وَلَبِئسَ مَا شَرَوا بِهِ أَنفُسَهُم لَو كَانُوا يَعلَمُونَ\" [البقرة: 102]، هذه بعض جرائم اليهود ضد شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في زمنه، محاولات لقتله واغتياله، ومحاولة لدس السم في طعامه، ثم سحره، إلى غير ذلك من الجرائم، لكن الله - عز وجل - حفظ رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وحفظ دينه.

اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه، واجعل تدبيره تدميره، واجعل كيده في نحره.



الخطبة الثانية:

أما بعد: عباد الله لم تنته جرائم اليهود، ولم ينطفئ حقدهم بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولكن استمرت جرائمهم مع خلفاء الرسول الراشدين ألا لعنة الله على الظالمين.

تولى الخلافة بعد عمر عثمان - رضي الله عنهما -، وكانت نهاية عثمان بمكيدة خبيثة دبرها اليهود، انتهت بمقتل عثمان بأيدي المسلمين، بعد إشعال فتنة عظيمة كان وراءها الأيدي اليهودية، وقد لعب هذا الدور الكبير في هذه المؤامرة رجل من يهود صنعاء، يقال له عبد الله بن سبأ، وإليكم شيئاً من تفاصيل تلك القضية المحزنة التي انتهت بقتل خليفة المسلمين بأيدي المسلمين، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

بدأت الفتنة عندما أشعلها عبد الله بن سبأ (ابن السوداء)، وهو من يهود صنعاء، وكانت أمه سوداء لذا عرف بذلك، وقد ادعى الإسلام أيام عثمان ليستطيع التأثير على نفوس أولئك الأعراب والبداة والذين دانوا حديثاً بالإسلام من سكان الأمصار، إذ تنقل في بلدان المسلمين، فبدأ بالحجاز، ثم سار إلى البصرة، ومنها إلى الكوفة، ثم إلى الشام، إلا إنه لم يستطع التأثير على أحد من أهل الشام، وبعدها أخرجوه إلى مصر حيث استقر هناك، وكان في كل مكان يحل فيه يتصل بالأشخاص، ويتحدث إليهم، ويبدي تفهمه للإسلام، ويظهر معرفته، ويقف موقف العلم، فيقول: عجيب من يزعم أن عيسى يرجع، ويكذب بأن محمداً يرجع، والله - سبحانه وتعالى- يقول: \"إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيكَ القُرءانَ لَرَادٌّكَ إِلَى مَعَادٍ,\" [القصص: 85]، فمحمد أحق بالعودة والرجوع من عيسى، وهكذا بدأ بالتشكيك في العقيدة، والناس على فطرتهم حديثو العهد بالإسلام في الأمصار لا يعرفون الفلسفات والمناقشات، والبدو الذين يعيشون معهم أكثر جلافة، وإذا اقتنعوا بشيء صعب استخلاصه من نفوسهم بالأمر السهل، ورأى هذا اليهودي أن علي بن أبي طالب رأس الصحابة الذين بقوا من حيث الاحترام والتقدير، بل يعد الشخص الثاني بعد الخليفة، وله عند الشيخين مركز ووزن، يستشار في كل أمر، ويدعى في كل معضلة، ويؤخذ رأيه في كل مشكلة، هذا بالإضافة إلى قرابته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلمه وفهمه، لذا رأى هذا الخبيث أن يركز على هذا الصحابي الجليل، وأن يدعو له لا حباً به وتقديراً، وإنما لبذر الفتنة في المجتمع، وحتى لا يعرف مخططه، فيظهر أنه يدعو للشك والريبة، فدعوته لأحد البارزين من الصحابة تخفي ما يضمر، وتقربه من نفوس بعض الرجال الذين يعرفون قدر علي، فكان يقول: إن علياً هو وصي محمد - صلى الله عليه وسلم -، فإن لكل نبي وصياً.

ثم انتقل بعد بذر الفتنة وإلقاء جذور البلاء في المجتمع إلى الطعن بالخليفة نفسه وبولاته وأمرائه وأنهم دون الصحابة الأجلاء، وأنهم لم يحتلوا هذه المراكز إلا لكونهم من ذوي رحم الخليفة الذي بلغ من العمر عتياً، وأنهم قد أثروا عليه، وأصبح أداة طيعة في أيديهم، مع العلم أن إمرة المفضول تصح مع وجود الفاضل، وأن إمارة القوي المسلم خير من إمارة المؤمن التقي الورع إذا لم يكن في قوة ذاك، إضافة إلى أن أكثر ولاة عثمان كانوا قد تسلموا الإمارة أيام عمر.

ظهرت بذور الشر أول ما ظهرت في الكوفة، إذ بدأ الحديث عن الوالي سعيد بن العاص حتى وصل إلى الخليفة، وذلك على ألسنة العوام وأولئك البداة والذين دانوا حديثاً بالإسلام، ومن هؤلاء مالك بن الحارث الأشتر النخعي، وثابت ابن قيس النخعى، وجندب بن كعب الأزدي، وعروة بن الجعد وأمثالهم من أهل الصحراء والقبائل، وكان ذلك في أواخر عهد عثمان، وبعد مرور عشر سنوات على تسلمه الخلافة، وفى عام 34هـ سير هؤلاء المنحرفون من الكوفة إلى الشام، إلا أنهم ردوا مرة ثانية إلى الكوفة، فقالوا: إن الكوفة والشام ليستا لنا بدار، فاتجهوا إلى الجزيرة فشدد عليهم واليها عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وسير الأشتر إلى المدينة، فخيره الخليفة في المكان الذي يرغب سكناه فاختار منطقة عبد الرحمن بن خالد، وسار إليه، وكان ابن السوداء في مصر يراسل من أثر عليهم في كل الأمصار، ويزيد في أضرام نار الفتنة.

جمع الخليفة عثمان بن عفان أمراء الأمصار في موسم الحج عام 34هـ وهم: معاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وسعيد بن العاص، وعبد الله بن عامر، واستشارهم في أمر هؤلاء المنحرفين، وما يتكلمون به، فأشير عليه بأن ينقل هؤلاء المنحرفين إلى الثغور فينشغلوا بأنفسهم كما اقترح عليه عدم إعطائهم الأعطيات حتى يرضخوا للأمر ويطيعوا، ولكنه لم ير هذا الرأي ولا ذاك.

ولما كثر الكلام عن سعيد بن العاص أمير الكوفة والمطالبة بأبي موسى الأشعري بدلاً عنه، استجاب الخليفة الطلب فعزل سعيداً وولى أبا موسى مكانه، وكتب لأهل الكوفة: ( أما بعد: فقد أمرت عليكم من اخترتم، وأعفيتكم من سعيد، والله لأفرشنكم عرضي، ولأبذلن لكم صبري، ولأستصلحنكم بجهدي، فلا تدعوا شيئاً أحببتموه لا يعصى الله فيه إلا سألتموه، ولا شيئاً لا يعصى الله فيه إلا استعفيتم منه، أنزل فيه عندما أحببتم حتى لا يكون لكم علي حجة).

لم تفد المخربين أعمال الخليفة ولينه لهم بل استمروا في تصرفاتهم وكلامهم، فأرسل الخليفة بعض الصحابة إلى الأمصار يستطلعون آراء الناس، ويعرفون أخبار المسلمين وموقفهم، فقد بعث محمد بن مسلمة إلى الكوفة وأسامة بن زيد إلى البصرة وعبد الله بن عمر إلى الشام، وعمار بن ياسر إلى مصر: ورجالاً آخرين سواهم، فرجع الجميع ولم ينكروا شيئاً إلا عمار بن ياسر فقد تأخر واستمع إلى ما كان يشاع.

وجاء وفد من مصر في رجب عام 35هـ إلى الحجاز يظهرون أنهم يريدون العمرة، وفى نيتهم مناظرة الخليفة ومناقشته في المدينة لبلبة الآراء، وإشعال نار الفتنة، وتمت مقابلة الخليفة، وأبدى رأيه، وأقنع الوفد خارج المدينة بنفسه أو بواسطة بعض الصحابة منهم علي بن أبي طالب، ومحمد بن مسلمة، ودخل بعضهم المدينة، وحضر خطبة للخليفة أثنى فيها على الوفد، واستغفر الله، وبكى وأبكى الناس، وانصرف المصريون راجعين إلى بلادهم.

إلا أن أهل مصر عندما رجعوا بدأوا يحرضون الأمصار على التوجه إلى المدينة، وإظهار الشكوى والتأفف من العمال والأوضاع العامة لأن المدينة أحرى بالفوضى أن تؤثر فيها، إذ أنها مقر الدولة، ومركز الخليفة، ومكان الصحابة، ومدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم اتفقوا على أن يسيروا إلى المدينة في شهر شوال في ذلك العام، وأن يكون مسيرهم مع الحجاج لمغافلة الصحابة، وإمكانية نشر الفساد على نطاق أوسع.

وانطلق أهل مصر وعددهم ما بين 600 - 1000 رجل، وفى الوقت نفسه انطلق أهل الكوفة وأهل البصرة، وقد خرجت كل جماعة على شكل فرق أربع، وعلى كل فرقة أمير، وعلى الجميع أمير، فالأمر يبدو على تخطيط وتنظيم واحد دقيق، وكان على أهل مصر الغافقي بن حرب العكي، ومعهم ابن السوداء، وهم يريدون البيعة لعلي بن أبي طالب، وعلى أهل الكوفة عمرو بن الأصم، وعلى أهل البصرة حرقوص بن زهير السعدي، وبمسيرهم مع الحجاج لم يعلم الأمراء عدد الناقمين، ولم يكونوا يتصورون أن هذه الشرذمة تفكر بقتل الخليفة أو تجرؤ على القيام بهذا العمل في دار الهجرة، لذا لم يبذلوا جهداً بإرسال قوة تحول دون خروجهم، أو تسير إلى المدينة لتمنع أمير المؤمنين.

ووصل المنحرفون إلى مقربة من المدينة وسمع أهل المدينة بما يحدث، وأبوا أن تقتحم عليهم المدينة، وتكلموا في الأمر، وحدث الخليفة علياً في أن يركب ويركب معه المسلمون ليمنعوا المنحرفين من دخول المدينة عنوة، ففعل وخرج معه طلحة والزبير ومحمد بن مسلمة وكبار الصحابة، ولما رأى المنحرفون استعداد الصحابة للدفاع عن دار الهجرة وقع الخوف في نفوسهم، فعندما كلمهم علي أظهروا الطاعة والخضوع، وأبدوا الرغبة في العودة إلى أمصارهم والهدوء فيها، وبالفعل فقد رجعوا أدراجهم، وظن علي والمسلمون أن الخطر قد زال عن دار الهجرة فعادوا إليها، ولم يستقروا فيها حتى أروعهم التكبير داخل أزقتها، ومحاصرة دار عثمان، وعندما سألهم علي عن سبب رجوعهم قالوا: إن الخليفة قد أرسل كتاباً لقتلنا، وأظهر أهل مصر كتاباً فيه قتل محمد بن أبي بكر، قال علي: فما بال أهل الكوفة قد عادوا؟ فقالوا: تضامنا مع رفاقنا، وكذا أهل البصرة، لكن من الذي أخبر كل فريق بما حدث مع الآخر؟ وهنا يبدو الاتفاق المسبق والتخطيط لدخول المدينة على حين غفلة من أهلها، وهنا يظهر تلفيق الكتاب الذي أظهره المصريون.

كان حصار دار عثمان يسيراً حيث كان يخرج الخليفة ويصلى بالناس، ويأتي الصحابة إليه، ويأتي إليهم، ثم بعث إلى العمال في الأمصار يأمرهم أن يرسلوا إليه الجند لينصروه، ويخرجوا من المدينة هؤلاء الطارئين، وعندما عرف المنحرفون هذا الخبر، وأن حبيب بن مسلمة قد سار من الشام، ومعاوية بن خديج من مصر، والقعقاع بن عمرو من الكوفة، ومجاشع السلمي من البصرة، وكل على رأس قوة لنصرة الخليفة تغير حصار الدار، واشتد عمل المنحرفين، وخرج عثمان كعادته إلى الصلاة يوم الجمعة وخطب، وخاطب المخربين، وثار الناس، وحصب بعضهم بعضاً، وأصيب عثمان وأغمي عليه، ونقل إلى داره وثار الصحابة وأبناؤهم ومنهم الحسن بن علي، وسعد بن أبي وقاص، وأبو هريرة، وزيد بن ثابت وغيرهم، وأرادوا قتال المنحرفين إلا أن الخليفة قد منعهم، وأراد ألا يحدث شيء بسببه، وزار بعد ذلك عثمان كلا من علي وطلحة والزبير، ثم عاد فدخل بيته، وشدد عليه الحصار فلم يعد يخرج أبداً حتى كان يوم استشهاده - رضي الله عنه -.

أقام المنحرفون رجلاً منهم يصلي بالناس وهو زعيم المصريين الغافقي بن حرب، وإذا وجد علي أو طلحة صلى بالناس أحدهما، ومنع الماء عن الخليفة، فأرسل إلى علي وطلحة والزبير وعائشة وأمهات المؤمنين فأسعفه علي وأم حبيبة رملة بنت أبي سفيان، وزجر على الثائرين فلم يرعووا، وكان بين الحين والآخر يطل الخليفة بنفسه على أولئك المنحرفين المحاصرين له فيعظهم، ولكن لا يأبهون لأحد، حتى أن أم حبيبة لم تستطع الوصول إليه لإسعافه بالماء، إذ ضربوا وجه بغلتها، وكادت تسقط عنها، وهذا ما ألزم الناس بيوتهم لا يخرج منهم أحد ومعه سيفه، إذ اختل نظام الأمن في دار الهجرة، ودخل دار عثمان بعض أبناء الصحابة منهم: عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، والحسن والحسين ابني علي، ومحمد بن طلحة وغيرهم، وطلب منهم عثمان ألا يقاتلوا، وعزم عليهم في ذلك أشد العزيمة.

سارت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - إلى الحج، وطلب عثمان من ابن عباس أن يحج بالناس هذا العام، وكان على الباب مع أبناء الصحابة، فأراد أن يبقى مجاهداً إلا أن عثمان أصر عليه فخرج إلى الحج.

وصلت الأخبار إلى المدينة بأن الأمداد قد دنت من المدينة، وأن من جاء منها من الشام قد وصل إلى وادى القرى، فخاف المنحرفون، وأرادوا دخول الدار على عثمان فمنعهم من فيها: الحسن بن علي، وعبد الله بن الزبير، ومحمد بن طلحة، ومروان بن الحكم، وسعيد بن العاص وغيرهم، فتسوروا الدار من خوخة بينها وبين دار عمر بن حزم، ثم أحرقوا باب الدار، وعثمان يقسم على أبناء الصحابة أن يلقوا سيوفهم حتى ألقاها بعضهم، وهجم المنحرفون على الخليفة، فضربه الغافقي بن حرب بحديدة، ثم ضرب قتيرة بن حمران زوج الخليفة نائلة التي رفعت يدها تدافع عن زوجها فقطع أصابعها، ثم ضرب الخليفة أخوة سودان بن حمران السكوني، وكذلك كنانة بن بشر بن عتاب التحيبي فقتل - رضي الله عنه - ونهبت الدار، كما نهب بيت المال، وكان أمر الله قدراً مقدوراً، وكان قتل الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان - رضي الله عنه - في 18 ذي الحجة من عام 35 من هجرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وكان عمره إذ ذاك اثنتين وثمانين سنة.

وعاد الحجاج فوجدوا خليفتهم مقتولاً - رضي الله عنه -، والأمن غير مستتب.

هذا ملخص قصة مقتل الخليفة الثالث عثمان - رضي الله عنه - بسبب المكيدة التي دبرها اليهود عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.

نقف بكم أيها الأخوة هنا خشية الإطالة، وسوف يكون للحديث بقية إن شاء الله إن كان في العمر بقية، نواصل به ذكر جرائم اليهود عبر تاريخهم الأسود.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply