وقفات مع آية قرآنية اليهود ونقض العهود


 

بسم الله الرحمن الرحيم



قال - تعالى -: ((ولقد أنزلنا إليك آيات بينات، وما يكفر بها إلا الفاسقون. أو كلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم، بل أكثرهم لا يؤمنون)) [البقرة/99، 100]



* * *

سياق هذه الآية في اليهود عليهم لعنة الله، فهي تقرر صفات أصيلة فيهم سبقتها صفات وتلتها صفات في السورة، ولكن الآية هنا تبرز هذه الخصلة الثابتة في اليهود، ألا وهي: نقض العهود، والخروج عن مقتضى العقود، وما هذا النقض والخروج إلا لأنهم فاسقون، قال ابن عاشور: \"وقد شاع إطلاق \"الفاسق\" على الخارج عن طريق الخير، وشاع في القرآن وصف اليهود به، والمعنى: ما يكفر بهذه الآيات إلا من كان الفسق شأنه ودأبه، لأن ذلك يهيئه للكفر بمثل هذه الآيات، فالمراد بالفاسقين: المتجاوزون الحد في الكفر، المتمردون فيه\" [1]. ويلاحظ هنا أن الإخبار عن كفر اليهود بالآيات المنزلة قد جاء على صيغة المضارعة الدالة على التجدد (يكفر بها) وكذلك جاء التوصيف باسم الفاعل المعرف باللام (الفاسقون) الدال على استقرار الصفة. وقد جاء تقرير هذا المعنى بالقسم، فقوله - تعالى -: ((ولقد أنزلنا إليك آيات بينات...)) اللام هنا هي الموطئة لقسم حذف لدلالة السياق عليه، وجوابه قوله - تعالى -: ((وما يكفر بها إلا الفاسقون)).



ثم بدأت الآية التالية بهذا السؤال: ((أو كلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم)) وهذا استفهام للتوبيخ معطوف على جملة القسم، والنبذ: إلقاء الشيء من اليد، وهو هنا استعارة لنقض العهد، شبه إبطال العهد وعدم الوفاء به بطرح شيء كان ممسوكاً باليد. والمراد بالعهد هنا، ما أخذ على بني إسرائيل أو ما أخذوه على أنفسهم، ومن ذلك عهد الله إليهم بالوفاء لشرعه ودينه في قوله - تعالى -: ((وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم)) وقد كثر أخذ العهود عليهم في تكرار نقضهم العهود المتتالية مع الأنبياء المتكاثرين فيهم، فهم قد أدمنوا مخالفة عهد الله في كتابه، ومخالفة عهود أنبيائه المرسلين فيهم ثم أضافوا إلى ذلك مخالفتهم العهد بأن يؤمنوا بالرسول المبتعث إليهم وإلى الناس كافةº محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ذلك النبي العظيم الذي أخذ الله العهد على الأنبياء قبله أن يتبعوه إذا ما خرج، والمراد أتباع هؤلاء الأنبياء، فهم الباقون بعد المرسلين فيهم. قال - تعالى -: ((وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة، ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه. قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري، قالوا أقررنا، قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين)) [آل عمران/81]. ولكن من أتباع هؤلاء الأنبياء - وفي مقدمتهم اليهود - من نقضوا هذا الميثاق إلا قليلاً منهم. وقد قال (ابن صوريا) أحد كبراء اليهود للنبي - صلى الله عليه وسلم -: \"يا محمد: ما جئتنا بشيء نعرفه، وما أنزل الله عليكم من آية بينة... \" فأنزل الله في ذلك: ((ولقد أنزلنا إليك آيات بينات...))[2].



وإنما أسند نبذ العهد إلى فريق منهم، إما باعتبار العصور التي نقضوا فيها العهود، كما تشير إليه (كلما) أو احتراساً من شمول الذم للذين آمنوا منهم، وليس المراد أن ذلك الفريق قليل فيهم، وقد دل على ذلك قوله - تعالى - بعدها ((بل أكثرهم لا يؤمنون)). قال الشيخ رشيد رضا: \"والآيات بينت شأنين من شؤون أهل الكتاب، وهما أنه لا ثقة بهم في شيء، لما عرف عنهم نقض العهود، وأنه لا رجاء في إيمان أكثرهم، لأن الضلالة قد ملكت عليهم أمرهم إلا قليلاً منهم... وإن كان نقض العهود قد وقع منهم في كل زمن من فريق منهم دون فريق، فلا يتوهمن أحد أن أولئك هم الأقلون، بل هم الأكثرون\" [3].



إن خلف العهد ونقض الميثاق وفسخ الاتفاق، إنما هو دين وديدن اليهود، قال ابن جريج: \"لم يكن في الأرض عهد يعاهدون عليه إلا نقضوه، ويعاهدون اليوم وينقضون غداً\" [4] وهذا حق وصحيح، تؤيده وقائع الأحداث وشواهد التاريخ عبر العصور. قال سيد قطب - رحمه الله -: \"وقد أخلفوا ميثاقهم مع الله تحت الجبل، ونبذوا عهودهم مع أنبيائهم من بعد، وأخيراً نبذ فريق منهم عهدهم الذي أبرموه مع النبي - صلى الله عليه وسلم - أول مقدمه إلى المدينة، وهو العهد الذي وادعهم فيه بشروط معينة، بينما كانوا هم أول من أعان عليه أعداءه، وأول من عاب دينه وحاول بث الفرقة والفتن في الصف المسلم، مخالفين ما عاهدوا عليه المسلمين\" [5].



ونحن نقول اليوم لأهل النفاق الذين أبرموا مع اليهود (الاتفاق) وكذلك الذين أيدوه وناصروه ومولوه... ألم تكفكم جريمة إبرام اتفاق مناقض لشرع الله، حتى ائتمنتم على الوفاء به أعداء الله...؟! وألزمتم به عباد الله؟!.



وإننا في انتظار نكث اليهود لعهدكم البائس في كل مالهم فيه مصلحة وذلك كائن لا محالة، وعندها ستنتقض عرى العلمانية عروة عروة، وينكشف عوارها، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.



- - - - - - - - - - - - - - - - -

[1] - التحرير والتنوير 1/624

[2] - أسباب النزول للواحدي، 31.

[3] - تفسير المنار 1/396.

[4] - الدر المنثور 1/100.

[5] - في ظلال القرآن 1/91.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply