بسم الله الرحمن الرحيم
حينما جرى جدل علمي عقلي مُركز مع أحد كبار النصارى القائمين على كنيسة مُهمة لم يكن بوسع العقل مهما بلغ أن يتعدى حدوده، فإن فعل ذلك هلك وأهلك لأنه حينئذ يكون كنهر زاد ماؤه ففاض ماؤه المنبسط، والقائم وعم الغرق، ثم إذا به يعود إلى باطن الأرض أو هو يصب في البحر مُعلناً نهايته بنفسه لأنه لم يفعل سوى ما فعل، حينما قيل لذلك الراهب:
أيمكن أن يُولد الإله..؟
شحب لونه، وفتح فاه واصطكت أضراسه ماذا.. ماذا..؟
هو ما تسمع،
لقد خيل إليه أنه سوف يُجيب بجواب علمي عقلي بعيداً عن العاطفة والإنشاء والتمرير والفلسفة لكنه صعق من هول المعنى.
ثم ماذا..
أين كان قبل ذلك؟
ماذا تقول..؟
أين..
كلا.. لا تكمل،
جدل مركز بيَّن سهل لكنه لم يحر إلا الانبهار مع حب الفرار ولا فرار،
ثم يكون السؤال الآخر،
حينما حلَّ (اللاهوت بالناسوت) وصُلب الناسوت كيف سكت اللاهوت..؟
دامغة مُبيدة.
من أجل ذلك كان السكوت
قال: فجأة أسمعت السؤال؟
نعم..
هل تُسلِمُ..؟
ماذا..؟
هل تسلم؟
وترى بعد ذلك ما لم تكن تخاله
تروَّى علي.. ليس الآن..
ثم كان السؤال الآخر الأشد
أيمكن أن يُصلب الإله؟
نعم أيمكن أن يتم هذا.. ولو عللت وعللت..؟
كفى.. كفى،
لم يكن الجواب مهما كان بكاف شيئاً لأنه هُنا أصلاً ما يكون له أن يُجيب لأن كثيراً مما يُعتقد إنما جاء من وثنيات أمم لا دين لها بعد أن كفرت وكذبت، ثم مر زمان وزمان حتى نسي الناسُ ما جاءت به الرسل ـ عليهم السلام ـ من توحيد الله - سبحانه وتعالى- وعبادته دون سواه، بل أدخل أهل الزيغ والشبهات والشهوات على التوارة والإنجيل ما ليس فيهما، يحرفون ويزيدون وينقصون ثم نسوا حظاً مما ذكروا به، ثم كذبوا: وألَّهوا عيسى وعبدوه، ثم انقسموا ثلاث فرق كلها تكذب وتضع ما لم يكن، ولكن تبقى الفطرة هي الباقية وتبقى الحال النازلة، بحق على ما هي عليه.
وحينما يتعالى المرء ويتعالم ويتعاظم ظناً منه ركوب السيادة وصعود سنة العمادة وقبض سدة النظر والتنظير إنما يقدم على سوء حياة شائنة، وسوء ذكر بين العقلاء، وسوء خاتمة إن لم يعد إلى ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام وخيار التابعين، ولذلك هلك شرذمة قليلة وبادت حينما جعلوا العقل مصدراً أولياً للمعرفة في الأفعال والأقوال والنتائج، لكن لندع ابن القيم الجوزية الذي يورد عباراته الشيخ الورع / عبد العزيز بن محمد السلمان، ويورد بجانبها عبارات من كلام ابن تيمية لندعه يقول كما جاء في كتابه «الأسئلة والأجوبة الأصولية على العقيدة الواسطية» ص91/92/93 (ط8)، يقول: (كيف يريد الله - سبحانه وتعالى- أمراً لا يرضاه ولا يحُبه، وكيف يشاؤه ويكونه.. وكيف تجتمع إرادته له وبغضه وكرهه...؟)
يُجيب هو فيقول: (هذا السؤال أصل الافتراق والإضلال الواقع بين طوائف المسلمين وفرق الموحدين إذا عُلم ذلك فاعلم أن المراد: نوعان:
1 مراد لنفسه.
2 ومراد لغيره.
فالمراد لنفسه مطلوب محبوب لذاته وما فيه من الخير، فهو مراد إرادة الغايات والمقاصد.
والمراد لغيره قد لا يكون في نفسه مقصوداً للمريد، وليس فيه مصلحة له وإن كان وسيلة إلى مقصوده ومراده، فهو مكروه له من حيث نفسه وذاته مراد له من حيث إفضائه وإيصاله إلى: مراده فيجتمع فيه الأمران:
1 بغضه.
2 وإرادته.
من غير تناف لاختلاف مُتعلقهما، وهذا كالدواء المتناهي في الكراهة إذا علم متناوله أن فيه شفاءه، وقلع العضو المتآكل إذا علم أن قطعه بقاء جسده، وقطع المسافة الشاقة إذا علم أنها توصل إلى مُراده ومحبوبه، بل العاقل يكتفي في إيثار هذا المكروه وإرادته بالظن الغالب وإن خفيت عنه عاقبته وطويت عنه مغبته فكيف بمن لا تخفى عليه العواقب فهو سبحانه يكره الشيء ويُبغضه في ذاته، ولا ينافي ذلك إرادته لغيره) إلى قوله: (من ذلك خلق إبليس الذي هو: مادة لفساد الأديان والأعمال.. إلخ).
ثم يقول: و(تنقسم الإرادة إلى قسمين:
1 كونية قدرية مرادفة للمشيئة..
2 إرادة دينية.
ثم يورد يقول: (قال شيخ الإسلام (ابن تيمية) الإرادة في كتاب الله نوعان:
1 إرادة تتعلق بالأمر.
2 وإرادة تتعلق بالخلق.
فإرادته المتعلقة بالأمر: أن يريد من العبد فعل ما أمره.
وأما إرادة الخلق فأن يريد ما يفعله هو، فإرادة الأمر هي المتضمن للمحبة والرضا، وهي الإرادة الدينية،
والإرادة المتعلقة بالخلق هي المشيئة، وهي: الإرادة الكونية،
فالكفر والفسوق والعصيان ليس مراداً للرب بالاعتبار الأول والطاعة موافقة لتلك الإرادة وموافقة للأمر المستلزم لتلك الإرداة) ص91/92/ 93/94.
وفي ص235 قال: (القدر السابق لا يمنع العمل ولا يوجب الاتكال، بل يوجب الجد والاجتهاد والحرص على الأعمال الصالحة، ولهذا أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم- أصحابه بسبق المقادير وجريانها، وجفوف القلم بها. فقيل له: أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل..؟
قال: لا، ولكن اعملوا فكل مُيسر لما خُلقَ لَهُ).
ثم أورد بعد ذلك يقول: (والناس في الشرع والقدر على أربعة أنواع.
1ـ فشر الخلق من يحتج بالقدر لنفسه، ولا يراه حجة لغيره يستند إليه في الذنوب والمعايب ولا يطمئن إليه في المصائب.
2ـ وخير الخلق الذين يستغفرون من المعايب ويصبرون على المصائب،
3ـ من لا ينظر إلى القدر لا في المعايب ولا في المصائب التي هي أفعال العباد، بل يضيفون ذلك إلى العبد، وإذا أساؤوا استغفروا وهذا حسن، لكن إذا أصابتهم مصيبة بفعل العبد لم ينظر إلى القدر الذي مضى بها عليهم، ولا يقولون لمن قصر في حقهم دعوة لو قضي شيء لكان ولا سيما، وقد تكون المصيبة بسبب ذنوبهم، فلا ينظرون إليها قال تعالى: (أولما أصابتكم مُصيبةٌ قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا.. قل: هو من عند أنفسكم).
4ـ من يحتج بالقدر لكل أحد، وهذا مذهب غلاة الجبرية». أ.ه
قال ابن لحيدان: ومن تأمل حال العقلانيين المجردين في أحوالهم وخلواتهم من الوحي وصادق وخز الفطرة يجد أنهم يجلدون عقولهم وذواتهم على كل حال تكون، وهذا سبب تعاليهم وتنظيرهم للفكر والأدب والفلسفة بل والاقتصاد والإدارة ونحو ذلك.
فهم يجعلون (العقل) مصدر المعرفة، كما يجعلون عقول الآخرين من المعجبين بهم مصدر معرفة في نواحي الحياة، فهم يقولون ويكتبون على هذا الأساس دون سواه ولا يلتفتون أبداً إلى ما يعتريهم من: القلق والتمزق والتشنج والإحباطات بل هم يجنحون دائماً إلى الإسقاطات النفسية على الآخر، ليس هذا منهم قناعة بما يذهبون إليه بل هو من تعذيب الذات للذات ووخز العقل الفطري الصحيح الذي كلما وخزهم وأنبهم كتموه فيذهبون إلى تمزق الله به عليم، ويذهبون إلى قلق مروع، فلا يجدون هروباً من واقع نفسي يرفضه داخلهم الفطري إلا بعراك سفيه كقضية المرأة وقضية اللغة وقضية: الفكر والدين وقضية الحق الذي ينطلقون به إلى مساحات واسعة، ويقولون: الحق مُتعدد تعمية للبسطاء وتضليلاً للذين ينشدون شهرة ما.
فالعقل متى ما جُعل مصدر معرفة في نظر الخلق والإيجاد والكون والإنسان والحياة أصبح وبالاً على صاحبه لأنه يعيش في دائرة ضيقة فيتلذذ بالحياة لذاتها، وبالأدب للأدب والفن للفن والجاه للجاه والمال للمال حتى إذا ما حلت به قارعة ولول وأسقط على الآخر إسقاطات تعرفها من أخزم، وكم جنت براقش ما جنت على أهلها.
وتجد غالب هؤلاء عند المصائب العظيمة يفقدون الصواب ويسيؤون الظنون، ويتصرفون تصرفاً إسقاطياً عجيباً، بل هل رأيت نفراً عند: الاحتضار لا جرم ترى عجباً، فالعقل مخلوق محدود النظر، بل هو جماد، بل هو لا يعرف نفسه إلا بما يجعل فيه. فإذا كان ما يجعل فيه أمراً خارجاً عن نطاقه من الوحي القرآني والسنة الصحيحة، كان هذا هو: العقل الصالح المصلح المحب الخير للغير، وإذا كان الآخر فإنما عقل باعه صاحبه لذات الحياة، وما يذهب إليه فأتعبه وشوهه وحرفه فعاش في دائرة مغلقة مظلمة، قد يتلذذ بها تلذذ السادي حيناً بعد حين، قال تعالى: (كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها) وليس أضر على المرء من ظلم العناد وظلم التعالم وظلم سوء الفهم، وعدم وضوح الرؤية كل هذه ظلمات (بضم الظاء) فحال صاحبها حال صعبة مريرة، قال تعالى: (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير) بسبب ظلمات العقل حسه ومعناه، ومن تدبر القضاء والقدر تدبره بعلم وفهم وتدبره بوعي سليم من كل شبهة أيقن جازماً أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ حكيم عليم في خلقه وفي أمره وإنما يؤاخذ العبد بعد أن يبين له ما يتقي قال تعالى: (إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً) وقال سبحانه: (بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره).
ويكفي دلالة على خطورة الأمر وبالغ حقيقته الذي قد يخفى على كثير من الناس لعدم إلقاء البال له (دعوة المظلوم) فكم حصل بسببها من ذهاب جاه/ ومال/ وصحة، فلو تدبر (العاقل العادل الأمين) هذا لأدرك حقيقة الخلق بين ثنايا القضاء والقدر، والأخذ للضعيف الغافل ولو بعد حين، لكن كثيراً من الناس قد لا يفطن لهذا تكبراً أو تساهلاً، أو لأنه يرى الظلم نوعاً من الدهاء والحنكة لأنه قد يُسمي الظلم بغير اسمه، لكن اليقظة عند النازلة القاتلة من الحكم العدل، لكن هل تجدي اليقظة هُنا؟.. كلا..، فالعقل ليس أصلاً إنما هو تبع للوحي، فتدبر وتأمل فخذ ودع.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد