بسم الله الرحمن الرحيم
هنالك نوعان من اليهودية: نوع معروف اليوم باسم المسيحية، ونوع معروف باسم اليهودية\".. هكذا بدأ صديقي القس\"ديفيد برايس\"حديثه حينما زرته في بيته مرة لأناقش معه موضوع عبادة إسرائيل في العقيدة البروتستنتية. والذي يقصده السيد برايس بهذا التقسيم أن المسيحية ربيبة اليهودية وفرع منها، وأن الانشقاق التاريخي بين الديانتين كان مجرد\"خطإ في التأويل متأثر بالرؤى السياسية والعرقية للدولة الرومانية القديمة\"كما قال لي فيما بعد، حينما طالبته بتقديم تفسير تاريخي لتقسيمه.
وديفيد برايس بالمناسبة ليس صهيونيا مسيحيا، ولا أصوليا مسيحيا، وهو ليس ممن يعبد إسرائيل، بل هو رجل دين مسيحي بروتستني معتدل يقود الكنيسة المشيخية Presbyterian في المدينة التي أعيش بها. وهو يتفهم مشاعر المسلمين كثيرا ويؤمن بالتسامح والحوار بين الأديان.
وما قاله ديفيد برايس يعكس العلاقة المعقدة بين المسيحية واليهودية اليوم. ومن أجل فهم هذه الرؤية نحتاج إلى إلقاء نظرة على المصادر.
يعتقد أغلب المسلمين أن المسيحية دين منفصل عن اليهودية في المصادر، وأن الإنجيل حل محل التوراة ونسخها. وهم معذورون في ذلك، فالتصور الإسلامي يقتضي أن الرسالة اللاحقة تغني عن السابقة، خصوصا إذا نال الأولى شيء من التحريف والتبديل. وهذا هو مفهوم\"الهيمنة\"الوارد في القرآن الكريم:\"مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه\".
لكن المصادر عند المسيحيين لا تقتصر على الإنجيل، بل تشمل التوراة. وهذا الذي يعنونه بتمسية\"العهد القديم\"أي التوراة، و\"العهد الجديد\"أي الإنجيل.
ولما كان حجم العهد القديم أكبر بكثير من العهد الجديد كان تأثير اليهودية في المسيحية واردا ومنطقيا.
ففي الترجمة العربية المعتمدة للكتاب المقدس التي أرجع إليها في هذه المقالات (طبعة سادسة جي. سي. سنتر مصر الجديدة القاهرة 1995) يبلغ عدد صفحات العقد القديم 1128 صفحة، بينما يبلغ عدد صفحات العهد الجديد 395 صفحة، أي أن التوراة تمثل 75% من\"الكتاب المقدس\"الذي يؤمن به المسيحيون.
فإذا أضفنا إلى ذلك أن الإنجيل عبارة عن أربعة أناجيل تحكي نفس القصة، أي أن معظمه مكرر، وجدنا أن نسبة 90% تقريبا مما يعتبره المسيحيون اليوم\"كتابا مقدسا\"هو توراة عبرانية، وأن الإنجيل مجرد 10% منه. فهل يُستغرب بعد هذا أن يكون للعهد القديم الأثر الأكبر على المسيحية المعاصرة؟ الحقيقة أن الذي يستغرب هو العكس، أي عدم تهود المسيحية منذ البدء.
وقد بيَّن الأب\"ديفيد ف. ريغان\"راعي كنيسة أنطاكية المعمدانية بمدينة\"نوكسفيل\"(ولاية تنَّسِي الأمريكية) دون لبس النتيجة المنطقية التي ترتبت على طغيان العهد القديم على الجديد. وذلك في مقال له بعنوان:\"ماذا يقول العهد الجديد عن اليهود\". ومما قاله الأب ريغان في مقاله مخاطبا اليهود:\"إن المؤمنين المعمدانيين يشكلون إحدى أقوى الجماعات المؤيدة للأمة الإسرائيلية، وحبنا [لإسرائيل] حب عميق جدا، وهو جزء لا يتجزأ من إيماننا... إن كتابنا المقدس يتألف من عهد قديم وعهد جديد، وعهدنا القديم هونفسه توراتكم اليهودية. ولما كان العهد القديم ضعف العهد الجديد ثلاث مرات، فإن 75% من كتابنا المقدس هي نفسها كتابكم، وذلك كثير من التراث المشترك... إن إيماني بصحة العهد الجديد هي السبب في حبي العميق للشعب اليهودي\".
لقد مكث المسيحون أكثر من ثلاثة قرون وهم مختلفون حول الأناجيل التي يجب اعتمادها والتي يجب التخلي عنها، حتى حسم مجمع نيقية الأمر عام 325م، واعتمد الأناجيل الأربعة المعروفة اليوم (متى، يوحنا، لوقا، مرقس) وألغى أناجيل أخرى (برنابا، توماس..الخ) لكن المسيحيين لم يختلفوا – إلا نادرا – في اعتبار التوراة العبرانية جزءا من كتابهم المقدس.
بيد أن اعتماد التوراة جزءا من\"الكتاب المقدس\"جعل المسيحية ديانة تلفيق وتناقض. وهاك بعض الأمثلة:
فالعهد القديم يدعو إلى التوحيد، أما العهد الجديد فيدعو إلى التثليث.
والعهد القديم يدعو إلى الحرب والإبادة، والعهد الجديد يبشر بالسلام والصفح.
والعهد القديم يعتبر اليهود\"شعب الله المختار\"إلى الأبد، والعهد الجديد يعتبرهم أمة ملعونة إلى الأبد.
لذا فإن المسيحيين لا يستطيعون اتخاذ موقف وسط منصف من اليهود، فهم إما أن يستعبدوهم أو يعبدوهم.. والسبب هو أن هناك رؤيتان في\"الكتاب المقدس\"حول اليهود، لا ثالث لهما: رؤية العهد القديم أو التوراة، وهي تؤله اليهود وتعتبرهم\"شعب الله المختار\"و\"أبناء الرب\"وأصحاب العهد الإلهي الأزلي بين الرب وإبراهيم - عليه السلام -. ورؤية العهد الجديد – أو الإنجيل – وهي تعتبر اليهود\"أعداء الرب\"و\"قتلة المسيح\"وأمة اللعنة والشقاء الأزلي.
وبسبب انحصار الأمر في هاتين الرؤيتين المتناقضتين لا يستطيع أغلب المسيحيين اليوم إلا تبني الثانية بعد أن تخلوا عن الأولى. أما الرؤية العادلة المنصفة، التي تعتبر اليهود مجرد بشر ممن خلق الله:\"بل أنتم بشر ممن خلق\".. فلا مكان لها لدى أغلب المسيحيين، بسبب تأثير نص الكتابين وما يشتمل عليه ذلك النص من تناقض صارخ لا يحتمل التوفيق والحلول الوسط.
وقد ظهر هذا المأزق مع بداية المراجعة للنظرة المسيحية القديمة ضد اليهود خلال عصر النهضة الأوربية. فمارتن لوثر مؤسس البروتستنتية هو مؤلف كتاب:\"المسيح ولد يهوديا\"وهو ذاته مؤلف كتاب\"اليهود وأكاذيبهم\".
وسنشرح أبعاد هذا المأزق في العقل المسيحي من خلال كتابي مارتن لوثر هذين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد