الصهيونية المسيحية والسياسة الأمريكية ( 1 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم





يقول الرئيس الأمريكي\"جيمي كارتر\"في مقدمة كتابه\"مصادر القوة\"Sources of Strength إن كتابه هذا هو حصيلة دروس تفسير\"الكتاب المقدس\"التي كان يقدمها في إحدى الكنائس المعمدانية بواشنطن خلال فترة رئاسته. بمعنى أن كارتر قرر أن يظل يلقي دروسه الدينية في كل الظروف، وأن لا ينقطع عنها حتى وهو رئيس للولايات المتحدة.

قد يكون هذا مفاجئا لكثيرين في عالمنا العربي والإسلامي، فلم يعتد الناس أن يكون الرئيس عندنا\"مدرسا للتفسير\"أو خطيبا للجمعة بعد تقاعده، فضلا عن أن يكون كذلك خلال فترة رئاسته. ولو حدث هذا لثارت ثائرة العلمانيين من كل المشارب والمذاهب، واعتبروا هذا رجوعا إلى\"قرون الظلامية والتعصب\".. لكن هذا ما حدث ويحدث في أمريكا، ولا أحد يستغربه أو يعترض عليه.

لن تكون هذه هي المفاجأة الوحيدة لك – على الراجح - في هذه السلسلة من المقالات التي نتناول فيها جدلية الدين والسياسة في أمريكا، مع التركيز على الصهيونية المسيحية وأثرها العميق على السياسة الأمريكية.

إن أغلب الناس في عالمنا العربي والإسلامي يميلون إلى تفسير السياسات الأمريكية في فلسطين وفي العالم الإسلامي بشكل عام تفسيرا مصلحيا، دون أخذ في الاعتبار القيمَ والرؤى الموجهة، والعقائدَ الدينية الدافعة إلى هذا الموقف السياسي أو ذاك. فيفقدهم ذلك عمق الربط بين السلوك والدوافع، والنظرة التركيبية الشاملة التي تحتوي مختلف جوانب الموضوع.

ويرجع هذا القصور المنهجي إلى تصور تبسيطي للعلاقة بين الدين والدولة في أمريكا، حيث يميل المثقفون المسلمون إلى قياس التجربة التاريخية الأمريكية على التجربة التاريخية الأوربية، من حيث هي نتاج لصراع مرير بين الكنيسة والدولة. ويزيد في هذا الخلط ضعف إلمامهم بتاريخ الكنيسة، وبالملل والنحل المسيحية، والتباين بينها في التصورات والخلفيات والسياسات.

وربما غابت عنهم حقيقة تاريخية مهمة، وهي أن الصراع بين الدين والدولة – حتى في أوربا - لم ينته بهزيمة الدين، بل بهزيمة الكنيسة وانتصار المسيحية. وهو أمر نحتاج إلى شيء من التجريد لفهمه: فهزيمة شخص أو مؤسسة يدعي تمثيل مبدأ أخلاقي أو فلسفي معين لا يعني بالضرورة هزيمة لذلك المبدأ، بل قد يكون نصرا مؤزرا للمبدأ ذاته.

على أن التاريخ الأمريكي له خصائص تجعله متميزا عن التاريخ الأوربي تميزا واضحا، فهو مصبوغ بصبغة الثقافة الأنغلوسكسونية، وبالعقائد البروتستنتية-اليهودية، كما أن للمكان والنشأة دورا في الطابع الذي انطبعت به الثقافة الدينية والسياسية الأمريكية.

ستشتمل هذه السلسلة – بإذن الله - على مقدمة عامة عن العلاقة بين المسيحية واليهودية عبر التاريخ، وكيف انتهى\"الإصلاح\"المسيحي الذي دشنه\"مارتن لوثر\"و\"كالفن\"بتهويد المسيحية، وكيف كان ذلك التهود نتيجة منطقية لمشكلة في المصادر المسيحية جعل المسيحيين البروتستنت يعتمدون\"العهد القديم\"أي التوراة العبرانية في تصوراتهم ونظام قيمهم أكثر مما يعتمدون\"العهد الجديد\"أو الإنجيل.

كما نتناول المخاض الفكري والاعتقادي الذي جعل المسيحية البروتستنتية تنتقل من استعباد اليهود بتهمة أنهم قتلة السيد المسيح - عليه السلام -، إلى عبادتهم باعتبارهم\"شعب الله المختار\"وعترة المسيح وعشيرته.

ويستمر التنازل التاريخي في السلسلة – بعون الله – فنتحدث عن سلطة التأويل التي يمتلكها رجل الدين المسيحي، وكيف مكنت تلك السلطة بعض رجال الدين البروتستنت، مثل القس الإنكليزي\"جون نلسون داربي\"والقس الأمريكي\"سكوفيلد\"من إعادة قراءة العقائد المسيحية المتعلقة باليهود وإعادة تأويلها، بما يقلبها رأسا على عقب.

وستشمل هذه السلسلة حديثا عن المفاهيم الأساسية للمسيحية الصهيونية التي تميزها عن باقي المسيحيين في التصور، أو تميزها عنهم في التأويل، مثل فهمها لمبدإ\"آخر الزمان\"و\"عودة المسيح\"و\"معركة أرمغدون\"و\"الرفع إلى السماء\"Rapture والألفية السعيدة Millennium.. الخ مع تحليل ضاف لنصوص التوراة والإنجيل حول تلك الموضوعات، وكيف يختلف فهم المسيحية الصهيونية لها عن فهم باقي المسيحيين.

يلي ذلك شرح للمنظور السياسي العام للمسيحية الصهيونية، من حيث إيمانها بـ\"الكتاب المقدس\"– وفق تأويلها الخاص - دستورا شاملا للحياة، ودليلا عمليا للسياسة الداخلية والخارجية، وما يتسم به هذا المنظور من تأويل غريب للعقائد المسيحية يطبعها بطابع جبري سوداوي متعطش للدماء، يميل إلى الإيمان بالقتل والإبادة وسيلة سياسية شرعية لتحقيق\"خطة الرب على الأرض\"، وينظر إلى العالم نظرة حدية فاصلة تقسمه إلى\"محور خير\"و\"محور شر\"كالخطين المتوازيين لا يلتقيان أبدا.

وتبقى أهم المؤسسات التي تمثل المسيحية الصهيونية في الولايات المتحدة بحاجة إلى وقفات في هذه السلسلة، ابتداء من المؤسسات الدينية كـ\"مجمع دالاس الاعتقادي\"Dallas Theological Seminary وغيره، أو السياسية كـ\"المجمع المعمداني الجنوبي\"Southern Baptist Convention. مع شرح عمل هذه المؤسسات في المجتمع الأمريكي، ووسائلها في التعبئة والضغط السياسي.

وأخيرا دور الصهيونية اليهودية في تسويق الصهيونية المسيحية، والترويج لهذه النظرة المسيحية الجديدة، التي تؤله اليهود، وتمقت المسلمين. والمخاطر التي تمثلها هذه الحركة الفكرية السياسية على المسلمين وعلى السلم العالمي، ودور المسلمين والمنصفين من أهل الكتاب في الوقوف في وجهها.. والتنويه بالجهد الذي تقوم به بعض المؤسسات المسيحية في هذا المضمار، مثل\"مجلس كنائس الشرق الأوسط\".. إذ هدفنا من هذه الحلقات ليس\"التحريض\"ضد المسيحية دينا، أو المسيحيين أمةً، بل\"التحليل\"لظاهرة توشك أن تضع المسلمين والمسيحيين عبر العالم على خطوط النار، وتخرج بهم عن منهج البر والقسط الذي دعا إليه القرآن الكريم في التعاطي بين المختلفين في الدين.

وربما برزت موضوعات، أخرى فضمناها هذه السلسلة، مما يفيض به الخاطر، ويسعف به مداد القلم أثناء إعداد هذه الحلقات. وعلى الله المعول في العون والسداد، هو الموفق لا شريك له.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply