الغرب من تهميش الكنيسة إلى معاداتها


 

بسم الله الرحمن الرحيم



تعيش الكنيسة الغربية بجميع أقسامها حالة إقصاء غير مسبوقة عن المجتمع في الوقت الراهن، بعد أن ساهم الكثير من العوامل التاريخية والسياسية في تكريس صورة نمطية عن الدين ورجال الكنيسة في أذهان شرائح كبيرة من المجتمع الغربي، جعلت مساهمتها في التغيير أو الإصلاح أمراً غير مقبول من تلك المجتمعات.

وتبدو ملامح هذا التنافر بين الكنيسة والشعوب الغربية في عدد من المظاهر التي أضحت تعبر عن نفسها بوضوح، وتتمثل في الابتعاد عن دور العبادة خصوصاً من الشباب.

من الملاحظ عزوف الشباب بشكل عام عن ارتياد الكنائس باستثناء حالات قليلة تضطرهم فيها المجاملات الاجتماعية مثل: الزواج، أو الوفاة، أو التعميد لحضور تلك المراسم، بل إن الكثيرين منهم اليوم يفاخرون بأنهم لم يدخلوا الكنيسة مرة واحدة في حياتهم!.

وإعراض الشباب عن مراسم العبادات - مع قلتها مقارنة بالعبادات الإسلامية - لا يمثل إعراضاً عن الكنيسة فحسب، بل يمثل في كثير من الأحيان حالة رفض لها، صارت أكثر وضوحاً، وأعلى صوتاً مع تبني الغرب لقداسة مبادئ الحرية الشخصية، وحرية العبادة.



الحركات الإلحادية والمادية:

سبقت موجة الإلحاد الغربي المبادئ الشيوعية التي تبنى الاتحاد السوفييتي سابقاً تصديرها للعالم، فالإلحاد وجد قبل الاتحاد السوفييتي ولم ينته بانتهائه، ويأخذ الإلحاد والمادية أشكالاً عديدة في الغرب منها: البراجماتية، والعلمية، ولا توجد مبادئ عامة يتفق عليها أصحاب هذه المبادئ الإلحادية بل هي مسألة اجتهادات شخصية، ونظريات فرديةº تخضع لتجربة كل شخص ومعارفه وثقافته.



انتشار الشذوذ الديني والجنسي والفكري:

كان من نتائج ثورة المجتمع على الكنيسة الغربية وتحييدها عن التدخل بشؤونه إطلاق العنان لأصحاب المبادئ والتجارب والأفكار للسعي لنشر تلك المبادئ والترويج لها، وحملت فيما حملت الكثير من المبادئ الشاذة عن الفطرة الإنسانية مثل: حركات الشذوذ الجنسي التي قامت وانتشرت رغم أنف الكنيسة، وصار لها منظمات وممثلون يدافعون عن حقوقها، واستطاعت اختراق المجتمع حتى وصلت إلى رجال الكنيسة أنفسهم، بل انتزعت منهم اعترافاً بأحقية الشاذين في العيش كأزواج مثل سائر الأزواج!، كذلك عادت إلى الظهور الكثير من العقائد الغربية الوثنية السابقة للمسيحية مثل: عبادة الشيطان، والكواكب، والإيمان بالخرافات، وظهرت حركات مماثلة بأشكال معاصرة جاءت لتحاول الرد على الكثير من التساؤلات والحاجات التي يحملها الشباب اليوم.

وأصحاب هذه المبادئ يحتلون مواقع سياسية وعلمية واجتماعية بارزة تجعل من الصعب الحد من انتشار مبادئهم.

والواقع أن المجتمعات الغربية ورغم التقدم العلمي الذي تعرفه اليوم لا تزال تؤمن بالخرافات إلى حد كبير، وتكفي نظرة بسيطة على برامج التنجيم والتنبؤ بالمستقبل ليدرك المرء أن تلك البرامج أصبحت تجارة مربحة هذه الأيام، إضافة إلى انتشار العرافين والمنجمين وقراء الكفº وهؤلاء يلقون إقبالاً شديداً من طبقات المجتمع المختلفة حتى المثقفة منها.



الشعور السائد في الغرب بوجوب استبعاد الكنيسة من الحياة العامة:

من المبالغة أن نقول إن دور الكنيسة قد انتهى تماماً في الغرب، فلا يزال للكنيسة الكثير من الأوراق التي تستطيع من خلالها تمرير بعض أفكارها، ومعارضة أفكار مناوئيها، لكن شبه المتفق عليه اجتماعياً وعلمياً استبعاد أي دور فعال للكنيسة من أي عملية إصلاح اجتماعي، أو نهضة إنسانية.



أسباب التراجع:

إذا كانت تلك أهم مظاهر التراجع الكنسي في حياة الغربيين فما الأسباب التي أدت إلى هذا التراجع وشكلت وقوده الأساسي؟

يمكن تلخيص هذه الأسباب في الآتي:

أولاً: الوصاية على المجتمعات الغربية:

أدت الحروب الدينية في الغرب والمدفوعة برغبات أجنحة الكنيسة المختلفة بإقصاء بعضها البعض عن الحياة العامة، وممارسة الوصاية الدينية الخانقة على تلك المجتمعاتº إلى وضع الكنيسة الغربية في موقع المتهم بالتحريض على الفرقة، وخنق الحريات، مما أدى في النهاية إلى الثورة الكبرى عليها.



ثانياً: إثارة الحروب عبر التاريخ:

إن الكثيرين من أهل الغرب لا يزالون اليوم يأخذون على الكنيسة الغربية إيقادها للحروب، والتشجيع عليها، ولا تزال الاتهامات بمسؤولية الكنيسة عن الحروب الصليبية والصراعات الدينية في أوروبا ومحاكم التفتيشº تشكل نقطة إزعاج وإحراج لها.



ثالثاً: التدخل في السياسات الداخلية والخارجية:

فالكنيسة لم تتخل يوماً عن محاولتها التدخل في الشؤون السياسية والاجتماعية على الساحة الدولية، وهذه المحاولات تحولت في كثير من الأحيان إلى صراعات بين الكنيسة ومناوئيها، أو بين أجنحة الكنيسة المختلفة، وينظر الغربيون إلى التنافس بين فرق المبشرين التابعة للكنائس المختلفة على أنه محاولة لبث النفوذ أكثر من نشر المبادئ أو التبشير بديانة.



رابعاً: رفض الكنيسة للمبادئ والنظريات العلمية:

وهذه المسألة أثارت سخطاً تاريخياً على الكنيسة، حيث لا تزال أفكار وصور حرق العلماء بحجة الهرطقة لجهرهم بنظريات تخالف معتقدات الكنيسة مختزنة في عقول الغربيين، ومن ثم فإن اتهامات العلمانيين الغربيين لرجال الكنيسة بالجهل العلمي والتاريخي لا تزال تلقى الكثير من المؤيدين، ويساند هذه الاتهامات واقع ندرة الجمع بين علوم الدين وعلوم الدنيا لدى رجال الكنيسة، فهؤلاء لدى الكثيرين مجرد ناطقين بالمبادئ الغيبية، غافلين عن المبادئ العلمية والسنن الكونية.

كذلك طرحت الثورة العلمية والثقافية الغربية الكثير من التساؤلات والتحديات على كل الأطراف المساهمة في توجيه المجتمع، فتقدم لها العلمانيون والماديون وأجابوا عنها على طريقتهم المادية، لكن الكنيسة لم تفلح حتى اليوم في الإجابة عن تساؤلات المجتمع الحائرة خصوصاً: مسائل التقدم العلمي، وعلاقة الدنيا والدين، حيث بدت حجج الماديين أقوى وأكثر صدى، وما انقسام المجتمع الغربي اليوم إلى فئتين شباب ومثقفين ابتعدوا عن الكنيسة، وعجائز وبسطاء مساندين لها إلا صورة واضحة لعدم قدرة الكنيسة على شفاء غليل المثقفين والشباب وتساؤلاتهم الكثيرة.



خامساً: مغالاة الدعوة إلى التجرد من المادية:

البون الشاسع بين ما تنادي به الكنيسة ولو نظرياً من الطهارة الكاملة والتبتل وبين مادية وشهوانية المجتمع الغربي جعلها تبدو كمن ينادي بالمستحيلات، فتلك المبادئ لم تفلح في تطهير رجالها والمنادين بمبادئها بدليل فضائحهم المتكررة، فكيف بالعامة؟!



سادساً: الفضائح الأخلاقية والمالية:

إن انتشار الشذوذ الجنسي بين رجال الكنيسة يعيد اليوم طرح مبدأ الرهبانية من أصله، إذ تأبى فطرة البشر إلا التعبير عن نفسها في حركات احتجاج من بعض الرهبان أنفسهم على منعهم من الزواج أو تقييده، ويلجأ بعضهم للزواج المدني عند استحالة عقد الزواج الكنسي مما يعرضهم للفصل من الكنيسة، وقد نشرت وسائل الإعلام اليونانية أكثر من مرة أنباء قيام كنسيين بعقد زواجهم مدنياً بعد فقدانهم لزوجاتهم إذ تحرم الكنيسة عليهم الزواج الثاني، وتشمل تلك التجاوزات الأخلاقية - بخلاف العلاقات الشاذة بين بعض الرهبان - محاولات اعتداء على نساء وأطفال يرتادون الكنيسة للعبادة أو للاعتراف، فيتعرضون لتحرشات واعتداءات جنسية من قبل رجال الكنيسة، أو تصبح اعترافاتهم مادة للتندر والفكاهة يتحدث بها الرهبان في المجالس العامة دون حرج.

كذلك هناك الفضائح المالية من سرقات للمال العام، وابتزاز منظم لأصحاب الحاجات الكنسية، إذ تصبح الحاجات الكنسية من عمادة الأطفال، أو عقود زواج، أو حضور وفاةº مجالاً لاقتناص المال، مع خلق تعقيدات إجرائية غير مبررة، وينظر الغربيون عادة نظرة ريب واتهام إلى أصحاب الثراء من رجال الكنيسة لما تركته تلك التجاوزات من انطباع سيئ لديهم.

وتأتي تعقيدات الإجراءات الكنسية لتثير في نفوس الغربيين الكثير من السخط، ولا أزال أذكر أحد الشبان روى لنا بحسرة كيف رفض مسؤول الكنيسة تعميد ابنته لأنه كان عقد على زوجته بعقد مدني، حيث طلب منه المسؤول إعادة إجراء زواجه كنسياً كشرط لتعميد ابنته، ولم يكن الشاب في حالة مادية تمكنه من إجراء كل تلك الطقوس.

كذلك فإن الإنسان الغربي لا يزال يتعجب من امتلاك الكنيسة لمساحات هائلة من العقارات والكثير من الأموال، بينما يكدح المواطن للحصول على لقمة العيش وفي مجتمع لا يعرف من التكافل الاجتماعي إلا ما تقر به الأطر القانونية، كالمعاش التقاعدي، وتعويض العاطلين عن العمل، وكانت أملاك الكنيسة الواسعة دائماً محل اتهام وتشكيك من قبل معارضيها، وتجرأ الكثيرون منهم على المطالبة بتجريدها من تلك الأملاك.



سابعاً: افتقار الكنيسة إلى فقهية العبادات والمعاملات:

فافتقار الكنيسة إلى فقه العبادات جعل مسألة التعبد محل اجتهاد شخصي، وتجارب عملية لا تستند إلى مرجع ديني، وتحكي إحدى العجائز كيف كانت أمها تلزمها وإخوتها بتكاليف الصيام والعبادات القاسية مما كان يسبب لهم الكثير من المعاناة، مما دفعها إلى تحرير أبنائها من أي التزام ديني أو كنسي.

كذلك فإن افتقار الكنيسة إلى فقه للمعاملات جعل تصرفات رجالها محل جدال وخلاف عميق بين هؤلاء أنفسهم أحياناً، وبينهم وبين عامة الشعب أحياناً أخرى، حيث يندر أن توجد مسألة لا تكون محل اختلاف أو تباين في وجهات النظر.



ثامناً: نجاح الحركات المناوئة للكنيسة في الضرب على أوتار حساسة:

الشاب الغربي يقدس الحرية الشخصية والإبداع إلى حد بعيد، ويكره القيود الاجتماعية والدينية، وهذا ما نجحت الحركات المعاصرة في استغلاله بشكل ماكر، حيث اخترعت مبادئ ومعتقدات تهدف إلى معاداة الدين والكنيسة، بحيث لا يكاد يجمع أصحاب تلك المبادئ سوى رغبة الانعتاق من أي رقابة أو سلطة، والعيش في عالم خاص يسمح بالحرية الفكرية والجنسية دون قيد أو شرط.

وكانت مسألة الإبداع الفني والثقافي هي الأخرى ثغرة استطاعت الحركات الهدامة استغلالها فطفت على السطح إبداعات لا تعرف من الإبداع سوى إطلاق العنان لكل غريب وشاذ ومتفلت، وظهرت الكتابات الملحدة، والروايات الجنسية الماجنة، ولم تلق احتجاجات الكنيسة أو من يلتقون معها آذاناً صاغيةº لأن مبدأ الحرية الفردية، وحرية الإبداعº يحظى بالحصانة والقداسة لديها.



هل تأثرت الدعوة الإسلامية بتراجع دور الكنيسة؟

قد يستغرب البعض طرح هذا السؤال لعدم تعلق الأمر الأول بالثاني، لكن الساكن في الغرب، والمتابع للأفكار المطروحة فيه يلاحظ أن مبدأ التعميم الذي يعتمده الغربي في الاتهام قد أثر في نظرة الغربيين إلى الإسلام، فكثير من الغربيين يصنفون المبادئ والأديان في قسمين: القسم العلمي المادي، الذي يعتمد على البرهان المحسوس كسبيل للإيمان، ويقابله القسم الغيبي الذي يفسر الحياة بطريقة الغيب غير المحسوسة، كما يلاحظ المراقب أن الغربي الذي أمعن في البحث في مبادئ الكنيسة قد أراح نفسه من عناء البحث في غيرها بعدما وضع الأديان كلها في سلة واحدة، إضافة لما يلقاه منذ الصغر من دعاية مغرضة عن الإسلام والمسلمين تبدأ بمرحلة الدراسة الأولى، وتنتهي بوسائل الإعلام المختلفة، وكثيراً ما يساهم فيها بعض رجال الكنيسة أنفسهم.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply