بسم الله الرحمن الرحيم
يقـرّر دستور الإيمان المسيحي الذي أقرته كنيسة روما العامة، بناء على قرار مجمع نيقية المسكوني للأساقفة عام 325 م. أن:
يسوع المسيح (هو) ابن الله الوحيد، المولود من الآب قبل كل الدهور، نور من نور، إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق، مسا و للآب في الجوهر، الذي به كان كل شيء، الذي من أجلنا نحن البشر و من أجل خلاصنا، نزل من السماء و تجسَّد من الروح القدس و من مريم العذراء و تأنَّس و صُلِب عنَّا على عهد بيلاطس البنطي و تألم و قبر و قام في اليوم الثالث \"[1].
تلك هي عبارة دستور إيمان النصارى بالمسيح بحروفـها، و هي ـ كما نرى ـ صريحة في النص على إلـهية المسيح و أنه إله حق غير مخلوق ـ أي أزلي بلا بداية ـ و أنه مساو للآب في جوهريته: أي في ألوهيته.
لكن دستور الإيمان هذا، حسب ظاهره، يؤدي للقول بتعدد الآلهة، باعتباره يثبت الغيرية بين الآب (الله) و الابن (المسيح) من جهة، مع تأكيده بنفس الوقت على إلـهية كل منهما و تساويهما في الألوهية.
إذن صار عندنا إلـهان اثنان! و هذا يتناقض بظاهره مع إيمان المسيحية القاطع بوحدانية الله، لذا لا بد من تفصيل تلك العقيدة المجملة، و بيان شرح مختلف فرق النصارى لها، لتتضح حقيقة ما يعتقده إخواننا النصارى حول المسيح و علاقته بالله - عز وجل - حسبما جاء في كتب عقائدهم و تقريرات لاهوتييهم، فنقول:
يعتقد الجمهور الأعظم من النصارى أن الله - تعالى - واحد ذو أقانيم ثلاث، و الأقنوم لفظة يونانية تعني الشخص Person، و هذه الأقانيم أو الأشخاص الثلاث هي: شخص الآب، و هو الخـالق لكل شيء و المالك و الضابط للكل، و شخص ابنه، المولود منه أزلا المساوي لأبيه في الألوهية و الربوبية لأنه منه، و شخص الروح القدس[2]، و هذه الأقانيم الثلاثة متحدة في الجوهر و الإرادة و المشيئة، إلا أن هذا لا يعني أنها شخص واحد بل هم أشخاص ثلاثة، كل واحد منهم إله كامل في ذاته غير الآخر، فالآب إله كامل، و الابن إله كامل غير الآب، و روح القدس أيضا إله كامل غير الآب و الابن، و لكن مجموع الثلاثة لا يشكل ثلاث آلهة ـ كما هو مقتضى الحساب! ـ بل يشكل إلـها واحدا، و يعترفون أن هذا لا سبيل لفهمه و إدراكه بالعقل و يسمونه \"سرّ التثليث\".
ثم يعتقدون أن الأقنوم الثاني لله، أي أقنوم الابن، هو الذي تجسد و صار إنسانا حقيقيا، بكل ما في الإنسانية من معنى، و هو المسيح المولود من مريم العذراء، فالمسيح في اعتقادهم إله إنسان، أي هو بشر حقيقي مثلنا تماما تعرض له جميع أعراض الضعف و الاحتياج البشرية، و هو في عين الحال إله قادر كامل الألوهية، و يسمون هذا بـ \" سر التجسد \".
و هكذا، فالمسيح، حسب تفسير قانون الإيمان المسيحي الذي تقرر في مجمع خلقيدونية سنة 451 م.، هو شخص واحد ذو طبيعتيـن، طبـيعة إنسـانية (ناسوت) و طبيعة إلهية (لاهوت) فهو إله بشر.
و نتيجة هذه العقيدة أن يكون عيسى المسيح - عليه السلام - ـ في نظرهم ـ شخص واحد هو خالق و هو نفسه مخلوق، رازق و مرزوق، قديم وحادث! معبود وعابد، كامل العلم و ناقصه، غني و محتاج!...الخ
أقول: و لو كانت هذه الصفات المتناقضة لشخصين اثنين اتحدا بمظهر واحد لكان هناك مجال لفهم ما يقولون، لكن الذي يعسر على العقل فهمه بل يستحيل فهمه و قبوله عقلا هو أن تكون هذه الصفات لشخص واحد و ذات واحدة.... لأن هذا بمثابة أن نقول أن هذا الشكل مربع و دائرة بنفس الوقت، أو موجود و معدوم بنفس الوقت؟! لكن على أي حال الكنيسة الغربية تؤمن بذلك و تقر بأن هذا لا سبيل للعقل البشري القاصر أن يفهمه و يدركه و لذلك تعتبره سرا من أسرار الله و تسميه، كما قلنا، بـ \" سر التجسد \".
ما تقدم كان عقيدة جمهور المسيحيين أي: الروم الكاثوليك (اللاتين) أو الكنيسة الغربية التي رئاستها في روما، و الروم الأرثوذكس، أي الكنيسة الشرقية اليونانية الأورثوذكسية التي رئاستها في القسطنطينية (و التي انفصلت عن الكنيسة الغربية عام 879 م. )، و البروتستانت بفرقهم المختلفة من أنجليكان ولوثريين و إنجيليين و غيرهم... الذين خرجوا من بطن الكنيستين السابقتين في القرن السادس عشر الميلادي و ما تلاه، لكن هناك طائفتين قديمتين من النصارى لم تعترفا أبدا بقرار مجمع خلقيدونية المذكور، الذي نص على أن المسيح شخص واحد في طبيعتين، و هما: النساطرة أتباع نسطوريوس و اليعاقبة أتباع يعقوب البرادعي.
أما النساطرة ـ و هم أقلية قليلة العدد تتوطن حاليا شمال غرب إيران وجنوب شرق تركيا و شمال العراق و عدد من المناطق الأخرى و يسمون كذلك بالآشوريين ـ فهم يميزون في المسيح بين شخصين: شخص عيسى البشر المولود من مريم العذراء الذي هو إنسان بشر محض، و شخص الله الابن، أو ابن الله الذي هو إله كامل، المتحد بعيسى الإنسان، حسب زعمهم، فالذي ولد من مريم العذراء هو عيسى الإنسان و ليس الله، و لذلك رفضوا قبول عبارة \" مريم والدة الله \"، كما أن الذي صُلِبَ ـ في اعتقادهم ـ و تألم و مات، لم يكن الله الابن، بل عيسى الإنسان البشر، و الحاصل أن المسيح في اعتقادهم شخصيتان متمايزتان لكل شخصية طبيعتها الخاصة: البشرية المحضة لعيسى الناصري المولود من مريم العذراء، و الإلهية المحضة لابن الله المتحد بعيسى في اعتقادهم.
و على النقيض من ذلك تماما الطائفة الأخرى و هم اليعاقبة، الذين يرون أن عيسى المسيح شخص واحد فقط، لا شخصان، و ليس هذا فحسب، بل هذا الشخص الواحد ذو طبيعة واحدة أيضا، و لذلك يُسمَّون أيضا بالمونوفيزيين، أي القائلون بالطبيعة الواحدة للمسيح، فاعتقادهم هو أن: أقنوم الابن من الله تجسد من روح القدس و مريم العذراء فصيَّر هذا الجسد معه واحدا وحدة ذاتية جوهرية، أي صار الله (الابن) المتجسد، طبيعة واحدة من أصل طبيعتين، ومشيئة واحدة و شخصا واحدا. و بعبارة أخرى: المركز المسيّر و الطبيعة الحقيقية لعيسى المسيح الذي ولد من مريم هي الألوهية المحضة، فهو الله عينه، أما بشريته فهي مجرد لباس فانٍ, في إلـهيته. فلذلك الله - تعالى -عندهم هو بذاته الذي وُلِدَ من مريم العذراء، لذا فهي والدة الله، و الله نفسه هو الذي عُذِّب و تألم و صلب و مات! ثم قام بعد ثلاثة أيام من قبره حيا. - تعالى -الله عن ذلك علوَّاً كبيراً.
قلت: و في هؤلاء جاء قوله - تعالى -: {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم، قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم و أمه و من في الأرض جميعا و لله ملك السموات و الأرض و ما بينهما يخلق ما يشاء و الله على كل شيء قدير} المائدة /17. و قوله - سبحانه - كذلك: {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم، و قال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي و ربكم، إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة و مأواه النار وما للظالمين من أنصار} المائدة / 72. و بهذا المذهب اليعقوبي تدين الكنيسة القبطية في مصــر وكنيسة الحبشة التابعة لها، كما هو مذهب السريان الأرثوذكس في بلاد الشام، و مذهب الكنيسة الأرمنية الغريغورية.
أما مذهب الجمهور الأعظم فهو الذي قال الله - تعالى -في شأنه: {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة و ما من إله إلا إلـه واحد، و إن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم} المائدة / 73.
و الحاصل أن جميع الفرق المسيحية تتفق على أن المسيح بشرٌ وإلهٌ بنفس الوقت! و إنما تختلف عن بعضها في مدى تأكيدها و إبرازها لأحد الجانبين الإلهية أو البشرية في المسيح، فاليعاقبة يؤكدون الجانب الإلـهي أكثر و على عكسهم النساطرة الذين يبرزون أكثر الجانب البشري في حين يطرح الجمهور الأعظم رؤية متوازية و متعادلة للجانبين الإلـهي و البشري دون ترجيح أي منهما على الآخر.
بهذا نكون قد عرفنا عقيدة مختلف الفرق النصرانية بإلهية المسيح و كيفية تفسيرهم لهذه العقيدة. لكن هل آمن جميع المسيحيين دون خلاف بهذه العقيدة؟ هذا ما تجيب عنه الفقرة التالية:
- عقيدة تأليه المسيح بين الرفض و القبول في الأوساط المسيحية عبر التاريخ:
يعترف جُلٌّ المؤرخين المسيحيين، أن هذا الاعتقاد بإلهية المسيح لم يصبح عقيدة مستقرة و سائدة بين المسيحيين إلا بعد انقضاء عهد الحواريين و عهد التلاميذ الأوائل للمسيح - عليه السلام -، أي بعد انقضاء قرن على الأقل على انتقال المسيح و رفعه، أما قبل ذلك، أي في القرن الأول لبعثة المسيح، فكانت مذاهب الناس في المسيح لا تزال متشعبة، فغالبية اليهود المعاصرين له أبغضوه و أنكروا رسالته من الأساس و اعتبروه ساحرا و دجالا ـ حاشاه من ذلك ـ و صرفوا جهودهم لمحاربة أتباعه و القضاء على دعوته، و في المقابل آمن به عدد من يهود فلسطين ممن تجرد لله - تعالى -و كان تقيا مخلصا، و رأوا فيه المسيح المبشر به في الكتب المقدسة السابقة، و من هؤلاء الحواريون، الذين تدل كتاباتهم و رسائلهم أنهم كانوا يرون في المسيح نبيا بشرا، و رجلا أيده الله - تعالى - بالمعجزات الباهرة ليرد الناس إلى صراط الله الذي ضلوا عنه و ابتعدوا عنه، و ليعلن بشارة الله - تعالى - بالرحمة و الغفران و الرضوان للمؤمنين التائبين... كما وجد في ذلك القرن الأول و ما بعده يهود تشبعوا بأفكار الفلسفة اليونانية سيما الأفلاطونية الحديثة منها وتشربت بها قلوبهم فنظروا للمسيح و لارتباطه بالله - عز وجل - بمنظار ما كانوا مشبعين به من تلك الفلسفة حول الإلـهيات، و ما تعلمه حول \"اللوجوس\" أي العقل الكلي الذي ترى فيه أول ما فاض عن المبدأ الأول ـ أي الله ـ فاللوجوس هو الوسيط بين الله في وحدته و بساطته المتناهية و بين العالم المتكثر، و به و فيه خلق الله العالم و الكائنات.... فطابقوا بين المسيح و اللوجوس، و كل هؤلاء كانوا يرون المسيح مخلوقاً لِلَّه، فلم يقولوا بإلهية المسيح و لا ساووه مع الآب في الجوهر.
و أخيرا كان هناك المؤمنون الجدد من الأمميين (الوثنيين) و غالبهم آمن بدعوة التلاميذ بعد رحلة المسيح، و هؤلاء كانوا متشبعين بثقافة عصرهم الوثنية الهيلينية التي تنظر للعظماء من أباطرة أو قادة فاتحين أو فلاسفة عظام، على أنهم أنصاف آلهة أو أبناء آلهة هبطت لعالم الدنيا و تجسدت، لخلاص بني الإنسان و هدايتهم.... فصار كثير منهم ينظرون لشخصية المسيح بنفس المنظار، خاصة أنه كان يعبر عن المسيح في لغة الأناجيل بابن الله، فأخذوا البنوة على معناها الحرفي لوجود نظير لذلك في ثقافتهم الوثنية، و رأوا فيه ابن الله الحقيقي الذي كان إلها فتجسد و نزل لعالم البشر لخلاصهم... و لاقت هذه العقيدة رواجا لدى العوام الذين يعجبون بالغلو في رفع مقام من يقدسونه و يؤمنون به و يرون ذلك من كمال الإيمان به و المحبة له، و قد لعبت عدة عوامل سياسية و ثقافية و اجتماعية و حتى لغوية ـ ليس هنا موضع بسطها ـ لصالح الاتجاه الوثني الأخير في النظر لشخصية المسيح، فساد و انتشر، و شيئا فشيئا صار هو الأصل و صارت مخالفته هرطقة و خيانة لحقيقة المسيح، و صار الموحدون، أي الأتباع الحقيقيون للمسيح، فئات ضئيلة عرضة للاضطهاد، يُنظَر إليها على أنها مبتدعة ضالة!
لكن هذا لا يعني أن الموحدين انتهوا تماما، بل إن التاريخ و الوثائق تثبت أنه و جدت و لا تزال، في كل عصر من عصور تاريخ المسيحية و حتى يومنا هـذا، أعداد غير قليلة من علماء النصارى و عامتهم ممن أنكر تأليه المسيح ورفض عقيدة التجسد و التثليث مؤكدا تفرد الله الآب لوحده بالألوهية و الربوبية والأزلية، و أن المسيح مهما علا شأنه يبقى حادثا مخلوقا، هذا و قد حظي أولئك الأساقفة أو البطارقة الموحدون بآلاف بل عشرات آلاف الأتباع والمقلدين، و ليس ههنا مجال لذكر و استقصاء أسماء كل من نقله التاريخ لنا من أولئك الموحدين الأعلام، و من رام الاطلاع المفصَّل على ذلك فعليه بالكتاب القيِّم المسمى: \" عيسى يبشِّر بالإسلام \" للبروفيسور الهندي الدكتور محمد عطاء الرحيم، و الذي ترجمه إلى العربية الدكتور (الأردني) فهمي الشما، فقد ذكر فيه مؤلفه الفرق النصرانية الموحدة القديمة و تحدث في فصل كامل عن أعلام الموحدين في النصرانية، استوعب فيها أسماءهم و تراجمهم و كتاباتهم و دلائلهم على التوحيد و أحوالهم و ما لاقوه من اضطهاد و محاربة في سبيل عقيدتهم، ونكتفي هنا بإشارة سريعة لأسماء أشهر الفرق و الشخصيات النصرانية الموحدة البارزة عبر التاريخ: فقد ذكرت المراجع التاريخية النصرانية، التي تتحدث عن تاريخ الكنيسة، أسماء عدة فرق في القرون المسيحية الثلاثة الأولى كانت تنكر التثليث و التجسد و تأليه المسيح و هي: فرقة الأبيونيين، و فرقة الكارينثيانيين، و فرقة الباسيليديين و فرقة الكاربوقراطيين، فرقة الهيبسيستاريين، و فرقة الغنوصيين.
و أما أشهر القساوسة و الشخصيات المسيحية الموحدة القديمة التي تذكرها تلك المصادر فهي:
ديودوروس أسقف طرطوس.
¨ بولس الشمشاطي، و كان بطريركا في أنطاكية و وافقه على مذهبه التوحيدي الخالص كثيرون و عرفوا بالفرقة البوليقانية.
¨ الأسقف لوسيان الأنطاكي أستاذ آريوس (توفي سنة 312 م. )
¨ آريوس أسقف كنيسة بوكاليس في الإسكندرية (250 ـ 336 م. ) و قد صار له ألوف الأتباع عرفوا بالآريوسيين و بقي مذهبهم التوحيدي حيا لفترات زمنية طويلة و صار آريوس علما للتوحيد حتى أن كل من جاء بعده إلى يومنا هذا و أنكر التثليث و إلهية المسيح، يصمه رجال الكنيسة الرسميون بأنه آريوسي!!.
¨ يوزيبيوس النيقوميدي أسقف بيروت ثم نقل لنيقوميديا عاصمة الإمبراطورية الشرقية، و كان من أتباع لوسيان الأنطاكي و من أصدقاء آريوس.
أما أشهر الموحدين من رجال الدين و المفكرين المسيحيين المتأخرين فهم:
1) المصلح المجاهد الطبيب الأسباني ميخائيل سيرفيتوسMichael Servitus (1151 ـ 1553): تأثر بحركة الإصلاح البروتستانتية لكنه خطا في الإصلاح خطوات جذرية و جريئة أكثر، فأعلن بطلان عقيدة التثليث و رفض ألوهية المسيح بشدة و كان يسمي الثالوث بـ\" الوحش الشيطاني ذي الرؤوس الثلاثة! \" و قام بحركة نشطة جدا في الدعوة إلى التوحيد الخالص، و قد اتهمته الكنيسة بالهرطقة و اعتقلته ثم أعدمته حرقا. لكنها لم تستطع إعدام أفكاره وكتاباته التي انتشرت في وسط و شرق أوربا انتشار النار في الهشيم و صار لها عشرات الألوف من الأتباع و المؤيدين.
2) القسيس الروماني فرانسيس ديفيد Francis David (1510 ـ 1579): صار أسقفا كاثوليكيا أولا ثم اعتنق البروتستانتية ثم وصل في النهاية للتوحيد الخالص فأبطل التثليث و نفى ألوهية المسيح، و قد أوجدت أفكاره فرقة من الموحدين في بولونيا و المجر (هنغاريا) و أثرت أفكاره حتى في ملك هنغاريا الذي أصدر بيانا أمر فيه بإعطاء الموحدين حرية العقيدة.
3) اللاهوتي الإيطالي فاوستو باولو سوزيني Fausto Paolo Sozini (1539 ـ 1604): اشتهر باسم سوسيانوس Socianus، نشر كتابا إصلاحيا ينقد عقائد الكنيسة الأساسية من تثليث و تجسد و كفارة و غيرها، ثم توصل للتوحيد الخالص و أخذ يؤكد عليه في كتاباته و رسائله و انتشرت تعاليمه في كل مكان و عرفت مدرسته أو مذهبه اللاهوتي باسم \" السوسيانية \"، أما مخالفوه فسموا أتباعه بـ \" الآريانيين الجدد \"(أي أتباع مذهب آريوس القديم). و بعد وفاته جمعت رسائله و كتاباته في كتاب واحد نشر في مدينة \"روكوف\" Rokow في بولندا، و لذلك أخذ اسم \" كتاب العقيدة الراكوفية \"، و قد تعرض أتباع السوسيانية لاضطهاد وحشي منظم منذ عام 1638 و حرق الكثير منهم أحياء أو حرموا حقوقهم المدنية و حرقت كتبهم، و في سنة 1658 خُـيِّرَ الناس بين قبول الكاثوليكية أو الذهاب للمنفى، فتوزَّع التوحيديون في أطراف أوربا و ظلوا فئات منفصلة لفترات طويلة، و قد لقيت السوسيانية رواجا عميقا في هنغاريا (المجر) ثم بولندا و ترانسلفانيا (إقليم في رومانيا) و انتشرت منها إلى هولندا ثم بريطانيا و أخيرا سرت للولايات المتحدة الأمريكية و كانت وراء نشوء الفرقة الشهيرة التي تسمت باسم التوحيديين The Unitarians.
4) الأستاذ المحقق البريطاني جون بيدل John Biddle (1615 ـ 1662): يعتبر أبا مذهب التوحيد في إنجلترا، حيث قام بنشاط إصلاحي قوي و رائع في بريطانيا و نشر رسائله التوحيدية المدللة بأقوى البراهين المنطقية على بطلان إلـهية المسيح و بطلان إلـهية الروح القدس، و تفرد الله (الآب) وحده بالإلـهية و الربوبية، و قد تعرض هو و أتباعه لاضطهاد شديد و حوكم و سجن عدة مرات و توفي أخيرا و هو سجين بسبب سوء ظروف السجن و سوء المعاملة فيه و قد أثرت أفكاره في الكثيرين من متحرري الفكر في بريطانيا فآمنوا بها و من أشهرهم: السيد ميلتون Milton (1608 ـ 1674) و السيد إسحاق نيوتن Sir Issac Newton (1642 ـ 1727) العالم الفيزيائي الشهير، و أستاذ علم الاجتماع جون لـوك John Lock (1632 ـ 1704)، و كلهم ساهم بدوره في نقد عقائد و تعاليم الكنيسة المعقدة غير المفهومة كالتثليث و التجسد و إلهامية كل ما في الكتاب المقدس و... الخ بما كتبوه و نشروه من كتب و أبحاث و رسائل قيمة.
5) القسيس البريطاني توماس إيملين Thomas Emlyn (1663 ـ 1741): و كان من القساوسة البروتستانت المشايخية Presbyterian و نشر كتابا بعنوان: \" بحث متواضع حول رواية الكتاب المقدس عن يسوع المسيح \" بيَّن فيه بطلان القول بإلـهية المسيح و بطلان القول بتساويه مع الآب، فقبض عليه و اتهم بالهرطقة و نفي من بريطانيا لكنه رغم ذلك لم يتوقف عن دعوته للتوحيد التام، و نشر رسائله المدللة بالبراهين القوية من الكتاب المقدس، على نفي إلـهية المسيح أو إلـهية الروح القدس، و وجوب إفراد الله - تعالى -وحده بالعبادة و الصلوات، و تعتبر رسائله من أقوى و أحسن ما كتب في هذا الباب و كان عدد القساوسة البريسبيتاريين Presbyterians الذين انضموا إليه و آمنوا بآراء آريوس و غيره من الموحدين في بداية القرن الثامن عشر الميلادي عددا لا يستهان به.
6) القسيس البريطاني ثيوفيلوس ليندسيTheophilos Lindsy (1723 ـ 1808): و كان منظم أول جماعة مصلين موحدة في إنجلترا، و كان يؤكد أنه ليست الكنائس فقط مكان عبادة الله، بل للإنسان أن يختار أي مكان لأداء الأدعية و الصلوات لله وحده فقط.
7) القسيس و العالم البريطاني جوزيف بريستلي Joseph Priestly (1733ـ 1804): و كانت أبعد كتاباته أثرا كتاب \"تاريخ ما لحق بالنصرانية من تحريفات\"و جاء في مجلدين. و قد أثار هذا الكتاب ثائرة أتباع الكنيسة الرسمية و أمروا بإحراقه فيما بعد، كما ألف كتابا رائعا آخر في دحض التثليث و إبطال ألوهية المسيح سماه \" تاريخ يسوع المسيح \". هذا و قد اهتم بريستلي كذلك بالكيمياء و اكتشف الأوكسجين الأمر الذي أكسبه شهرة عالمية. و قد هاجر بريستلي في آخر عمره إلى أمريكا و أنشأ هناك الكنيسة التوحيدية Unitarian Church، و توفي في بوسطن.
8) القسيس الأمريكي ويليام إيليري تشانينغ William Ellery Channing (1780 ـ 1842): كان له الفضل في تطوير و إرساء دعائم الكنيسة التوحيدية في أمريكا و بريطانيا و التي يربو عدد أتباعها اليوم على المائة و الخمسين ألفا على الأقل، و ذلك بفضل مواعظه المؤثرة البليغة و خطبه القوية و محاضراته القيمة، هو و مساعده القسيس رالف والدو أيميرسن Ralph Waldo Emerson. و من الجدير بالذكر أن أفكار فرقة الموحدين Unitarians هذه تسربت إلى قادة الحركة التي قامت بتأسيس مدرسة اللاهوت العصرية في جامعة هارفورد الشهيرة في سنة 1861.
9) البروفيسور البريطاني المعاصر جون هيك John Hick أستاذ اللاهوت في جامعة برمنجهام و صاحب الكتاب الممتاز “ The Myth of God Incarnate” أي: أسطورة الله المتجسد، الذي ترجم للعربية و لعدة لغات عالمية، و يضم مقالات له و للفيف من كبار الأساتذة و الدكاترة في اللاهوت و مقارنة الأديان في جامعات بريطانيا، محورها جميعا ما أشار إليه البروفيسور هيك نفسه في مقدمة كتابه ذاك حيث قال ما نصه:
[The writers of this book are convinced that another major theological development is called for in this last part of the Twentieth Century.The need arises from growing knowledge of Christian origins and involves a recognition that Jesus was (as he is presented in Acts 2.21) “A man approved by God “ for a special role within the Divine purpose، and that the later conception of him as God Incarnate، The Second Person of the Holy Trinity living a human life، is a mythological or poetic way of expressing his significance for us. ].
و ترجمته: [إن كُتَّاب هذا الكتاب مقتنعين بأن هناك، في هذا الجزء الأخير من القرن العشرين، حاجة ماسة لتطور عقائدي كبير آخر. هذه الحاجة أوجدتها المعرفة المتزايدة لأصول المسيحية، تلك المعرفة التي أصبحت تستلزم الاعتراف بعيسى أنه كان (كما يصفه سفر أعمال الرسل: 2/21): \" رجل أيده الله \" لأداء دور خاص ضمن الهدف الإلـهي، و أن المفهوم المتأخر عن عيسى و الذي صار يعتبره \" الله المتجسد و الشخص الثاني من الثالوث المقدس الذي عاش حياة إنسانية \" ليس في الواقع إلا طريقة تعبير أسطورية و شعرية عما يعنيه عيسى المسيح بالنسبة إلينا].
و أخيرا فإن المتتبع لمؤلفات المحققين الغربيين المعاصرين حول تاريخ المسيحية و تاريخ الأديان و المطالع لما تذكره دوائر المعارف البريطانية و الأمريكية الشهيرة حول المسيح و تاريخ تطور العقيدة النصرانية والأناجيل، يجد أن الغالبية العظمى من هؤلاء المفكرين و الكتَّاب العصريين لا تماري و لا ترتاب في كون غالب العقائد المعقَّدة للكنيسة النصرانية، لا سيما التثليث و التجسد و الكفارة و الأقانيم... ما هي إلا تعبيرات فلسفية بعدية عن رسالة المسيح التي لم تكن إلا رسالة توحيدية أخلاقية بسيطة. ولم يبق إلا القليل جدا من المفكرين و دكاترة اللاهوت و أساتذة علم الأديان الغربيين ممن لا يزال يرى أن عقائد الكنيسة الرسمية تلك تمثل بالضبط نفس تعاليم المسيح و تعكس حقيقة رسالته.
و في الختام أشير إلى أن كثيرا من الفرق النصرانية الجديدة، التي انشقت عن الكنيسة في قرننا هذا و الذي سبقه، خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية، تتفق على إنكار إلـهية المسيح و إنكار التثليث و رفض فكرة: الله ـ الإنسان، و تنظر لبنوَّة المسيح لله على معنى مجازي لا حرفي، و من أشهر هذه الفرق الجديدة التي قالت بذلك:
¨ فرقة الموحدين أو التوحيديين The Unitarians
¨ فرقة شهود يهوَه s Witnesses’ Jehovah
¨ فرقة الروحيين The Spiritualist
¨ فرقة العلم المسيحي The Christian Science
مع العلم أن لكل واحدة من هذه الفرق عشرات الكنائس و عشرات آلاف الأتباع من مختلف الطبقات، لا سيما الطبقات المثقفة العصرية، في الولايات المتحدة الأمريكية و كثير من بلدان العالم الأخرى.
----------------------------------------
[1] كتاب سوسنة سليمان في أصول العقائد و الأديان، لمؤلفه النصراني: نوفل أفندي نوفل، طبع المطبعة الأمريكية في بيروت عام 1922، ص 137.
[2] و الكاثوليك يعتبرون الروح القدس منبثقا من الآب و الابن كليهما في حين يعتبره الروم الأرثوذكس منبثقا من الآب فقط، أما البروتستانت فلا يتعرضون لشيء من ذلك بل يكتفون بالقول بألوهية الروح القدس و أنه أقنوم الذات الإلـهية الثالث.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد