بسم الله الرحمن الرحيم
هبت رياح التغيير على الأمة الإسلامية في أواخر القرن الحادي عشر الهجري، السادس عشر الميلادي، وفقدت الأمة ريادتها، وابتدأ الأجانب الكفار يستولون على أراضيها، ويقتطعون ممتلكاتها. وهبت الأمة تدافع عن أرضها وعرضها، وانتصرت مرة وهزمت مرات لكنها لم تتنازل أبداً عن دينها وإسلامها، ولم تفكر يوماً بترك شريعتها وقرآنها وسنة نبيها - صلى الله عليه وسلم - حتى استطاع الكفار أن يصنعوا على أعينهم نفراً خطائين من بني جلدتنا أنشأهم إنشاءً، ورباهم على مفاهيمه وضلالاته، واستطاعوا أن يبوئوهم المناصب العليا. ولما خرج الاستخراب العالمي من أرض الإسلام ترك هؤلاء يعيثون في الأرض الفساد، ويخنقون رقاب العباد، ويسيطرون على مقاليد الأمور، فتطلع المسلمون للتخلص من هؤلاء وظلمهم وقهرهم وفسادهم، فاتجهوا إلى الاشتراكية والشيوعية والقومية فزادتهم وهناً على وهن وضعفاً على ضعف، وازدادت المظالم، وتقلصت الحريات إلى أدنى حد.
وجاء الله - تعالى - بالصحوة الإسلامية وعادت طوائف كثيرة من الناس إلى إسلامها، وطالبت بحرياتها في تحكيم شرع الله - تعالى -، واشتدت سطوة الحكام، وضيقوا الخناق على شعوبهم أكثر من ذي قبل، وفجأة انهار الاتحاد السوفيتي وانهارت معه كل المفاهيم الشيوعية والاشتراكية، وصار العالم تبعاً للقوى الغربية الرأسمالية ومفاهيمها، وسيطر مصطلح الديمقراطية وعلا على كل المصطلحات الأخرى، وصار الغرب وعلى رأسه أمريكا يبشر بميلاد فجر جديد ومجيء رسالة جديدة إلى العالم كلها ألا وهي الديمقراطية، وأراد فرضها على الناس أجمعين، ومن لا يستجيب له فإن هناك من الوسائل ما يضمن الرضوخ والاستجابة، وحقاً إن هذا شيء عجيب أن تفرض الديمقراطية على الشعوب بالقوة والإكراه، وفي هذا من التناقض الظاهر ما فيه.
والذي يهمنا ها هنا هو أن نعرف ما هي هذه الديمقراطية التي يبشر بها الغرب، إنها نظام سياسي يُحكم فيه الشعب بالشعب وبما يريده، ويضمن التداول السلمي للسلطة، وإمكان محاسبة المسؤولين عن طريق برلمانات منتخبة، لكن هل هو كذلك فقط؟ لا، إن الديمقراطية تذهب أبعد من ذلك بكثير متوغلة في حياة الناس، فهي قائمة على اللادينية (العلمانية)، وهي كذلك تتحكم في حياة الشعوب بما يريده بعض الشعب وهو المختار في البرلمان فقط وهم بضع مئات، فإذا أراد هؤلاء المئات، إباحة اللواط فعلوا، وإذا أرادوا إباحة زواج المرأة بالمرأة والرجل بالرجل أقدموا وشرعوا وسنوا، وإذا قرروا أي أمر واجتمع عليه أكثريتهم صار قانوناً، بقطع النظر تماماً عن الأديان وموقفها من هذا الأمر، فأنت ترى إذاً أن الديمقراطية ليست نظاماً سياسياً فقط بل أصبحت متصلة بحياة الناس الاجتماعية على وجه لم يسبق له مثيل. وتطلع المسلمون إلى هذه الديمقراطية المنبتة الصلة بالدين بشغف، وكل ينظر إليها من منظاره، فالفاسدون ينظرون إليها على أنها ستحقق لهم شهواتهم ورغباتهم في التحلل أو التخفف من الروابط الشرعية، والصالحون ينظرون إليها على أنها ستخفف من وطأة الحكام عليهم، وأنها ستكون مفسحة لحريات كثيرة، لكنهم لم يفكروا التفكير المناسب في تبعات هذه الديمقراطية، وصلتها بالشريعة الإسلامية، وصلتها بالقوى الداخلية والخارجية على النحو التالي:
1- تجربة الديمقراطية في أكثر البلاد العربية والإسلامية تجربة مشوهة مبتورة، وقد وضعت بسببها وتحت مظلتها عدد من القوانين المضادة المحادة لدين الله - تعالى - تحت ضغط الأغلبيات البرلمانية البعيدة عن دينها، والتي لم ينتخب أكثرها وإنما جاءت بسبب تزوير فاضح فادح.
2- القوى الخارجية لا تريد للبلاد الإسلامية أن تسلك المسلك الديمقراطي الكاملº لأنها تعلم أن المسلمين الصالحين الدعاة هم الذين سيسيطرون على البرلمانات آنذاكº لذلك تسلك معهم سياسة الحصان والجزرة، فتعدهم وتمنيهم، وفي الوقت نفسه تسعى بقوة لوأد كل توجه ديمقراطي حقيقي، وما تجربة الجزائر وتركيا عنا ببعيدة.
3- لم ينتبه الدعاة إلى أن المطالبة الملحة بالديمقراطية، والتنادي بها والاجتماع عليها، وجعلها مطلباً شعبياً عاماً، لم ينتبهوا إلى أن هذه المطالبة فيها محذور كبير وهو أن المجتمع الإسلامي صار يرى في الديمقراطية النجاة والحياة السعيدة، وأنها ستحل له مشكلاته، إذاً أين النظام الإسلامي؟! وأين حلوله؟! وإذا كانت الديمقراطية هي التي تملك مفاتيح الحل فلماذا المطالبة بالنظام الإسلامي إذن؟ وهذا هو مكمن الخطر في هذه المناداة التي صارت ينادي بها أكثر الصالحين من الدعاة والعاملين بل كثير من المشايخ وطلبة العلم، وصرت تسمع كثيراً من الدعاة والصالحين يقول الواحد منهم، أنا ديمقراطي أو يا أخي: كن ديمقراطياً، وفي المجالس تسمعهم يقولون: فلنكن ديمقراطيين ولنرض بالرأي الآخر؟! وهل الإسلام يحجر على الرأي الآخر؟!
نعم أنا أعلم أن الإسلاميين ينادون بالديمقراطية لسببين: لأنها اللغة السائدة المفهومة في العالم اليوم، ولأنها خير لهم من النظم الاستبدادية، لكن ألم يتنبهوا إلى أن صيحة المناداة بالديمقراطية صارت عالية إلى درجة أنه قد تعمى على الناس بسببها المسالك الشرعية الصحيحة، ولماذا لا يقولون: أنا شوري، وكن شورياً، ولنكن شوريين، وبعض الإسلاميين يقول: الشورى فيها خلاف هل ملزمة أو معلمة؟ وأنا أقول: لماذا لا نتفق على أنها ملزمة – كما ذهب إلى ذلك كثير من المشايخ المفكرين والدعاة – ونجعلها نظاماً عاماً ننادي به ونطالب، بل نعرضه على العالم كله على أنه نظام شرعي محكم فيه من الإيجابيات ما هو أفضل من إيجابيات النظام الديمقراطي، وفي الوقت نفسه يتفادى سلبيات الديمقراطية ومهلكاتها الاجتماعية.
يا قوم: ألا نفهم أن ترداد مصطلح الديمقراطية باستمرار، والمناداة بها على رؤوس الأشهاد ليل نهار، وأن تنشأ الأجيال على سماعها والتشوق لتطبيقها فيه من الخطر ما فيه، وفيها الاعتراف الضمني بل الصريح – أحياناً – بحسن هذا النظام وإحكام وضعه، وفيه ما فيه من التغاضي عن السلبيات الكثيرة التي تصاحب تطبيقه؟ ثم ألا ترون أن هذا المناداة بهذا النظام وتمنيه وتنشئة الأجيال على حبه والمطالبة به فيه مهمز عقدي واضح، وخلل في الفهم والتفكير خطير. إن أعظم ما يتمناه الغرب أن ينادي الإسلاميون الدعاة الفاهمون - الذين تنبني على جهودهم وصفاء فهومهم الآمال- بالديمقراطية الغربية ويطالبوا بها الهيئات العالمية، ويطالبوا بها حكامهم ورؤساءهم، لعمر الحق إن هذا الشيء عجيب يستحق منا التفكير العميق ومراجعة النفس والخروج على العالم بمصطلح الشورى والشورية الذي خفت كثيراً في ظل توهج الديمقراطية المأمولة والمشتهاة.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد