بسم الله الرحمن الرحيم
إن إبعاد الشريعة الإسلامية عن الحياة رزية عظيمة للحياة، بل قضاء على الحياة. والناس بدونها {صَرعَى كَأَنَّهُم أَعجَازُ نَخلٍ, خَاوِيَةٍ,} [الحاقة:7] وجثثاً لا روح فيها، مهما بدت للعيان كأنها حية تأكل الطعام وتمشي في الأسواقº إذ الحياة على هذا النحو الفارغ من الإيمان هي مجرد حياة، كحياة من قال فيهم رب العزة: {وَلَتَجِدَنَّهُم أَحرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ,} [البقرة:96].
إن الكل يعلم أن العلمانية هي اللادينية، وهذا يكفي المسلم في إنكارها واستنكارها والبراءة منها ومن أهلها. وتجدر الإشارة هنا إلى أنه لا صلة تربط بين العلم والعلمانية البتة. ولهذا نصحح للذين ينطقون الكلمة بكسر العين، أن الفتح هو الأصح، وأنها عَلمانية لا عِلمانية. والنسبة فيها إلى العَلم لا إلى العِلم. فتنبه إلى هذا. فالعلم بريئ من ساحة الجاهلية، الجاهلية جهل. والعلم كل العلم فيما قال الله - تعالى - وما قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، وما قاله الصحابة - رضي الله عنهم - أجمعين.
إن أمة لا يحكمها شرع الله - تعالى - أمة ميتة، ولن ينفخ فيها الروح من جديد إلا أن تعود لمصدر الحياة الوحيد، ألا وهو الاستجابة لله العزيز الحميد، ولرسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - وهديه التليد: {يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا استَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحيِيكُم} [الأنفال:24] فشرع الله يحيينا، وشرع البشر سم قاتل مميت. شرع البشر مزرعة للظلم وحمى للظالمين، شرع البشر ساحة تتفاقم فيها المعضلات وتتوالد فيها المآسي. شرع البشر شرع قاصر بقصور البشر، جاهل بجهل البشر، شرع محكوم بالهوى والنفعية والجهل.. ولا يستطيع الإنسان أن ينفك عما جُبِل عليه من هذه النقائص، إذ هي من نسيج مكوناته وصنعته، ومِلاط بنيته وطِلاء واجهته.. وهذا ما يجعل شرع الإنسان يحمل كل النقائص الطابعة لفطرته، ولا يرجى الكمال من ناقص، وفاقد الشيء لا يعطيه.
ومما هو معطل من شرع الله - تعالى - والذي هو أحد أسباب الحياة: القصاص. وتعطيل القصاص وحده يكفي لإشاعة الفوضى والجريمة والانتقام والثأر بين الناس. وهذا الإقصاء في صورته الجزئية هذه باب من أبواب الموت للمجتمعات والأفراد. قال الله - تعالى -: {وَلَكُم فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلبَابِ لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ} [البقرة:179]، إذن فليس في تعطيل مصدر الحياة هذا سوى جلب للموت المحتوم.
لذا نؤكد أن المعركة بين الإسلام والعلمانية في حقيقتها هي معركة بين العلم في جانبها الإسلامي لأن الإسلام من عند العليم الخبير، وبين الجهل المركب في جانبه العلماني الذي هو من عند الإنسان الجاهل. {وَاللَّهُ يَعلَمُ وَأَنتُم لا تَعلَمُونَ} [البقرة:216] وقل إن شئت هي المعركة بين الإسلام والكفر. فلينظر العلمانيون في أي جانب هم؟ ومع من يحاربون؟ ومن يحاربون؟ وسيجدون أنفسهم أعداء لله - تعالى - وللمؤمنين، ولن يغني عنهم الغرب الكافر يوم القيامة شيئاً، {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَت أَعمَالُهُم فِي الدٌّنيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ} [آل عمران:22].
إن المحقق المدقق، وإن كان الأمر في غنى عن التحقيق والتدقيق، يرى أن ما من نكبة أو نكسة أو مصيبة تحل بالأمة إلا ويقابلها شرع من شرائع الله - تعالى - قد تعطل. وما من مأساة أو هزيمة أو جائحة أو معضلة.. سواء كانت سياسية أم اقتصادية أم اجتماعية… كالبطالة والأمية والجهل والتضخم والفقر والمرض وتفشي ما يعلمه الناس من ويلات خلال ممارساتهم اليومية… إلا ويقابل كلا من ذلك شرع من شرائع الله قد تعطل وألغي وأقصي على يد الكافرين والمنافقين. وهكذا تستطيع أن تدرك مدى الشرائع الإسلامية المعطلة والمبعدة من حدود وقصاص وتعازير وآداب عامة وحِسبة… بمدى المصائب والكوارث النازلة على كاهل الناس، أفراداً وأسراً وجماعات ودولاً… وتستطيع أن تدرك أيضاً مدى الجرم الذي يرتكبه العلمانيون وهم يمارسون حربهم على الله - تعالى - في إقصاء الكتاب والسنة في حق البشرية كلها.
ولا داعي هنا للتذكير بأن كلاً من الإيمان والتقوى المبنيين على الفهم السليم للإسلام، مجلبة للرزق والسعادة والطمأنينة والعز والتمكين والتقدم… طبعاً العلمانيون لا يفهمون هذا. ولا سيما وهم يرون مجتمعات الغرب تغرق في الترف والأموال والرفاهية والتقدم والعلم والتكنولوجيا وما إلى ذلك، ثم ينظرون إلى المجتمعات الإسلامية فلا يجدون إلا عكس ذلك. إلا أن بلادتهم لا تمنعنا من تنبيههم إلى أن الغرب وصل إلى ما صل إليه، ليس بالكفر والإلحاد، ولا حتى بالاعتماد على النفس في معركة السبق العلمي وما يؤول إليه كل سبق من هذا النوع. ولكنهم وصلوا إلى ذلك بسرقة الحضارات ونهب الثروات بالعسكر والمستعمرات، وبجلب اليد العاملة الرخيصة طوعاً أو كرهاً، واستيراد الأدمغة العالمة من شتى البقاع رغبة أو رهبة، ثم بناء ما نراه من أوجه المدنية والتقنية والفنية والقوة… وفي المقابل تخلف من تخلف من المجتمعات، ومنها المجتمعات الإسلامية، لا بسبب الإسلام الذي أول آية من كتابه: {اقرَأ بِاسمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1] ولكن، أولاً وأخيراً، بسبب بعدهم عن الإسلام نفسه علماً وعملاً، ولم تنفع في امتلاخ المجتمعات الإسلامية من التخلف بكل صوره بعض الشعائر التعبدية المفصولة عن الشرائع القضائية التي ليس في الفصل بينها إلا الخزي في الدنيا وعذاب الرب في الآخرة: {أَفَتُؤمِنُونَ بِبَعضِ الكِتَابِ وَتَكفُرُونَ بِبَعضٍ, فَمَا جَزَاءُ مَن يَفعَلُ ذَلِكَ مِنكُم إِلاَّ خِزيٌ فِي الحَيَاةِ الدٌّنيَا وَيَومَ القِيَامَةِ يُرَدٌّونَ إِلَى أَشَدِّ العَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ, عَمَّا تَعمَلُونَ} [البقرة:85]. إن تعرية فصول الاستعمار وما صاحبه من ترحيل اليد العاملة وتهجير العقول العالمة من كل حدب وصوب.. كان من أسرار تقدمهم التقني والعلمي والعسكري والاقتصادي… وما إلى ذلك، كما كان تخلفنا عن الإسلام العظيم مطية لتخلفنا عن أعدائنا وعقاباً لنا بهذا التخلف الذي آل إلى التبعية التامة في أخص خصوصياتنا ألا وهي عقيدتنا. وها أنا ذا أهمس في آذان العلمانيين أن حضارة الغرب حضارة مسروقة ومنهوبة في أسسها. ولم يكن تخلفنا إلا جزاء وفاقاً لتعطيل شرع الله - تعالى - وتطبيق شرع اليهود والنصارى الذي هو آفة الآفات اليوم، وفي كل يوم بكل المقاييس والاعتبارات.
نعم عندهم الأموال، بصرف النظر عن مصدرها.. ، وعندهم المتاع والرجال والأولاد المتعلمون، وهم أملهم في المستقبل.. لكنه مال حرام وسحت قام على كتف المستضعفين، وارتوى بعرق المغلوبين.. أما أولادهم فجلهم لقطاء وأبناء زنى، من أمهات باغيات لا أب لهم.. وبالجملة نقول ما قال الله - تعالى -: {فَلا تُعجِبكَ أَموَالُهُم وَلا أَولَادُهُم إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الحَيَاةِ الدٌّنيَا وَتَزهَقَ أَنفُسُهُم وَهُم كَافِرُونَ} [التوبة:55].
ومع ذلك فمشاكلهم لا أول لها ولا آخر وعوامل الانهيار لديهم بادية للعيان، وبداية الانحدار إلى الهاوية الدنيوية قبل الأخروية قد بدأت بالفعل. وهو أمر محتوم لا مفر منه. والمسألة مسألة وقت. والتذكير هنا بأمراضهم الاجتماعية من بطالة وجريمة ومخدرات وتفكك الأسر وما إلى ذلك له اعتباره في ما نحن فيه. وعلامة على صدق ما نقول. فمن كان يصدق أن ينهار الاتحاد السوفياتي الجبار وتتمرغ الشيوعية الاشتراكية في أوحال المذلة على يد بدو حفاة عراة جياع، زادهم الأول والأخير: [الله أكبر]، ولولا مكر المنافقين والكافرين، لأمر كان مقدراً، لفتح الأفغان ومن كان معهم الكريملين وليس فقط كابول. ولكن قدر الله وما شاء فعل.
والحديث مع العلمانيين في الحقيقة حديث مع الذين لا ينكرون الدين، على الأقل في تصريحاتهم. ذلك لأن منهم من يقول هو مسلم مؤمن قوي الإيمان، وربما يصلي ويزكي ويصوم ويحج.. فقط هو يرى أن الإسلام في جانبه التشريعي إما أنه استنفذ أغراضه ولم يعد صالحاً لهذا الزمان، وبالتالي هو مرتد كافر بالله - تعالى - لا تنفعه صلاة ولا صيام.. وإما أنه يقول: تطبيق الشريعة سوف يجر علينا الويلات من القوى الغربية، وسيكون هناك حصار وعقاب وعزل عن المجتمع الدولي، وسيُحدث مشكلات داخلية وخارجية لا قبل لنا بها… إلى آخره، وبالجملة فنحن مغلوبون على أمرنا، ولا خيار لنا في مجاراة هؤلاء ولو على حساب دين الله - تعالى - ومعلوم أن من يفكر هذا التفكير ليس بمؤمن بأن الله - تعالى - هو الذي بيده الأرزاق والأعناق، وأن الخشية ينبغي أن تكون منه وحده - سبحانه - ، لا من غيره. {أَتَخشَونَهُم فَاللَّهُ أَحَقٌّ أَن تَخشَوهُ إِن كُنتُم مٌّؤمِنِينَ} [التوبة:13]
وللذين يؤمنون بالقرآن - جدلاً - وهم يبحثون عن الازدهار الاقتصادي لشعوبهم، ويبحثون عن رفع المستوى المعيشي لمواطنيهم في صحتهم وتعليمهم وتشغيلهم… في غير دينهم. عليهم أن يعيدوا قراءة كتاب ربهم الذي يدّعون أنهم به مؤمنون، وليتأملوا في هذه الآيات الكريمة:
{وَلَو أَنَّ أَهلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحنَا عَلَيهِم بَرَكَاتٍ, مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكسِبُونَ} [الأعراف:96].
{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَم يَلبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلمٍ, أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمنُ وَهُم مٌّهتَدُونَ} [الأنعام:82].
{وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيءٍ, عَلِيمٌ} [البقرة:282].
{وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجعَل لَّهُ مَخرَجًا. وَيَرزُقهُ مِن حَيثُ لا يَحتَسِبُ} [الطلاق:2 / 3].
{وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجعَل لَّهُ مِن أَمرِهِ يُسرًا} [الطلاق:4].
إلى آخر ما هناك مما يصعب إحصاؤه ويعسر استقصاؤه من النصوص القرآنية والحديثية في أن طاعة الله ورسوله خير في الدين والدنيا: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَد فَازَ فَوزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:71].
ونعيد السؤال الآن بوضوح تام:
هل أنتم - معشر العلمانيين - تؤمنون بالله واليوم الآخر، وتؤمنون برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتؤمنون أن القرآن حق كله، يهدي للتي هي أقوم، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وتؤمنون بالدين كله، وتكفرون بالطاغوت كله، أي أنكم تقولون: لا إله إلا الله محمد رسول الله، حقيقة صادقة من قلوبكم..؟
فإن كان الجواب بالإيجاب، فدونكم السنة، ودونكم الكتاب، ولتكفروا بالطاغوت المتمثل في شريعة الغاب. وإن كان الجواب سلباً وكفراً فلن تزدادوا بالكفر إلا ضنكاً وخُسراً. والعاقبة للتقوى. وويل يومئذ للمكذبين.
إن العلمانية أكبر من أن تكون ظاهرة قطرية أو مسألة اجتماعية يمكن علاجها بوسيلة أو بأخرى. إنها سياسة عالمية محكمة، ومصممة العزم على تنحية دين الله - تعالى - من الأرض إلى الأبد. وهي سياسة ثابتة ومستمرة ومستقرة، ولن يتغير منها شيء، بل هي باقية، وباقية معها ويلاتها إلا أن يصح حسن العزم منا، ونتوب إلى الله جلت قدرته، وحينها، حينها فقط ترحل عنا العلمانية، ولا يبقى لها بيننا مكان من طنجة إلى جاكارتا، وما وراءهما. ويرحل عنا الذل والهوان الذي نعيشه الآن. قال الله - تعالى -: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَومٍ, حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَومٍ, سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَّالٍ,} [الرعد:11].
وأخيراً، أقول: إن العلمانية كفر بالله - تعالى - وبما أنزل، وسبب مباشر في نقمته - سبحانه - على من احتضنها أو ناصرها أو رضي بها وعنها. وإنها أيم الله باب من أبواب الفتنة الكبرى التي لا تذر شيئاً ذا بال إلا أتت عليه كالرميم. لا يصمد في وجهها أخضر ولا يابس إلا ما شاء الله.
فلينظر العلمانيون في بلادنا الإسلامية في ما هم فيه، وليعلموا أن علمانيتهم هي الحاجز المنيع دون أي تحرر أو تحرير للبلاد والعباد سواء. ولنستحضر دائماً أن الذي عطل الجهاد في سبيل الله - تعالى - وتعطل بسببه عز المسلمين هو العلمانية التي جعلت البَغاث يستنسر والكلاب تستأسد.
والله أسأل أن يهدي الضالين وينصر المجاهدين في شرق الأرض وغربها، آمين. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد