بسم الله الرحمن الرحيم
كان فضولي يسابق العربة باتجاه قرية أبو قرون ونحن نسلك الطريق الترابي المتعرج المؤدي إليها، وفي ذهني تتقاطع عبارات متفرقة يتداولها الكثيرون عن الرجل الذي يشيع البعض أنه قد يكون الزعيم السري للطائفة الشيعية بالسودان، وما إن وصلنا الجانب الغربي لمسجد القرية مترامي الأطراف أو «المسيد» ودخلنا عبر الباب الغربي حتى وجدنا زاوية الشيخ مغلقة الأبواب لا يجوز الدخول إليها بدون الطرق والاستئذان. فتح الرجل العجوز كوة صغيرة في الباب المغلق متسائلاً:
* إنتو منو؟
لنجيب في لهجة خفيضة لا تخلو من تحايل: ضيوف!
* من وين؟
- من الخرطوم ودايرين أبونا الشيخ.
فتح الرجل السبعيني الباب بحذر وخاطبنا بلهجة آمرة:
- أقيفوا قبلكم في ناس دايرين يلاقو الشيخ قبالكم.
وفي المسافة الفاصلة بين الباب وحجرة الشيخ «النيل أبو قرون» كانت شياطين فضولي تتقافز، لم تستطع سُحب «البخور» المنبعثة من الغرفة بكثافة والتي غطت المكان أو منظر حواريي الشيخ وأتباعه بملابسهم الداكنة الخضراء أن تهديء من خواطري.
مرافعة
بدا مظهر القاضي الأسبق بضفائره المنسدلة على كتفيه وعينيه المكحولتين فيه الكثير من الغرابة التي تضفي علىّ تأثيراً مختلفاً عن باقي الشيوخ المتصوفة. لكن ساعتين من الحديث المتصل مع الرجل المفوه والبليغ العبارات ونفياً قاطعاً من جانبه لأية انتماءات شيعية وعن أصل قصة «استتابته» الشهيرة أكد أن الأمر ليس سوى بعض الصراعات وسط أبناء العمومة على «الخلافة» «ميراث السجادة الصوفية لطريقتهم»، وأن أحداً من العلماء الذين استتابوه لم يجلس إليه ليسمع رؤاه وآراءه التي كفروه بها وأن «العمامة السوداء» اتخذت مكانها على رأسه منذ أن كان قاضياً، هكذا تتابعت مرافعة الرجل ضد اتهامه بالتشيع وخرجنا من عنده بعد الحوار المطول ببعض مطبوعاته التي تتحدث عن «عدم نفاق بن سلول وأسباب نزول «عبس وتولى» وخرجت من عنده وأنا أكثر إصراراً على البحث عن بعد أن سقطت فرضية الزعيم الشيعي برقم الصفر.
حقيقة وجود الشيعة في السودان بعيد عن الشائعات وقريب من الحقيقة.
«علي» روى لي كيف دعاه ابن عمه لحضور إفطار رمضان الماضي بإحدى «الحسينيات» بوسط الخرطوم حيث أمّ الإفطار عدد يقارب «المائة والخمسين» من الشيعة السودانيين وبدءوا حواراً معه «ليتشيع» فكان أن خرج من الزاوية الشيعية هارباً من «تجنيد» مُحتمل..
زيارة خاصة
وبالوصف الدقيق للموقع وصلت إلى «حسينية» المرتضى المحاطة بالأشجار لأدخلها بعد طرق الباب مباشرة..وأخيراً أنا في وسط أحد معاقل الشيعة التي تناثرت أحاديث كثيرة عن وجودها في الحاج يوسف وأمدرمان والسجانة!. بدأت بتجاذب أطراف الحديث مع محمد ناصر أحد الشيعة الموجودين بالزاوية عن حقيقة ما تم بمعرض الكتاب الأخير وسرعان ما اتسعت الدائرة لأجد نفسي محاطة بعم عثمان الطاهر عثمان الذي شرع بمداخلته: شيعي يا عم عثمان؟ أجاب بحزم: أي يا بتي شيعي تب!! وعندي ثلاثة بنات شيعة. وأنا شغال غفير في مدرسة أساس. وانضم لجلستنا المهندس الميكانيكي «العبيد» من أبناء الجزيرة والأستاذ عبد المنعم محمد الحسن «معلم» وإبراهيم إمام الزاوية وأكثر الحاضرين حذراً وتحفزاً وبعض الشباب الذين جلسوا يستمعون للنقاش الدائر وأسئلتي المتلاحقة عن حجم وجود الطائفة الشيعية وانتشارها في السودان. لكنهم أجابوا بتحفظ عنها بينما استفاضوا في الحديث في الجوانب الفقهية وأفكار الشيعة. بعضهم ذكر أنه انضم للشيعة منذ العام 1989م وآخرون اعترضوا على تمييزهم كشيعة عبر ما تم بالمعرض أخيراً من هضم لحقوقهم في نشر فكرهم وأفكارهم في مقابل السماح للمسيحيين بعد نيفاشا بتنظيم المعارض بينما وصف بعضهم ما حدث بالمعرض بأنه ناتج عن خوف بعض الحركات السلفية «الوهابية» من الفكر الشيعي على حد قولهم.
داخل الزاوية
وحان وقت الصلاة فلم أفوت على نفسي فرصة مشاهدة «صلاتهم» وسرعان ما وجدت نفسي داخل الزاوية خلف صف المصلين الذين «جلسوا» مصطفين خلف الإمام، وأمام كل منهم «حجر» مستدير قالوا إنهم يحصلون عليه من مرقد الإمام الحسين للسجود عليه.
جلست خلفهم في ركن الزاوية أقرأ اللافتات السوداء والحمراء على جدرانها «العجل العجل يا مولاي يا صاحب الزمان» «السلام على الجسد السليب السلام على الخد الثريب - السلام على الشيب الخضيب.. الإمام المنتظر».
نعم موجودون
السيد إبراهيم الأنصاري المستشار الثقافي لسفارة إيران بالخرطوم الذي حاورته صحيفة «الوطن» عن وجود شيعة أو تشيع بالسودان، أجاب بنعم، مشيراً لعلاقتهم الجيدة «بالمتصوفة» الذين يحبون آل البيت!!.
أحد المعتمدين بولاية شمال كردفان أشار في أحد زياراته للخرطوم بأن الشيعة في محلية «أم دم» وبعض المحليات أصبح وجودهم يزداد بإحصائيات «مزعجة» حسب وصفه.
لكن إحصائيات معتمد شمال كردفان، التي لم يوضح كيفية حصوله عليها، تكشف عن غياب إحصائيات عن عدد منتسبي الشيعة بالسودان وأماكن وجودهم، وهو السؤال الذي يتحفظ جميع المتشيعين الذين التقيتهم عن الإجابة عليه، رغماً عن تأكيدهم بأنهم يلتقون في الزوايا أو دور العبادة الخاصة بهم التي يطلقون عليها «الحسينيات» للاحتفال بعاشوراء وممارسة شعائرهم ولقاء «الإخوان» في رمضان وغيرها من المناسبات الدينية والاحتفالية الخاصة بهم «مولد الزهراء - مولد الحسين.. إلخ».
وأشار بعضهم إلى وجود مكتبات «شيعية» متخصصة داخل الحسينيات وبعض المواقع الأخرى «مكتبة شهيرة بالبوستة بأم درمان».
لكن الملاحظ نسبة الحذر العالية لدى منتسبي الطائفة الذين أكدوا أن هناك عدداً مقدراً من العاملين في مجال الإعلام ينتمون إليهم!!.
ورغماً عن العلاقات الجيدة بين إيران والسودان لكن شيئاً من الغموض يكتنف موقف الدولة تجاه الطائفة بالسودان. وقد سبق حادثة إغلاق المعرض الأخيرة القبض والتحقيق مع الشيخ النيل أبو قرون حول حقيقة تشيعه قبل أن تطلق السلطات سراحه.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد