عودة الصفويين


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

العلماء والدعاة والمشايخ وطلبة العلم والمثقفين والسياسيين والحكام ودوائر الأمن وصنّاع القرارº كل هؤلاء مدعوون لقراءة هذا المقال لفهم ما يجري على الساحة في المنطقة.

 

بعد سقوط بغداد بيد الأمريكان ظهر في بعض وسائل الإعلام المسموعة والمرئية والمقروءة مصطلح (الصفويين، والصفويون الجدد)، والملاحظ أن جُل إن لم يكن كل شرائح المجتمع الإسلامي المثقف وغيره يجهل معنى هذه التسمية، حتى تصوّر البعض أن الصفويين هي حزب، أو اسم لميليشيا في العراق، وأن إسماعيل الصفوي هو شخص كعبد العزيز الحكيم ومقتدى الصدر.

لذا رأى راقم هذه السطور أن يساهم بمقال يوضح معنى هذه الكلمة ويعلق هو في الهامش رابطاً القديم بالواقع، مستعيناً بعشرات المصادر العربية والأجنبية والإيرانية والتركية، لتوضيح الحق، والله من وراء القصد.

 

نشأة الصفويين

تنتسب الأسرة الصفوية إلى الشيخ صفي الدين الأردبيلي (650هـ - 735هـ)، الذي كان في بداية عهده من مريدي الشيخ تاج الدين الزاهد الكيلاني. كان واعظاً صوفياً في مدينة (أردبيل)([1])، ثم أسس فرقة صوفية تسمى (الإخوان) وقد كثرت هذه الفرقة في إقليم (اذربيجان).

بعد وفاته أخذ مشيخة طريقته ابنه صدر الدين (704هـ - 794هـ)، ولما توفي صدر الدين تولى ابنه \"خواجة علي\" الذي كانت له لقاءات مع تيمور لنك، وتولى مشيخة الطريقة مدة 36 سنة، ومات في فلسطين سنة 830هـ، وقبره معروف في يافا باسم قبر الشيخ \"علي العجمي\". وكان للخواجة علي ميل للتشييع ولم يكن تعصباً بل تشيّع خفيف.

ثم تولى ابنه إبراهيم الذي لقب بـ \"شيخ شاه\" أي \"الشيخ الملك\"، لأن مظاهر الملك ظهرت عليه. وتوفي سنة 851هـ، وكان تشيعه واضحاً للإمامية، وأدخل أتباعه بصراعات مع أهل السنة في داغستان، وخلفه ابنه الأصغر جنيد والذي كثرت فيه عهده المظاهر الملكية.

وجنيد كان شيعياً جلداً متعصباً محارباً لأهل السنة، وقد قتل في إحدى حروبه في مدينة شيروان سنة 861هـ، وخلف ابنه حيدر وتزوج من \"مارتة\" بنت حسن أوزون \"الطويل\"([2])، وكانت أمها \"كاترينا\" ابنة \"كارلو يوحنا\" ملك مملكة طربزون([3])، اليونانية النصرانية.

وحيدر أول من لقب بلقب \"سلطان\" في العائلة الصفوية وأمر أتباعه الدراويش([4])، بأن يضعوا على رؤوسهم قلنسوة مخروطية الشكل مصنوعة من الجوخ الأحمر، وتحتوي على اثنتي عشرة طية رمزاً للأئمة الاثني عشر عند الشيعة الإمامية، وسموا بـ \"قزلباش\"، وهي كلمة تركية تعني \"الرأس الأحمر\".

وقد كوّن حيدر جيشاً للانتقام لمقتل والده من ملك شروان، ولكنه قتل سنة (893هـ)، وكان لحيدر ثلاث أولاد: علي، إبراهيم، وإسماعيل، وقد خاف الأمير يعقوب أمير \"آق قونيلو\" منهم فسجنهم، ثم أطلق سراحهم بعد وفاة يعقوب، ولكن علي وإبراهيم قتلا، وذهب إسماعيل إلى مدينة \"كيلان\" على بحر قزوين جنوب أردبيل، وقد رعاه السادات الصوفية، وحاول منذ صغر تجميع الصوفية والقزلباشية حوله، وتجميعهم من أجل الانتقام من قتلة أبيه وجده، وتم ذلك وتوجه إلى أمير دولة التركمان \"آق قونيلو\" سنة (907هـ)، وقتله وجلس على ملكه بعد أن بايعته كل قبائل التركمان، وأعلن دولته الصفوية.

 

الشاة إسماعيل أول ملك للدولة الصفوية (907هـ/1501م)

كما سبق ذكره، قتل الشاه إسماعيل \"أمير الآق قونيلو\" وأعلن قيام الدولة الصفوية وعاصمتها في مدينة \"تبريز\"([5]).

وأول ما قام أعلن أن مذهب دولته الإمامية الاثنى عشرية وأنه سيعممه في جميع بلاد إيران، وعندما نُصح أن مذهب أهل إيران هو مذهب الشافعي قال: \"إنني لا أخاف من أحد..فإن تنطق الرعية بحرف واحد فسوف امتشق الحسام ولن أترك أحداً على قيد الحياة\"([6]).

ثم صك عملة للبلاد كاتباً عليها: \"لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علي ولي الله\"، ثم كتب اسمه([7]).

وأمر الخطباء في المساجد بسب الخلفاء الراشدين الثلاثة، مع المبالغة في تقديس الأئمة الاثني عشر.

وقد عانى أهل السنة في إيران معاناة هائلة وأجبروا على اعتناق المذهب الأمامي بعد أن قتل الشاه إسماعيل مليون إنسان سني في بضع سنين([8]).

ولرب سائل يسأل: كيف استطاع الشاه إسماعيل أن يسيطر على كل بلاد إيران؟

الجواب: هو أن إيران والعراق كانتا تحكم من قبل التركمان \"الآق قونيلو\"، وكان العراق قد حكم من قبل قبائل التركمان \"القرة قونيلو\" والشاه إسماعيل كان أتباعه الصوفية والذين سموا بـ \"القزلباشية\" هم مجموعة قوية من العشائر التركمانية هم: \"شاملو، قاجار، تكلو، ذو قدر، افشار، روملو\"، وهؤلاء كانوا على شكل الميليشيا الصوفية المتشيّعة، وكان له جيشاً فاتكاً، فتك بأهل السنة الشافعية في بلاد إيران، وكان للصفويين تأثير روحي على أتباعهمº وتذكر بعض المصادر الشيعية الفارسية إنه بينما كان الشاه إسماعيل مع أتباعه الصوفية في الصيد في منطقة \"تبريز\" إذ مر بنهر فعبره لوحده ودخل كهفاً ثم خرج متقلداً بسيف وأخبر رفقاءه أنه شاهد في الكهف \"المهدي\" صاحب الزمان، وأنه قال له: \"لقد حان وقت الخروج\"، وأنه أمسك ظهره ورفعه ثلاث مرات ووضعه على الأرض وشد حزامه بيده ووضع خنجراً في حزامه وقال له: اذهب فقد رخصتك([9]).

ثم بعد ذلك بقي الشاه إسماعيل متردداً وقلقاً حتى رأى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في المنام وقال له: \"ابني.. لا تدع القلق يشوّش أفكارك.. احضر \"القزلباشية\" مع أسلحتهم الكاملة إلى المسجد في \"تبريز\" وأمرهم أن يحاصروا الناس.. وإذا أبدى هؤلاء أية معارضة أثناء الخطبة باسم أهل البيت فإن الجنود ينهون الأمر\"([10]). وفعل الشاه إسماعيل ما طلب منه في الجمعة مع أتباعه القزلباشية، وحاصر جامع تبريز وأعلن سيادة المذهب الإمامي الاثني عشرين بقيادة الدولة الصفوية.

وسبب هذه الدعوى هو التحرر من فكرة \"التقية والانتظار\" إلى خروج المهدي والتي بقي علماء الشيعة يحملونها كأحد المبادئ الرئيسية، وهو ترك الجهاد والصراع العسكري إلى ظهور المهدي. ثم لما أرادوا الخروج من هذه الفكرة اخترعوا مجموعة أخرى من الأفكار والخرافات كي يبرروا خروجهم من المذهب.

ويحلل الكاتب \"راجرسيوري\" ذلك بأن الصفويين اعتمدوا على فكرة الحق الإلهي للملوك الإيرانيين قبل الإسلام منذ سبعة آلاف سنة، وذلك بوراثة هذا الحق، وعندما تزوج الحسين بن علي - رضي الله عنه - بنت ملك الفرس \"يزدجرد\" بعد معركة القادسية وأولدها الإمام زين العابدين \"علي\" اجتمع حقان: حق أهل البيت في الخلافة (حسب نظرية الإمامية)([11])، وحق ملوك إيران، بالإضافة إلى نيابة المهدي. هذا من جانب التشيع.

أما الجانب الصوفي فقد زوّد الفكر الصفوي بالمنامات، فيذكر الصفويون أن أحد شيوخ الصوفية وهو الشيخ زاهد الكيلاني، والذي تربى على يده جدهم \"صفي الدين الأردبيلي\" تنبأ على أثر رؤية لصفي الدين الأردبيلي \"أن ملك هذا الزعيم سيملكون العالم، ويترقون يوماً بعد يوم إلى زمان القائم المهدي المنتظر([12]).

وللرؤى والكشوفات تأثير ساحر في عالم التصوف، لذا فقد أثرت هذه النبوءة على القزلباشية وكان يتصورون أن ملك الصفوييون سيستمر حتى ظهور المهديº لذا اهتزت هذه النظرة بعد موقعة \"جالديران\" بين الشاه إسماعيل والسلطان العثماني سليم سنة (920هـ/1512م)، وهزيمة الشاه إسماعيل، فبدأ الصراع يدب بين القزلياشية ونشأ تقاتل بينهم بعد اهتزاز هذه العقيدة في عقولهم([13]).

والشاه إسماعيل كان يجمع بين التعصب المذهبي والغلو والتكفير وبين الدموية([14])، فقد نقل عنه قريبه إبراهيم صبغة الله الحيدري في \"عنوان المجد\" (ص119) أنه أكثر القتل حتى قتل ملك (شروان) وأمر أن يوضع في قدر كبير ويطبخ وأمر بأكله ففعلوا (أي القزلباشية)، وكان لا يتوجه لبلاد في إيران إلا فعل أشياء يندى لها الجبين من قتل ونهب حتى قتل من أعاظم علماء العجم \"السنة\" وحرّق كتبهم وانهزم كثير من العلماء، منهم جد مؤلف \"عنوان المجد\" على بلاد الأكراد السنية في بلاد العراق.

ثم أمر الشاه إسماعيل الجنود بالسجود له. وكان من دمويته أن ينبش قبور العلماء والمشايخ \"السنة\" ويحرق عظامهم، وكان إذا قتل أميراً من الأمراء أباح زوجته وأمواله لشخص ما.

وكان أتباعه يقدسونه ويعتقدون أنه لا ينكسر ولا يقدر عليه أحد([15]).

هذا هو مؤسس الدولة الصفوية (إسماعيل شاه) التي تعد الدولة المؤسسة لكل دول الشيعة الاثني عشرية فيما بعد.

توسع الشاه إسماعيل في أرجاء إيران بعد أن تتبع ملك دولة آق قونيلو، فذهب إلى جنوب تبريز إلى مدينة همدان وهزم مراد بيك أمير قبائل آق قونيلو، الذي فر إلى شيراز([16]) واستولى عليها، وقضى على دولة التركمان السنية في إيران وذلك سنة 909هـ([17])، واستولى على فارس وكرمان وخزستان \"عربستان\" ومازندران واستراباد([18]).

بعد ذلك توجه الشاه إسماعيل إلى جهة الشرق إلى خراسان واستولى عليها سنة 916هـ، واستولى على مدينة مشهد. وفي نفس السنة توجه إلى مرو شمال شرق إيران وذبح أكثر من عشرة آلاف من سكانها من أهل السنة([19]).

ثم حاول أن يمتد إلى بلاد الأوزبك سنة 918هـ، وأرسل أحد قواده ولكنه انهزم وقتل قائده وضعفت جبهته في هذه المنطقة وهجم عليه الأوزبك وكادوا يستردون خراسان ولكن الشاه إسماعيل استردها.

 

دخول الشاه إسماعيل العراق واستيلاءه على بغداد:

من المعلوم للجميع أن بغداد عاصمة الدولة العباسية سقطت بيد المغول سنة 656هـ، وبعدها حكم العراق المغول وسميت دولتهم الاليخانية إلى أن تسلم الجلائرين دويلتهم \"قرا قونيلو\" ثم \"آق قونيلو\" التي بدأ حكمها منذ سنة 806هـ، وكان آخر حكامها سلطان مراد الذي حكم سنة 903هـ، وفي سنة 914هـ اراد الشاه إسماعيل احتلال بغداد فأرسل قائده حسين بك لاله، وانهزم والي بغداد \"باريك\"، وقد استبشر \"نقيب النجف\" محمد كمونة بعد أن كان والي بغداد \"باريك\" قد حبسه لأنه كان ينتظر الشاه، ويؤمل أهلي بغداد والعراق بأن الشاه إسماعيل سلطان عادل.

دخل حسين لاله بغداد دون قتال وأخرج محمد كمونة من السجن ورحب به وعظمه، وذهبا هو والوالي إلى الشاه إسماعيل ليبشروه بفتح بغداد([20]).

دخل الشاه إسماعيل بغداد وكرم محمد كمونه وأعلى مقامه ثم زار كربلاء والنجف وأكرم أهلها وعمرها بالذهب والفرش والسجاد الثمين. ثم أدب بعض عشائر الجنوب. هذا خلاصة أعماله في العراق.

وعودة إلى ما فعله الشاه إسماعيل في بغداد، فأهل بغداد لم يقاوموا الشاه لأن محمد كمونه أخبرهم بعدله وكان لاضطراب الأوضاع في زمن \"آق قونيلو\" يؤملهم بظهر حاكم جديد ينقذهم مما هم فيه، ولكن الشاه إسماعيل أمر قائده حسين لاله بتهديم مدينة بغداد وقتل أهل السنة والصلحاء، وتوجه إلى مقابر أهل السنة ونبش قبور الموتى وأحرق عظامهم. وبدأ يعذب أهل السنة سوء العذاب ثم يقتلهم، وهدم قبر أبي حنيفة وعبد القادر ونكل بقبر أبي حنيفة ونبش قبره([21]). وقتل كل من ينتسب لذرية خالد بن الوليد - رضي الله عنه - في بغداد لمجرد أنهم من نسبه وقتلهم قتلة قاسية([22]).

وقد أرخ الشيعة في ذلك الزمان لهذه الحادثة حتى قال ابن شدقم \"الشيعي\" في كتابه \"تحفة الأزهار وزلال الأنهار\": \"فتح بغداد وفعل بأهلها النواصب ذوي العناد ما لم يسمع بمثله قط في سائر الدهور بأشد أنواع العذاب حتى نبش موتاهم من القبور\".

هكذا يسمي أهل السنة النواصب، بمجرد أنهم لا يؤمنون بعقائد الشيعة فهم نواصب يستحقون القتل([23]).

وقد فر كثير من سنة بغداد، وممن هرب الأسرة الكيلانية بعد أن خرّب الشاه إسماعيل قبر عبد القادر، فر هؤلاء إلى الشام ومصر وحكوا للعالم الإسلامي ما فعل الصفويون الشيعة ببغداد وأهلها([24]).

وصلت أخبار المذبحة العظيمة لأهل السنة إلى بلاد الدولة العثمانية في تركيا، إضافة على أخباره السابقة عن تشييع أهل السنة بإيران وقتل الآلاف المؤلفة، بل جسر إلى إرسال دعوته إلى داخل الدولة العثمانية. لذا اجتمع السلطان العثماني سليم الأول في عام (920هـ/1514م)، برجال الدولة وقضاتها وعلماءها ورجال السياسة، وقرروا أن الدولة الصفوية تمثل خطراً على العالم الإسلامي بالعموم وعلى الدولة العثمانية بالخصوص، لذا قرر السلطان إعلان الجهاد المقدس ضد هذه الدولة واستبقها بأعمال نلخصها بما يلي:

1- أرسل السلطان سليم مراسلات للشاه إسماعيل الصفوي، وكان السلطان سليم يكلمه بغلظة.

2- طهر بلاد تركيا من الشيعة التابعين للشاه الصفوي.

ولما لم يستجب الشاه إسماعيل لدعوة السلطان سليم الأول بالتسليم قرر السلطان السيـر بالجيش بقيادتـه مستعيناً ببقايـا أسرة \"آق قونيلـو\"، وأراد الشاه إسماعيل تأخي

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply