بسم الله الرحمن الرحيم
ربما لا تجد أمة في إطار تسييرها قضية أخطر من تفسير القواعد والمناهج التي تؤمن أو تلتزم بها لحكم شئونها. وفي هذا الإطار ربما لا تهتم بأمر بقدر ما تهتم بقدرة وكفاية المسئول عن تفسير هذه القواعد، ولهذا يحتل تفسير الدساتير والنظم الأساسية في البلدان ذات النظم الوضعية المنزلة الأولى من الاهتمام.
وليس في هذا غرابة إذا علمنا أن تسيير الإنسان وأنماط حياته وسلوكه محكوم بالقواعد والمناهج السائدة في حياته، وإذا علمنا كذلك أن هذه القواعد تتحكم في نشاطه وقوته وضعفه وفي هذا قيل إن قائد الإنجليز في الحرب العالمية الثانية لم يهتم بسير المعارك الحربية مع الألمان بقدر ما كان يهتم بالقضاء وسلامته ونزاهته في بلاده لإدراكه أن سلامة البناء الداخلي في القضاء، وفي غيره أساس في حماية بلاده من الهزيمة.
وفي ضوء اهتمام الإنسان بهذه القواعد حرص على سلامة تفسيرها لكي يضمن سلامة تطبيقها وربما جاء جهده في وضع مذاهب التفسير أكثر من جهده في إيجاد القواعد والمناهج نفسها وهو بهذا يحدد للمُفَسِّر دوراً ينأى به عن الهوى والشطط، بنفس القدر الذي ينأى به عن الجهل والخطأ.
قُلتُ: وهذا الاهتمام الذي نراه في تفسير القواعد والمناهج الوضعية لا يرقى إلى ما وضعته شريعة الإسلام من أسس لحماية قواعدها وصيانتها من العبث والمحافظة عليها من الزلل.
ومن هذه الأسس وضع علمائنا الضوابط والقواعد العلمية والمنهجية لعلم التفسير، وعلم أصول الفقه، وعلم أصول الحديث.
قُلتُ: وفي هذا الإطار نعرض لقضية هامة ينبغي طرحها للبحث والاهتمام وهي تفشي ظاهرة الإفتاء بين كثير من المسلمين، وما ينتج عنها من آثار ومخاطرº فالمتتبع لهذه الظاهرة يَفزَعُ وهو يشهد تسارعاً محموماً إلى الإفتاء في مسائل تمس جوهر العقيدة وقواعدها من قبل أشخاص لم يبلغوا من العلم مَبلَغاً يؤهلهم للفتيا. وهم في هذه الظاهرة على صنفين: الأول أشخاص مؤمنون بعقيدتهم ملتزمون بها، ومن هذا الالتزام يظنون أنهم مؤهلون للإفتاء في كل مسألة تعرض لهم، أو يسألون عنها.
وأصحاب هذه الظاهرة عدد من الشبان المسلمين الذين يدرسون في البلاد الغربية، وربما نجد هذه الظاهرة أسباب عدة، منها: حماس هؤلاء الشبان كما ذكرنا، ومنها قلة المفتين المؤهلين هناك أو بالأحرى ندرتهم، ومنها كثرة المستفتين سواء من المسلمين المقيمين هناك أو من المعتنقين حديثاً للدين الإسلامي. ولقد شاهدت طالباً في الولايات المتحدة الأمريكية يفتي في مسائل الصيام وغيرها بأسلوب لا تردد فيه رغم عدم أهليته لذلك، ولربما أنه وبحسن نية منه حَرَّم ما أحل الله، وخلط في أمور كثيرة كان في غنى عن الخوض فيها لو تورع عن الفتيا، ومثل هذا كثير مما لا يمكن قبوله أو التسامح فيه، خاصة إذا كانت الفتوى في أمور جوهرية يترتب عليها أمر ونهي، وتحليل وتحريم، أو كانت موجهة للمسلمين حديثاً مما يؤدي إلى فساد اعتقادهم، ويشوّه صورة الإسلام وحقائقه في نفوسهم.
الصنف الثاني: صنف يعتقد أهليته المطلقة للفتيا، وينطلق في هذا الاعتقاد من قاعدة زعامته لحزب أو فئة أو مذهب ديني، أو انتمائه لهذا أو ذاك، وقد لا تكون رغبته من العلم وحصيلته منه إلا بقدر ما يساعده في صفات الزعامة أو الانتماء وأخطر ما في هذا توجيه فتاواه وتكريسها لخدمة هذه الصفات.
ومع أن التاريخ الإسلامي قد شهد في فتراته المتتابعة طوائف وفرقاً كثيرة اتخذت لنفسها واتباعها فتاوى شذت بها عن القواعد الشرعية الصحيحة ثم ما لبثت أن تضاءلت وزالت وأصبحت في علم التاريخ، مع هذا فإن أصحاب هذا الصنف يمثلون مثل هذا الدور ولكن بأسلوب وطريقة مغايرة.
وإذا كان أصحاب الصنف الأول من الشبان الطيبين المجتهدين لا يمثلون خطراً مستديماً وذلك بسبب عودتهم لبلادهم أو تراجعهم بعد إدراكهم لمخاطر اجتهادهم فإن أصحاب الصنف الثاني أكثر خطراً لأن فتاواهم ستكون تكريساً لخدمة أغراضهم وصفاتهم والغايات التي يتغيونها مما ينتج عنه تحكيم الهوى، والبعد عن الحق، واعتساف النصوص وتفسيرها على غير حقائقها.
ولقد عكس المؤتمر الذي عُقِد في بغداد أثناء احتلال الكويت صورة واضحة لهذا الصنف من المفتين، فمع أن الإسلام في مبادئه العامة وقواعده الواضحة التي يعرفها ويؤمن بها عامة المسلمين حرم الظلم والاعتداء، وشدد على حرمة النفس والمال والعرض وعلى حقوق المسلم وكرامته، إلا أن المؤتمرين تجاهلوا ذلك وأعرضوا عنه، وبحكم انتماءاتهم ومنافعهم وخدمة غاياتهم أيدوا المعتدي وساندوه وشجعوه، فكانوا بذلك يفتون بما لا يَحِلٌّ لمسلم أن يفتي به، وفي ذلك إساءة للإسلام ومبادئه وشريعته وحضارته وقيمه.
قُلتُ: إن أخطر ما ينتج عن فقدان الضوابط في الفتوى القول على الله بغير علم وقد عظّم الله ذلك وحرّمه على عباده وجعله أعلى مراتب الجرائم وأشد تحريماً من الشرك به قال - تعالى -مبتدأ بالأخف من الجرائم: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون}[1].
والقول على الله بغير علم يشمل كل قول أو فعل يخالف أوامره أو نواهيه سواء كان هذا القول ناتجاً عن علم بالفعل المخالف لهذه الأوامر والنواهي، أو كان ناتجاً عن جهل من القائل كما يشمل كل تأويل أو تفسير أو تحريف أو تتبع للشبه مما يكون فيه مخالفة للقواعد التي وضعها الله لعباده، وأمرهم بالالتزام بها.
وحتى تقوم الحجة من الله على عباده نهاهم عن الكذب عليه بتحليل ما حَرَّمه وتحريم ما أحَلَّه، وتوعد من فعل ذلك منهم بالعقاب فقال - تعالى -: {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون}[2] {متاع قليل ولهم عذاب أليم}[3].
كما نهاهم عن إتباع الهوى لما يؤدي إليه من الضلال والانحراف عن طريق الحق والهدى قال - تعالى -: {اتبعوا ما أُنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون}[4] ثم ذكر نهيه لنبيه داود عن اتباع الهوى في قوله - تعالى -: {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب}[5].
وكما حرم الله الكذب والقول عليه بغير علم فقد حذر رسوله - صلى الله عليه وسلم - من الكذب المتعمد عليه فقال فيما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -: ((من قال عليّ ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار))[6].
وكما عَظَّم أمر الكذب عليه عَظَّم أمر الجرأة على الفتيا فقال: ((أجرأكم على الفتيا أجرأكم على النار))[7] وكان صحابة رسول الله على عظم قدرهم، وسعة علمهم، ومعرفتهم بما صدر عن رسول الله من قول أو فعل أكثر حذراً وأشدَّ خوفاً في مسائل الفتيا فكان الواحد منهم يتمنى ألا يُسأَلَ عن مسألة ولو كان يعلمها وإذا سُئِلَ عنها تمنَّى أن يقوم بالإجابة عليها من يرى أنه أقدر منه عليها، وفي ذلك قال عبد الله بن المبارك: حدثنا سفيان عن عطاء بن السائب عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أراه قال في المسجد فما كان منهم محدث إلا ودّ أن أخاه كفاه الحديث ولا مفت إلاّ ودّ أن أخاه كفاه الفتيا. وقد روي عن ابن عباس وابن مسعود وهما من أغزر صحابة رسول الله علماً وفقهاً قولهما إن كل من أفتى الناس في ما يسألونه عنه لمجنون[8].
ومثلهم في هذا فقهاء التابعين والأئمة وأتباعهم فقد روى أبو داود في مسائله أنه ما أحصى ما سمع عن الإمام أحمد بن حنبل حين سُئِلَ عن كثير مما فيه الاختلاف في العلم فيقول لا أدري، قال: وسمعته يقول ما رأيت مثل ابن عيينة في الفتوى أحسن فتيا منه كان أهون عليه أن يقول لا أدري، وكان الإمام أحمد كثيراً ما يقول لسائله سل غيري فإن قيل له من نسأل قال: سلوا العلماء، وعندما سُئِلَ الإمام مالك عن مسألة وقال فيها لا أدري، وقال له السائل: يا أبا عبد الله تقول لا أدري؟ قال: نعم مَن ورائك إني لا أدري[9].
وروي عن ابن سيرين قوله: قال حذيفة: إنما يفتي الناس أحد ثلاثة رجل يعلم ناسخ القرآن ومنسوخه، وأمير لا يجد بداً، وأحمق متكلف. قال ابن سيرين: فأنا لست أحد هذين وأرجو ألا أكون الأحمق المتكلف[10].
وقد وضع الفقهاء شروطاً لمن يحق له الإفتاء وأفاضوا في هذه الشروط، ومنهم من شدد في ذلك تعظيماً للفتوى وحرصاً على ألا يقوم بها إلا من هو أهل لها، ومن هؤلاء الإمام أحمد، فعندما سُئِلَ عما إذا كان الرجل يكون فقيهاً بحفظه مائة ألف حديث كان يقول لا وهكذا بالنسبة لمائتي ألف وثلاثمائة ألف وعندما قال له السائل فأربعمائة قال بيده هكذا وحركها.
وأهم هذه الشروط علم المفتي بكتاب الله الكريم، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، والفقه فيهما، والعلم بالأسانيد الصحيحة، وباللغة وآدابها إضافة إلى عدالته وثقته ونيته للإِرشاد، ونشر الأحكام الشرعية. وقد أجمل الإمام الشافعي هذه الشروط بقوله: \"لا يحل لأحد أن يفتي في دين الله إلا رجلاً عارفاً بكتاب الله بناسخه ومنسوخه، وبمحكمه ومتشابهه، وتأويله وتنزيله، ومكيه ومدنيه، وما أريد به، ويكون بعد ذلك بصيراً بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبالناسخ والمنسوخ، ويعرف من الحديث مثل ما عرف من القرآن، ويكون بصيراً باللغة بصيراً بالشعر وما يحتاج إليه للسنة والقرآن، ويستعمل هذا مع الإنصاف ويكون بعد هذا مشرفاً على اختلاف أهل الأمصار وتكون له قريحة بعد هذا فإذا كان هكذا فله أن يتكلم في الحلال والحرام وإذا لم يكن هكذا فليس له أن يفتي\"[11].
وأضاف أبو بكر الحافظ أبو بكر أحمد الخطيب البغدادي إلى هذه الشروط إضافات أخرى أوجب توفرها في المفتي، وقد فصلها بقوله: \"وينبغي أن يكون قوي الاستنباط جيد الملاحظة. رصين الفكر. صحيح الاعتبار. صاحب أناة وتؤدة. وأخا استثبات وترك عجلة. بصيراً بما فيه المصلحة مستوقفاً بالمشاورة. حافظاً لدينه مشفقاً على أهل ملته مواظباً على مروءته حريصاً على استطابة مأكله، فإن ذلك أول أسباب التوفيق، متورعاً عن الشبهات صادقاً عن فاسد التأويلات صليباً في الحق، دائم الاشتغال بمعادن الفتوى وطرق الاجتهاد، ولا يكون ممن غلبت عليه الغفلة واعتوره دوام السهر، ولا موصوفاً بقلة الضبط منعوتاً بنقص الفهم معروفاً بالاختلال يجيب عما يسنح له ويفتي بما يخفى عليه\"[12].
ويستخلص من هذا تعظيم أمر الفتيا وشأنها وما يؤدي إليه التسرع فيها من آثار تمس جوهر العقيدة ومن ثم تمتد إلى الملتزمين بها فتفسد عليهم دينهم ثم يتتابع هذا الفساد ويتسارع إلى أجيالهم.
وفي تاريخنا الإسلامي شواهد وحقائق، فضلالات الفرق القديمة التي شهدها هذا التاريخ وعانى منها الإسلام في كثير من فتراته كانت عبارة عن فتاوى فرضها أصحاب هذه الفرق على مجتمعاتهم، إمَّا عن جهل بحقائق الدين الإسلامي، أو عن قصد فرضه الصراع الحضاري عبر تغلغل أصحابه في الصفوف، واختراق الحواجز عبر نقاط الضعف في المجتمعات الإسلامية التي وُجدوا فيها.
لقد كانت هذه الفرق ستحقق مقاصدها، ولكن الضوابط والقواعد التي وضعها الفقهاء والحفاظ، والعلماء المسلمون للدفاع عن جوهر العقيدة الإسلامية أضعفت حجج هذه الفرق، وأفسدت خططها إلى أن تلاشت، ولكن هذه الحوادث لم تنته بنهاية الأزمنة التي وُجِدَت فيها بل استمرت إلى عصرنا هذا وفق ترتيب وأسلوب جديدين، فالقاديانية والبهائية وغيرها من الفرق التي نسمع عنها ما بين وقت وآخر ما هما إلا نتاج لفتاوى قام أساسها على الجهل أو الصراع الحضاري كما ذكر.
ومن هنا تظل قضية الفتيا هامة وإذا حافظ المسلمون على ما وضعه فقهاء الإسلام من الشروط والقواعد والضوابط لها فإن ذلك كفيل بحماية الشريعة من العبث من قبل متعمد بَعُدَ عن الحق بعد أن أعماه الهوى، أو من قبل غافل يجيب عن كل ما يُسأل وما لا يُسأل عنه وهو لا يدري ما تؤدي إليه فتاواه من آثار.
والله المستعان.
ــــــــــــــــــــــ
[1] سورة الأعراف الآية 33.
[2] سورة النحل الآية 116.
[3] سورة النحل الآية 117.
[4] سورة الأعراف آية 3.
[5] سورة ص آية 26.
[6] مسند الإمام أحمد ج16 ص316.
[7] سنن الدارمي ج1 ص57.
[8] إعلام الموقعين عن رب العالمين للإمام ابن القيم ج1 ص34.
[9] إعلام الموقعين المرجع السابق ص33.
[10] نفس المرجع السابق 36.
[11] انظر هذا في كتاب الفقيه والمتفقه للبغدادي ج2 ص157 158.
[12] انظر هذا في كتاب الفقيه والمتفقه للبغدادي ج2 ص157 158.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد