لقد ظل نظام الأسرة القاعدة الأساسية للتشكيل الاجتماعي في أي موقع من مواقع الإنسان، وما زال هذا النظام هو المصدر الأساسي لهذا التشكيل برغم ما طرأ على المجتمعات الإنسانية من عقائد ونظريات حاولت التدخل فيه.
ولم يكن هذا النظام مجرد تشكيل من ذكر وأنثى أملته نزعة فطرية مشتركة، بل ظل ولا يزال مبنياً على عدد من القواعد، وأهمها قوامة الرجل على زوجه، وسلطته على أولاده، وتسييره لشؤون أسرته. ولم يشذ عن مفهوم هذه السلطة إلا قلة قليلة من المجتمعات.
وفي كل الأحوال التي يتعرض فيها هذا النظام لأي خلل أو يطرأ عليه طارئ تتدخل القواعد الاجتماعية لإصلاحه، أو على الأقل التعبير عن موقفها منه، فلقد فزع الإنكليز عندما أصدرت إحدى محاكمهم حكماً يقضي بالسجن على أحد الآباء عقاباً له على ضربه ابنه البالغ من العمر عشر سنين، ومنهم من رأى في ذلك الحكم بداية لخطر تجب مواجهته برغم ما للقضاء عندهم من حرمة وحصانة.
وفي العالم الغربي عموماً رؤية واضحة تعكس تبرم البقية الباقية من جيل الحرب العالمية بما آل إليه حال الأسرة هناك، وانعكاس آثاره على النظام الاجتماعي. ومع ما يبدو من عدم السيطرة عليه فإن الجمعيات الدينية والإنسانية هناك ما تزال تعالج الخلل بطرق عدة للعودة بنظام الأسرة إلى وضع يعيد للأسرة معناها وانضباطها.
العلاقة بين الوالدين وأولادهم:
وإذا كان الجانب المهم في تشكيل الأسرة ينصب على الإنجاب فإن ما يهمنا هنا هو التعرض للعلاقة بين أطراف هذه الأسرة، وعلى الأخص الوالدين وأولادهم[1]، ومعرفة الحاكم لهذه العلاقة.
وفي مبتدأ القول ينبغي البيان بأن هذه العلاقة واقع فطري لا يمكن تبديله، أو تعديله بأي نظام بشري مهما كانت دوافعه، فالوالدان يحبان أولادهم محبة فطرية غرسها الله في الإنسان في أي زمان ومكان.
وقد بين الله ذلك في قوله - تعالى -: {والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة}[2]. كما بين أن محبة الوالد للبنين وضع متأصل في رغباته ومطالبه كما في قوله - تعالى -: {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين}[3] وفي قوله - تعالى -: {المال والبنون زينة الحياة الدنيا}[4].
وليست هذه المحبة الفطرية أثراً مجرداً لواقعة الإنجاب بعد حدوثها بل هي واقع ملازم للإنسان في شبابه وشيخوخته. وقد بين الله مدى ما تركه الإنجاب من أثر على نبيه إبراهيم بعد أن ظن صعوبته في حال الكبر كما في قوله - تعالى -: {الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء}[5]. وقوله - تعالى -: {وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين}[6].
وإذا كانت محبة الوالدين لأولادهم واقعة فطرية فهل يمكن أن تتأثر هذه الفطرة بما قد يطرأ على التعامل بينهم؟ والجواب على هذا من وجهين:
أولهما: أن علاقة الوالد بولده قد تتأثر بما يمكن وصفه بأدنى درجات المحبة أو الكره، ويدرك هذا من خلال العلاقة القائمة بينهما، فمن كانت علاقته بوالديه علاقة بر وإحسان سيكونان معه في علاقة تختلف في طبيعتها عن علاقة من سواه وهكذا.
وثاني الوجهين: أن هذه العلاقة قد تتأثر بأعلى درجات الكره ولهذا أسباب مختلفة تنتج عن خلل اجتماعي أو اقتصادي. وقد أدركنا هذا في قضيتي الوأد، والقتل في العصر الجاهليº فالذين وأدوا بناتهم خوفاً من عارهن، أو قتلوا أولادهم خشية فقرهم، كانوا يعيشون في واقع فرض عليهم ما فعلوا وكانوا من الضعف والعجز بحيث لم يستطيعوا مقاومته. وقد بين الله ما سيكون عليه حالهم جزاء فعلهم في قوله - تعالى -: {وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت}[7] وفي قوله - تعالى -: {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقكم وإياهم إن قتلهم كان خطئاً كبيرا}[8].
وإذا كانت قضايا قتل الأولاد خشية الفقر قد زالت مع زوال العصر الجاهلي فإن قضايا الخوف من مسئولية الإنفاق ما زالت تحدث في العصر الحاضر ولكن على نحو محدود كما هو حال بيع الأطفال للخلاص من نفقتهم، وعلى الأخص في عدد قليل من البلدان التي تواجه أوضاعاً إقتصادية قاسية.
وعلى أي حال فإن ما حدث في الماضي أو يحدث في الحاضر أو المستقبل من خلل في علاقة الوالد بولده لا يعني انتفاء الغريزة الفطرية التي أودعها الله في الوالد نحو ولدهº لأنه جزء مادي منه يرتبط به ارتباط الفرع بأصله والجزء بكله.
وسيظل الخلل في هذه العلاقة وضعاً استثنائياً لا يعدل ولا يبدل في سنة الله في خلقه {سنة الله التي قد خلت في عباده ولن تجد لسنة الله تبديلاً}[9].
الظواهر المادية في علاقة الولد بوالديه:
هناك قصص ووقائع كثيرة تتسرب من وسائل النشر في عدد من بلدان الشرق والغرب، أو تتسرب من الطرح المتداول في بلد وآخر عما تطفح به دور الرعاية الإنسانية للمسنين، وتحكي هذه القصص ما يمكن وصفه بـ((الصدمات)) في علاقة الولد بوالديه، وتخليه عنهما في حال كبرهما أو مرضهما. ومع ما في هذه الصدمات من معاناة إلا أن الإفصاح عنها يظل محصوراً في نطاق محدود، فقد يصعب على الوالدين أو أحدهما سوق ولده إلى القضاء لمطالبته بنفقته، أو قد يريا أن مدتهما في الحياة الدنيا محدودة لا تستحق الاهتمام بقضية نفقتهما، أو حتى معاناتهما. ولهذا يلملمان وضعهما بطريقة مّا حتى يأتيهما اليقين.
ومع إخفاء وقائع هذه العلاقة من جانب الوالدين إلا أن طبيعة بعض هذه الوقائع تجعل من الصعب إخفاءها أو التستر عليها. ومن هذه الوقائع قضية أم مسنة وجدها المارة فيما يشبه الغيبوبة في أحد المنعطفات بعد أن ضربها ابنها وزوجته وألقيا بها خارج المنزل. وقضية أم مبصرة صحبها ابنها للصلاة في أحد أماكن العبادة ثم تركها للمحسنين، ومع ذلك أصرت على عدم ذكر اسمه مخافة التشهير به أو عقابه.
وقضية أم مسنة تسكن وحدها في كوخ برغم كثرة أولادها، وغناهم ولم يعرفوا عن وفاتها إلا من جيرانها. وقضية أب تقاسم أولاده ثروته ف أثناء مرضه العضال ثم تخلوا عنه، وتنكروا له بعد أن شفي من مرضه. وقضية أب آخر اضطره تخلي أولاده عنه إلى كسب قوته بنفسه برغم شيخوخته وآلامه.
وإذا كانت هذه القضايا غير محصورة في مكان أو زمان مّا كما ذكرنا فإن أمر قبولها من عدمه يختلف من مكان لآخر، فعندما وجد مواطنو إحدى البلدان الصناعية مواطناً منهم قد توفي في إحدى الحدائق العامة بسبب البرد والجوع صاحوا ضد جمعيات الرعاية، واتهموها بالتقصير مع علمهم بوجود أولاد له. وذلك لمعرفتهم بما يجري في مجتمعهم من ضعف العلاقة بين الوالد وولده بعد بلوغ الأخير سن الرشد، واستقلاله عنه، وافتراضهم كذلك بأنه كان على الأب ((حساب)) وضعه في كبره وعدم الاعتماد على ولده أو تكفل دور الرعاية بهذا الوضع في حال عجزه.
ولكن الأمر يختلف في بلاد أخرى ففي البلاد الإسلامية أو الغالب منها مثلاً لا تتوقف العلاقة بين الوالد وولده عند زمن معين بل ربما يُذهب الأب عمره في الكسب على أولاده مع قدرتهم وكسبهم لعيشهم، بل إن قصده وهمه من جمع المال ينصب دائماً على محاولة إسعادهم في حياته وبعد مماته، فلهذا لا يفرق بين ما يختص به وما يختصون به من مال وهنا تكون صدمته أقسى وأشد عندما يتخلون عنه وهو في حال من الحاجة ليس لأنهم أخلوا بواجبهم الشرعي في بره والإحسان إليه فحسب، بل لأنهم أخلوا كذلك بواجبهم الخلقي فنسوا ما فعله، وجحدوا ما صنعه.
ولقد نقل أبو عبدالله القرطبي صورة لصدمة الأب الذي شكاه ابنه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ومفاد هذه القصة ما رواه جابر بن عبدالله - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إن أبي أخذ مالي. فقال له - عليه الصلاة والسلام -: ((فأتني بأبيك))، فنزل جبريل - عليه السلام - على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((إن الله - عز وجل - يقرئك السلام ويقول لك: إذا جاءك الشيخ فاسأله عن شيء قاله في نفسه ما سمعته أذناه)).
فلما جاء الشيخ قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ما بال ابنك يشكوك، أتريد أن تأخذ ماله؟)) فقال: سله يا رسول الله، هل أنفقه إلا على إحدى عماته أو خالاته أو على نفسي؟ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إيه دعنا من هذا، أخبرني عن شيء قلته في نفسك ما سمعته أذناك؟)) فقال الشيخ: والله يا رسول الله، ما زال الله - عز وجل - يزيدنا بك يقيناً، لقد قلت في نفسي شيئاً ما سمعته أذناي. قال: ((قل وأنا أسمع)) قال: قلت:
غَذَوتُكَ مَولوداً ومُنتُكَ يافِعاً *** تُعَلٌّ بما أَجني عليكَ وتَنهَلُ
إذا ليلةٌ ضافَتكَ بالسٌّقم لم أَبِت *** لسُقمِكَ إلَّا ساهِراً أَتمَلمَلُ
كأنِّي أنا المطروقُ دونَكَ بالَّذي *** طُرِقتَ بهِ دُوني فعَيني تَهمِلُ
تَخافُ الرَّدى نفسي عليكَ وإنَّها *** لتعلَمُ أن الموتَ وَقتٌ مُؤَجَّلُ
فلمَّا بَلَغتَ السنَّ والغايةَ الَّتي *** إليها مَدى ما كُنتُ فيكَ أُؤَمِّلُ
جَعلتَ جَزائي غِلظَةً وفَظاظَةً *** كأنَّكَ أنتَ المنعِمُ المتَفَضِّلُ
فليتَكَ إذ لم تَرعَ حَقَّ أُبُوَّتي *** فعَلتَ كما الجارُ المصاقِبُ يَفعَلُ
فأولَيتَني حَقَّ الجِوارِ ولم تكُن *** عليَّ بمالٍ, دونَ مالكَ تَبخَلُ
قال: فحينئذ أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - بتلابيب ابنه وقال: ((أنت ومالك لأبيك))[10].
موقف الإسلام من علاقة الولد بوالديه:
وإذا كان الوالد يحب ولده بحكم فطرته، فهل الولد يحب والديه بدرجة محبتهما له؟ والجواب عن هذا يُدرك من توجيه الله وأمره للولد ببر والديه والإحسان إليهما، وعدم توجيهه للوالد بالحرص على ولده إلا في مواضع قليلة، وذلك لعلمه وحكمته أن الوالد محكوم بفطرته في حبه لولده وحرصه عليه، ومع حكمة الله وعلمه أن الولد قد يبر بوالديه ويحسن إليهما كما أثنى على نبيه يحيى في قوله - تعالى -: {وبراً بوالديه ولم يكن جباراً عصيا}[11] إلا أن حكمته اقتضت أن يكون أمره للولد بالبر بوالديه أكثر من أمره للوالد بالبر بولده.
ولعظم الحق المترتب على الولد نحو والديه قرن الله الإحسان إليهما بما ورد من تحريم الشرك به كما في قوله - تعالى -: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً}[12]، وقوله - تعالى -: {وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً[13] واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً}[14]، وفي قوله - تعالى -: {أن اشكر لي ولوالديك إلىّ المصير}[15].
ففي هذه الآيات الكريمة دلالتان متلازمتانº
الأولى: دلالة الأمر بالبر والإحسان إلى الوالدين وهذا أمر جامع يشمل كل ما يقتضيه البر من واجبات مادية كالنفقة، والسكن، ونحوهما. وما يقتضيه كذلك من واجبات أدبية كالتواضع لهما، واحترامهما.
والدلالة الثانية: النهي عن كل فعل أو قول يتعارض مع مفهوم البر والإحسان، وقد مثل الله لذلك بالتأفف منهما أو معاملتهما بالخشن من القول. ومع أن النهي في دلالته ومقتضاه شامل حكماً لما هو أكبر من هذه الأفعال إلا أن في التمثيل بالأدنى تعظيم لحرمة الفعل الأشد بدلالة النهي عن الأخف منه.
وكما ورد تأكيد حق الوالدين في القرآن الكريم، ورد كذلك في السنة بأحاديث عدة منها ما يتعلق بتحذير الولد من ضياع فرصته في بر والديه أو أحدهما في حياته. من ذلك ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما صعد المنبر قال: آمين آمين آمين، فقيل له يا رسول الله، علام أمَّنت؟ قال: أتاني جبريل فقال: يا محمد، رَغِمَ أنف رجل ذُكرت عنده فلم يصلِّ عليك، قل آمين فقلت آمين. ثم قال: رغم أنف رجل دخل عليه شهر رمضان ثم خرج فلم يُغفر له، قل آمين فقلت آمين. ثم قال: رغم أنف رجل أدرك والديه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة، قل آمين فقلت آمين[16].
ومنها ما يبين أن الولد لا يجزي والده بعمل يتساوى مع ما فعله إلا في حالة تخليصه من العبودية، كما ورد في الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يجزئ ولد عن والده إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه))[17].
ومنها ما يبين أن بر الولد مهما بلغ في مقداره لا يتساوى مع جهد بذله الوالد في مسار علاقته مع ولده. ومن ذلك ما روي أن رجلاً كان يطوف بأمه وهو يحملها فسأل النبي - عليه الصلاة والسلام - عما إذا كان قد أدى حقها فقال له - عليه الصلاة والسلام -: ((لا، ولا بزفرة واحدة))[18].
ومنها ما يؤكد فضل بر الوالدين على غيره من فعل مأمور به ولو كان هذا الفعل في العلو من درجات الفضل، وفي ذلك ما روي أن جاهمة السلمي جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، أردت أن أغزو وقد جئتك أستشيرك، فقال: ((هل لك من أم؟))، قال: نعم. قال: ((فالزمهاº فإن الجنة عند رجليها))[19]. وفي وجه آخر قال عبدالله بن مسعود: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله، أي الأعمال أفضل؟ قال الصلاة لميقاتها، قلت: ثم ماذا يا رسول الله؟ قال: بر الوالدين، قلت: ثم ماذا يا رسول الله؟ قال: الجهاد في سبيل الله. ثم سكت عني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولو استزدته لزادني[20].
ومنها ما يقرر أن البر والإحسان إلى الوالدين حكم دائم الوجوب في حياتهما وموتهما، وفي ذلك ما روي أن رجلاً جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد وفاتهما؟ قال: ((نعم، الصلاة عليهما والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما))[21].
الحقوق المترتبة بمقتضى الأمر بالبر والإحسان:
وإلى جانب الحكم المقتضي للتلطف بالوالدين والتأدب معهما أوجب الله لهما النفقة بما قضى به من الإحسان إليهما في قوله - تعالى -: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً}[22]. وفي قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولدَه من كسبه))[23].
وللفقهاء أقوال، وخلاف في مسألة النفقة على الوالدين، ومتى تجب على الولد. فمنهم من يرتبها في حال الفقر، وعدم الكسب، وعدم وجود المال[24]، ومنهم من يرتبها بما يفضل عن نفقته ونفقة زوجته[25].
وقد أفاضوا كثيراً في مسألة الوالد الكسوب، وهل تجب له النفقة على ابنه؟ وفي ذلك يرى السرخسي أن الأب إذا كان كسوباً والابن أيضاً كسوباً يجبر الابن على الكسب والنفقة على الأب، وفرق بين نفقة الولد والوالد، فإن الولد البالغ إذا كان قادراً على الكسب لا تجب على الأب نفقته، والفرق بينهما فضيلة الوالد على الولد[26].
وإذا كان المقام لا يتسع لذكر أقوالهم - رحمهم الله - باعتبار أن هذه المسألة ((قضية للبحث وتستدعي الاختصار)) فإن من المهم القول بأن الله - جل وعلا - قد قرَّر قاعدة واضحة في مسألة العلاقة بين الوالدين، وأولادهم هي أمر الولد وإلزامه بالبر، والإحسان إليهما، والنهي عن إيذائهما بأي صورة من صور الإيذاء مهما صغرت، مع مصاحبتهما بالمعروف إن كانا غير مسلمين.
والحق أن يُقال: إنه ليس من البر والإحسان في شيء أن يترك الولد والديه خاصة في كبرهما يتعبونº وينصبون لكسب قوتهم، وهو يتلذَّذ الحياة مع زوجته وأولاده.
وليس من البر والإحسان في شيء أن يلقي عبء رعايتهم على جمعيات البر والصدقات بعد أن رعوه وحفظوه وحافظوا عليه في صغره.
وما دام حكم البر، وتحريم الإيذاء واضحاً في كتاب الله وفي سنة رسوله بما لا مجال فيه للتأويل أو التفسير، فهل من البرِّ أن يلجئ الولد القادر والديه للعمل في وهج الشمس، وقسوة البرد، أو يلجئهما للإقامة في دور الرعاية أو يضطرهما إلى السؤال؟
والجواب واضح: إن هذا ليس من البر ولا من الإحسان في شيء، بل هو من العقوق والجحود.
وفي هذا قال الإمام أبو محمد بن حزم - رحمه الله -: وصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((عقوق الوالدين من الكبائر))، وليس من العقوق أكثر من أن يكون الابن غنياً ذا مال ويترك أباه أو جده يسوس الدواب، ويكنس الزبل، أو يحجم أو يغسل الثياب للناس، أو يوقد في الحمَّام، ويدع أمه أو جدته تخدم الناس، وتسقي الماء في الطرق. فما خفضَ لهما جناح الذل من الرحمة من فعل ذلك بلا شك[27].
قلت: إن علاقة الوالد مع والديه قضية مهمة في هذا الزمان وما يسيطر عليه من تفاعلات وضغوط نفسية ومادية. وإن ما يحدث من مشكلات، ومعاناة وقسوة في هذه العلاقة يوجب البحث فيها على نحو أكثر تفصيلاً.
ولعل أحد الإخوة الباحثين يولي هذا الموضوع ما يستحقه من تفصيل.
والله المستعان...
ـــــــــــــــــــــ
[1] المقصود بالولد هنا الذكر على وجه الخصوص.
[2] سورة النحل من الآية 72.
[3] سورة آل عمران من الآية 14.
[4] سورة الكهف من الآية 46.
[5] سورة إبراهيم الآية 39.
[6] سورة الأنبياء الآية 89.
[7] سورة التكوير الآية 8.
[8] سورة الإسراء الآية 31.
[9] سورة الأحزاب آية 62.
[10] الجامع لأحكام القرآن لأبي عبدالله القرطبي جـ10 ص245 246.
[11] سورة مريم آية 19.
[12] سورة النساء من الآية 36.
[13] سورة الإسراء الآية 23.
[14] سورة الإسراء الآية 24.
[15] سورة لقمان من الآية 14.
[16] تفسير ابن كثير جـ3 ص37.
[17] سنن الترمذي جـ4 ص278.
[18] تفسير ابن كثير جـ3 ص38.
[19] سنن النسائي جـ6 ص11.
[20] سنن الترمذي جـ4 ص274.
[21] رواه أبو داود جـ4 ص336.
[22] سورة الإسراء من الآية 24.
[23] سنن ابن ماجة جـ2 ص723.
[24] المغني والشرح الكبير جـ9 ص256.
[25] نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج جـ7 ص218.
[26] شرح فتح القدير جـ3 ص347.
[27] المحلى جـ10 ص108.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد