بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين القائل ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)) وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد فهذا بحث ليس بالطويل الممل ولا بالقصير المخل. حول تعريف الفقه وتطوره ومكانته، لا يدعي اقتناص الشوارد ولا قيد الأوابد، لكنه يكتفي بإيضاح بعض المقاصد.
فأقول وبالله التوفيق، وهو الهادي بمنه إلى سواء الطريق الفقه لغة: هو مصدر من فقه بكسر عين الفعل في الماضي يفقه بفتح عينه في المضارع، وفيه لغة أخرى هي فقه بالضم في الماضي والمضارع وهي تشير إلى رسوخ ملكة الفقه في النفس حتى تصير كالطبع والسجية [1].
وزاد الحافظ بن حجر في فتح الباري لغة ثالثة هي: فقه بالفتح إذا سبق في الفهم[2]، وهذه اللغة لم تذكرها المعاجم المشهورة فعلى هذا تكون فقه مثلثة عين الماضي، مثناة عين المضارع إذ ليس في مضارعها إلا يفقه بالفتح ويفقه بالضم.
والفقه مصدر غير مقيس، وإنما أصله السماع، ويرجع في أصله إلى معنيين بالنظر إلى اختلاف ((تعبير علماء اللغة)) في التفسير الأوليِّ لمادة فقه.
أولهما: الفهم والفطنة والإدراك والعلم. وهذا الأصل اقتصرت عليه أكثر المعاجم كالجوهري في صحاحه والمجد في قاموسه، والفيومي في مصباحه.
وهذا الأصل هو الذي عليه أكثر الأئمة الأوائل، ولنذكر مثالاً واحداً نكتفي به من كلامهم:
فيقول أحمد بن فارس المتوفي سنة 395هـ. \"فقه الفاء والقاف والهاء أصل واحد صحيح يدل على إدراك الشيء والعلم به، تقول فقهت الحديث أفقهه، وكل علم بشيء فهو فقه، يقولون لا يفقه ولا ينقه، ثم اختص بذلك علم الشريعة فقيل لكل عالم بالحلال والحرام فقيه، وأفقهتك الشيء إذا بينته لك\"[3].
ثانيهما: أن أصل معناه يرجع إلى الشق والفتح، وهذا ما ذهب إليه الزمخشري من الفائق في غريب الحديث وأبو السعادات ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث أيضاً[4].
ونكتفي بنقل كلام الزمخشري هنا: \"سلمان - رضي الله عنه - نزل على نبطية بالعراق، فقال لها هل هنا مكان نظيف أصلي فيه، فقالت: طهر قلبك وصل حيث شئت، فقال سلمان: فقهت، أي فطنت وارتأت الصواب\"[5].
والفقه حقيقة الشق والفتح، والفقيه العالم الذي يشق الأحكام، ويفتش عن حقائقها، ويفتح ما استغلق منها، وما وقعت من العربية فاؤه فاء عينه قافاً جله دال على هذا المعنى نحو قولهم: تفقاً شحماً، وفقح الجرو وفقر للغسيل وفقصت البيضة، عن الفرخ، وتفقعت الأرض عن الطرثوث[6].
قلت: وما ذهب إليه الزمخشري وأبو السعادات من أن الفقه في أصل اللغة يرجع إلى الشق والفتح ليس ظاهراً.
أولاً: لمخالفته لكلام الأئمة والأرسخ قدماً والأسبق زمناً.
ثانياً: اعتماد الزمخشري على القياس عن طريق ما يسمَّى بالاشتقاق الأكبر وهو ما فيه مناسبة في بعض الأحرف الأصلية فقط.
يعتبر ضعيفاً وغير مقيس، قال أبو حيان: \"لم يقل بالاشتقاق الأكبر من النحاة إلا أبو الفتح وكان ابن الباذش يأنس به[7]\".
وذكر ذلك صاحب المراقي عند قوله:
الجذب والجبذ كبير وبري للأكبر الثلم وثلبا من درى
وزيادة على هذا فإن مذهب الجمهور هو: أن اللغة لا تثبت بالقياس، وهو الراجح عند ابن الحاجب إذ اللغة تقل محض[8].
ونكتفي بذكر هذين الاتجاهين في التعريف اللغوي للفقه.
ولكن لابد من الإشارة إلى أن بعض علماء الأصول حاول التوسع في المعنى اللغوي فقال القرافي: إن الفقه على الشعر والطب، وتبعه بعض علماء الأصول فقالوا: الفقه لغة الفهم والشعر والطب[9].
ولعل هذا الكلام من باب المجاز اللغوي، لأن الشعر والطب يحتاجان إلى فهم وفطنة فهو تعبير بالملزوم عن اللازم. فالعرب ما كانت تسمى الفقه طباً، وإن سمع عنه فحل طب بالضراب أي حاذق، في معرفة الحامل من الحائل، أي أنه يعرف الناقة ذات الضبع وهي التي تشتهي الفحل، ولا يراد به الطب الذي هو علاج الجسم أو النفس.
وذهب العلامة ابن القيم في إعلام الموقعين إلى أن الفقه أخص من الفهم لأن الفقه هو فهم مراد المتكلم من كلامه وهو قدر زائد على مجرد فهم ما وضع له اللفظ[10].
أما القرافيٌّ فنقل عن أبي إسحق الشيرازي أنه إدراك للأشياء الخفية، فنقول: فقهت كلامك ولا تقول فقهت السماء والأرض[11].
وهذه الخلاصة ما ذكره العلماء للمعنى اللغوي لكلمة الفقه.
مقدمة في تطور كلمة الفقه قبل الحديث عن اصطلاح الأصوليين
كلمة الفقه كانت معروفة في الجاهلية، بمعنى الفهم لا بمعنى العلم المخصوص، وما كانوا يستعملون لفظ فقيه أو عالم فيما استعملا فيه بعد الإسلام.
هذا ما يقوله محمد بن الحسن الثعالبي الفاسي (في كتابه) الفطر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي...
ولكني أرى أنه لم يكن شايعاً بينهم بالمعنى المخصوص وإنما الذي سجل عن العرب قولهم كما رأينا سابقاً جمل فقيه أي فطين بأحوال الشوق، لأن اللغة العربية كانت تميل إلى التعبير عن المحسوسات قبل النقلة التي شهدتها بمجيء الإسلام ونزول القرآن الكريم، فلم يكونوا يعرفون مثلاً الفاسق كما نقله الأصبهاني عن ابن الأعرابي ونص كلام ابن الأعرابي على ما نقله الجوهريٌّ.
لم يسمع الفاسق في وصف الإنسان في كلام العرب، وإنما قالوا:
فسقت الرطبة خرجت عن قشرها.
قال ابن الأعرابي: \"لم يسمع قط في كلام الجاهلية ولا شعرهم فاسق\"...
نقل شيخ مرتضى: عن بعض فقهاء اللغة أن الفسق من الألفاظ الإسلامية لا يعرف إطلاقها على هذا المعنى قبل الإسلام، وإن كان أصل معناها، الخروج، فهي من الحقائق الشرعية التي صارت في معناها حقيقة عرفية في الشرع، وقد بسطه الخفاجي في العناية[12] ومثل هذا كثير فإن كلمة الأدب ما كانت شائعة قبل الإسلام وإنما كانت العربُ تعرف الآدب الذي يدعو إلى المأدبة وهي طعام يصنع للجماعة، قال طرفه:...
نحن في المشتاة ندعو الجفلى لا ترى الآدب فينا ينتقر
والجفلى هي الدعوة العامة، والنقرى الدعوة الخاصة..
ثم تطورت كلمة الأدب إلى أن أصبحت تعني الأخلاق الفاضلة وأصبحت بعد ذلك تطلق على علم خاص.
قال: الخفاجي في العناية نقلاً عن الجوالقيِّ في شرح أدب الكاتب: \"الأدب في اللغة حسن الأخلاق وفعل المكارم، وإطلاقه على علوم العربية مولد حديث في الإسلام\"[13]
والفقه من هذه الألفاظ التي تطورت تطوراً ملموساً منذ ظهور الإسلام ففي الصدر الأول استعملت كلمة الفقه في النصوص الشرعية لمعنيين:
أولُهما: الفهم الذي ينصف به الشخص.
وثانيهما: النصوص الشَرعِيَّة.
فمن الأول قوله - تعالى -: {قالوا يا شعيب ما نفقه كثيراً مما تقول}[14].
ومن {ولكن لا تفقهون تسبيحهم}[15]...
ومنه {أنظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون}[16].
ومن السنة: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعائه لابن عباس: ((اللهم فقهه في الدين.. )) الحديث، متفق عليه[17].
فهو محتمل للمعنيين أي معنى الفهم ومعنى العلم بنصُوص الشريعة...
ومن المعنى الأول قول علي - رضي الله عنه - لابن الكوَّاء وقد سأله عن قوله - تعالى -: {والذاريات ذروا فالحاملات وقرا} قال له: ويحك اسأل تفقهاً ولا تسأل تعنتاً[18]...
ثانيهما: النصوص الشرعيَّة ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((رب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه))[19]، وهو جزءٌ من حديث أخرجه أحمد في المسند والترمذي وقال صحيح.
وابن حبان وصححه، والحاكم وصححه..
ومنه قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: ((تفقهوا قبل أن تسوَّدوا))[20].
قال أبو عبد الله البخاري: \"وبعد أن تسودوا وقد تعلم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد كبر سنهم\".
بعد هذه المقدمة القصيرة عن معنى الفقه في القرآن والسنة، نستنتج أن الفقه بمعنى المعلوم، كانت تغطى علوم الدين كلها من عقيدة وأحكام عبادات ومعاملات، وحدود، كما تغطى أدلتها من كتاب وسنة، كل ذلك يعتبر فقهاً، لأن متعلقه الدين، والدين كما هو معروف إذا أطلق فإنه يدل على الإسلام والإيمان والإحسان، ومع ذلك فنحن نلاحظ استعمال كلمة الفقه، في بعض الآثار الواردة عن بعض السلف في عصر الصحابة، بجانب الكتاب والسنة، مما يشير إلى شيء خاص وليس حَتماً منافياً ولكنه على كل حال زائد على حرفية النص، فمن ذلك قول ابن عباس - رضي الله عنهما -: أفضل الجهاد من بنى مسجداً يعلم فيه القرآن والفقه والسنة[21]. رواه شريك عن ليث ابن سليم بن يحيى ابن أبي كثير عن علي الأزدي، قال: أردت الجهاد فأتيت ابن عباس فقال لي: ((ألا أدلك على ما هو خير تأتي مسجداً فتقرأ فيه القرآن وتعلم فيه الفقه))[22].
وهذا يدل على أن الفقه بدأ في تمثيل مصطلح خاص متميز في أيام الصحابة، وذلك راجع إلى ظهور مسائل اجتهادية، كمسألة ميراث الجد مع الأخوة، ومسألة أراضي العراق وغيرها من أرض الخراج ومسألة درء الحد عمن ولدت لستة أشهر، وغيرها من المسائل التي تستدعي الاجتهاد وأعمال النظر، وظهور هذه المسائل كان نتيجة لتلاحق التطورات في المجتمع الإسلامي الذي اتسعت رقعته، وتنوعت عناصر مكوناته، وكان القرآن الكريم الذي جمع جمعاً أولياً على عهد الخليفة الأول أبي بكر الصديق وجمعاً نهائياً على عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وعن الخلفاء الراشدين جميعاً.. والذي جمع الناس على مصحف واحد ووزعه على الآفاق وألغى ما سواه وكان ذلك بمحضر الملأ من الصحابة ومشورتهم.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد