بسم الله الرحمن الرحيم
هذا مبحث مهم، يكثر السؤال عنه بين فترة وأخرى، وهو: هل للمسلم المقصر - سواء بفعل المعاصي أو التهاون في بعض الأوامر - أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؟
وهو من كلام ابن حزم - رحمه الله - ضمن رسالته \"التلخيص لوجوه التخليص \" (ص 259-265)، أحببتُ نقله (دون هوامشه) - لما فيه من فائدة..
قال - رحمه الله -:
(قد توصل الشيطان إلى جماعة من الناس بأن أسكتهم عن تعليم الخيرº بأن وسوس إليهم، أو لمن يقول لهم: إذا أصلحتم أنفسكم، فحينئذ اسعوا في صلاح غيركم.. وربما اعترض عليهم بقول الله - عز وجل -: (عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديت) (سورة المائدة، 105) وبقوله - تعالى -: (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم) (سورة البقرة، 44) الآية، والحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: \"أن رجلاً يقذف به في النار فتندلق أقتابه، فيقول له أهل النار: يا فلان: ألست الذي كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: نعم كنت آمركم بالمعروف ولا أفعله وأنهاكم عن المنكر وآتيه\"، أو كما قال - عليه السلام -، فأسكتهم عن تعليم الخير.
فاعلموا رحمكم الله:
- أن الآية الأولى لا حجة فيها للمعترض بهاº لأنه ليس فيها نهي لنا عن أن ننهى من ضل عن ضلاله، ولكن فيها تطييب لأنفسنا عن غيرنا ولا يضرنا من ضل إذا اهتدينا، وقد جاء في بعض الآثار: أن المنكر إذا خفي لم يؤخذ به إلا أهله، وأنه إذا أعلن فلم ينكره أحد أخذ فاعله وشاهده الذي لا يقرهº فإنما في هذه الآية إعلام لنا أننا لا نُضرٌّ بإضلال من ضل إذا اهتدينا، وعلى من اهتدى بنا أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
- وأما الآية الثانية فلم ينكر فيها الأمر بالبر، وإنما أنكر استضافة إتيان المنكر إليه.. ونعم معترفون لها بذنوبنا، منكرون على أنفسنا وعلى غيرنا، راجون الأجر على إنكارنا، خائفون العقاب على ما نأتي مما ندري أنه لا يحل. ولعل أمرنا بالمعروف، وتعليمنا الخير، ونهينا عن المنكر: يحط به ربنا - تعالى -عنا ما نأتي من الذنوبº فقد أخبرنا - تعالى -أنه لا يضيع عمل عامل منا.
- وأما الحديث المذكور فهو عن رجل غلبت معاصيه على حسناته، فإن كان مستحلاً للمنكر الذي كان يأتي ومرائياً بما يأتي به: فهذا كافر مخلد في نار جهنم، ويكفي من بيان هذا قوله - تعالى -: (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره)(سورة الزلزلة).
فمن أمر بالمعروف ونهى عن المنكر وعصى مع ذلك فوالله لا ضاع له ما أسلف من خير، ولا ضاع عنده ما أسلف من شر، وليوضعن كل ما عمله يوم القيامة في ميزان يرجحه مثقال ذرة، ثم ليجازين بأيهما غلب. هذا وعد الله الذي لا يخلف الميعاد.. وقد أمر - تعالى -فقال: (ولتكن منكم أمةٌ يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون)(سورة آل عمران، 104)، وقال - تعالى -: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) (سورة التوبة، 122)، فأمر- تعالى -من نفر ليتفقه في الدين بأن ينذر قومه، ولم ينهه عن ذلك إن عصى، بل أطلق الأمر عاماً، وقال-تعالى-: (وما يفعلوا من خير فلن يُكفروه)(سورة آل عمران، 115).
فمن رام أن يصدَّ عن هذه السبيل بالاعتراض الذي قدمنا فهو فاسق، صاد عن سبيل الله، داعية من دواعي النار، ناطق بلسان الشيطان، عون لإبليس على ما يحب، إذ لا ينهى عن باطل ولا يأمر بالمعروف ولا يعمل خيراً، وقد بلغنا عن مالك أنه سئل عن مسألة فأجاب فيها، فقال له قائل: يا أبا عبد الله: وأنت لا تفعل ذلك؟.. فقال: يا ابن أخي ليس في الشر قدوة.
ورحم الله الخليل بن أحمد الرجل الصالح حيث يقول:
اعمل بعلمي ولا تنظر إلى عملي ينفعك علمي ولا يضررك تقصيري
وذُكرت هذه المسألة يوماً بحضرة الحسن البصري - رحمه الله - فقال: ودَّ إبليس لو ظفر منا بهذهº فلا يأمر أحدٌ بمعروف ولا ينهى عن منكر.. وصدق الحسنº لأنه لو لم يأمر المعروف ولم ينه عن المنكر إلا من لا يذنب: لما أمر به أحد من خلق الله - تعالى -بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكل منهم قد أذنب.. وفي هذا هدم للإسلام جملة.. فقد صح عن النبي - عليه السلام - أنه قال: \"ما من أحدٍ, إلا وقد ألـمَّ، إلا ما كان من يحيى بن زكريا\" أو كلام هذا معناه.
فخذوا حذركم من إبليس وأتباعه في هذا الباب، ولا تدعوا الأمر بالمعروف وإن قصرتم في بعضه، ولا تدعوا النهي عن منكر وإن كنتم تواقعون بعضه، وعلّموا الخير وإن كنتم لا تأتونه كله، واعترفوا بينكم وبين ربكم بما تعملونه بخلاف ما تعلِّمونه).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد