رعاية المصلحة في الوقف الإسلامي


بسم الله الرحمن الرحيم

 يهدف بحث الشيخ \"عبد الله بن بيه\" إلى رفع الحرج الذي طالما استشعره المتعاطي لقضايا الأوقاف من حيث استثمارها وإدارتها، حيث يصطدم بعقبة النظرة الفقهية لبعض المذاهب التي تجعل الوقف ساكنا لا يتحرك، في وقت تنوعت فيه المؤسسات الخيرية (غير الإسلامية) في العالم متخذة من الاستثمارات العملاقة مطية لجني الأرباح الكثيرة.

وقد قرر الشيخ تقي الدين ابن تيمية - رحمه الله تعالى -ونقله عن الإمام أحمد - رضي الله عنه - من وجوه كثيرة- أنه تجوز المناقلة في الأوقاف للمصلحة الراجحةº لدليل: أن عمر - رضي الله عنه - كتب إلى ابن مسعود أن يحول المسجد الجامع بالكوفة إلى موضع سوق التمارين، ويجعل السوق في مكان المسجد الجامع العتيق ففعل ذلك.

 

 الشريعة مبنية على مصالح العباد

ومن المقرر -بالاستقراء- أن الشريعة مبنية على مصالح العباد، وبين العز بن عبد السلام أن الطاعات نوعان: أحدهما ما هو مصلحة في الآخرة كالصوم والصلاة والنسك والاعتكاف، والثاني: ما هو مصلحة في الآخرة لباذله، وفي الدنيا لآخذيه، كالزكاة والصدقات والضحايا والهدايا والأوقاف.

 

ويوازي هذا التقسيم للطاعات تقسيم ثنائي آخر لكل ما هو مشروع شرعا إلى: معقول المعنى أو غير معقول المعنى (التعبدي)، وبتعبير ابن رشد: \"عبادي\" و\"مصلحي\".

 

أين يقع الوقف من هذا كله؟

والسؤال المثار هنا: هل الوقفية تتضمن معنى \"تعبديا\" يمنع استغلال الحبس؟.

والجواب أن الوقف ليس من التعبديات التي لا يُعقل معناها، بل هو من معقول المعنى، أو المصلحي، وهو من نوع الصدقات والصلات والهباتº ففيه ما فيها من سد الخلات. فالوقف معقول المعنى مصلحي الغرض. وقد ترتبت عليه مصالح واضحة للعيان بالنسبة للأفراد، وكذلك أيضا بالنسبة للأمة (مرافق عامة، مؤسسات تعليمية وثقافية،...).

 

ما الذي قد تتدخل به المصلحة في طبيعة الوقف؟

السؤال الثاني الهام هنا: ما الذي يمكن للمصلحة أن تتدخل به للتعامل مع طبيعة الوقف التي تقتضي سكون اليد وبقاء العين الموقوفة؟.

 

وهنا تختلف أنظار العلماءº إلى ثلاثة آراء:

· محافظ على عين الموقوف إلى ما يشبه التوقيف والتعبد، وهو مذهب المالكية والشافعية، فلا يجيزون الإبدال والمعاوضة إلا في أضيق الحدود، في مواضع ذكرها البحث.

· متصرف في عين الوقف في إطار المحافظة على ديمومة الانتفاع، وليس على دوام العين، ويمثله الحنابلة وبعض فقهاء المالكية، خاصة الأندلسيين.

· متوسط متأرجح بين الطرفين، يدور مع المصالح الراجحة حيثما دارت، ويتشكل من بعض الأحناف -كأبي يوسف- ومتأخري الحنابلة -كالشيخ تقي الدين ابن تيمية- وبعض متأخري المالكية.

 

 مظاهر تأثير المصلحة، واعتبارها

ويمكن ملاحظة اعتبار المصلحة وتأثيرها في المظاهر التالية:

* وقف أموال منقولة لا يمكن الانتفاع بها دون استهلاك عينها:

كوقف النقود والطعام للسلف، أو النقود للمضاربة والاستثمار. وهذه المسألة فيها نزاع في مذهب أحمدº فكثير من أصحابه منعوا وقف الدراهم والدنانير. قال \"المرداوي\"، بعد أن نقل أن الصحيح من المذهب عدم وقف الأثمان: \"وعنه يصح وقف الدراهم. فينتفع بها في القرض ونحوه، اختاره شيخنا، يعنى الشيخ تقي الدين.

وقصر المالكية وقف العين على القرض، ولكن ذلك -من حيث المعنى- لا يمنع تعميمه على غير القرض من الاستثمار، كما قاسوا على العين وقف الطعام للبذور، ووقف النبات دون الأرض ليفرق على المساكين. ووقف الطعام إذا كان للسلف: كوقف العين، ليس محل ترددº لأن مذهب \"المدونة\" وغيرها الجواز.

وفي المذهب الحنفي كان العلامة أبو السعود (عاش في القرن العاشر الهجري) من أشد المدافعين عن جواز وقف النقود والمنقولات التي تزول وتحول.

وهذا واضح في جواز وقف ما يحول ويزول كالطعام، وما في حكمه مما لا يمكن الانتفاع به إلا باستهلاك عينه، وبهذا ندرك أن المصلحة أثرت في الانتقال عن الأصل المعروف في: \"أن الوقف إنما يكون عقارا أو منقولا، لا يتضمن الانتفاع به استهلاكَ عينه عند الجمهور\"، إلى أن أصبح الوقف أموالا سائلة تتناولها الأيدي، وتتداولها الذمم.

 

* أثر المصلحة في تغيير عين الموقوف بالمعاوضة والتعويض والإبدال والاستبدال والمناقلة.

* مراعاة المصلحة في الإبدال والمعاوضة، والتصرف في غلة الوقف بإنشاء أو مساعدة وقف آخر على سبيل البت، أو سبيل السلف، واستثمار غلته لتنميته.

وقد أجاز المالكية المعاوضة \"للمصالح العامة\" كما سماها أبو زهرة، وأن ما هو لله فلا بأس أن يُنتفع به فيما هو لله. ويقول \"ابن لب\": \"كان فقهاء قرطبة وقضاتها يبيحون صرف فوائد الأحباس بعضها في بعض\".

* تغيير معالم الوقف لمصلحة.

* التصرف في الوقف بالمصلحة مراعاة لقصد الواقف المقدر بعد موته:

وهو ما ذهب إليه بعض المتأخرين من علماء المذهب المالكي، من اعتبار قصد الواقف المقدر بعد موته، لإحداث تصرف في الوقف للمصلحة يخالف ألفاظه.

 

* إجراء العمل في مسائل الوقف:

فمن قواعد مذهب مالك - رحمه الله - اعتماد القول الضعيف إذا جرى به عملº استنادا لاختيارات شيوخ المذهب المتأخرين لبعض الروايات والأقوال لموجِبٍ,، كتبدل العرف أو عروض جلب المصلحة أو درء المفسدة، فيرتبط العمل بالموجب وجودا وعدما.

وقد أدخل المالكية إجراء العمل في مسائل الأوقاف في ست وعشرين مسألة، وفي بعضها خالفوا مشهور المذهب، وذلك يدل على إعمال المصلحة.

 

وليس ذلك في مذهب مالك فقط، فقد نجد في كلام غير المالكية (ذكر البحث نقلا عن الحنفية والحنابلة) الترجيح بجريان العمل أو بالتعامل، وهما مفهومان قد يعني الأول منهما عمل العلماء في فتاواهم وأحكامهم، ويعني الثاني تعامل العامة في عوائدهم وأعرافهم.

 

لكن.. كيف تتحقق المصلحة؟

إن معيار المصلحة هو المعيار الصحيح الذي لا يحيف كما تبين باستقراء النصوص، وأن ميزانها هو ميزان العدل الذي لا يجور، لكن لا توجد -في الغالب- مصلحة محضة عَرِية عن مفسدة أو ضرر من وجه، وقد أوضح ذلك أبو إسحاق الشاطبي خير إيضاح، فالمصلحة إذا كانت هي الغالبة عند مناظرتها مع المفسدة في حكم الاعتياد، فهي المقصودة شرعا، ولتحصيلها وقع الطلب على العباد ليجري قانونها على أقوم طريق وأهدى سبيل، وكذلك المفسدة. و\"الغالب كالمحقق\".

 

وتحرير المصلحة المعتبرة التي يمكن أن تؤثر في الوقف: أنها مصلحة غالبة عادة، يُطلب جلبها شرعا. أو مفسدة غالبة عادة، يطلب درؤها شرعا. فإذا لم يقع تحقق غلبة المصلحة على المفسدة فإن الإبقاء على أصل الثبات في الوقف مُسَلم الثبوت، فليست كل مصلحة عارضة يمكن أن تزعزع أركان الوقف أو تَصرف ألفاظ الواقف عن مواضعها أو تحرك الغلات عن مواقعها.

 

 هل يجوز استثمار الوقف؟

السؤال المركزي الآن هو: هل بالإمكان -شرعا- تحريك الأموال المرصودة لاستثمارها ليزداد ريع الوقف، ويكون أكثر استجابة للمصالح التي وُقف من أجلها؟، والجواب أن هذا الأمر لا يستبعد، وذلك للاعتبارات التالية:

- اعتبار المصلحة التي من أجلها كان القول بجعل الوفر في أعيان من جنس الوقف، وهو نوع من الاستثمار. فلم يبق بعد ذلك إلا إشكال: المضاربة في ثمن المعاوضة: دون صرفه إلى أعيان من جنس الوقف.

 

- إذا اعتبرنا القول بجواز وقف العين ابتداء للاستثمار والمضاربة، فنقول: إن ما جاز ابتداء يجوز في الأثناءº بناء على المصلحة الراجحة -كما سماها ابن تيمية- ليترتب عليها استبدال الوقف للجدوى الاقتصادية التي ليست ناشئة عن حاجة أو ضرورة، وإنما عن الحاجة الاستثمارية.

- قياسا على جواز المضاربة في مال اليتيم، بل هو أولى من تركه تأكله الصدقة. قال - تعالى -: (ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير).

- يُقاس على التصرف في مال الغير بالمصلحة الراجحة، الذي قد يُثاب عليه فاعله.

وقد دل حديث الثلاثة الذين في الغار، (ومنهم الرجل الذي كان مستأجرا أجيرا... )، على أن التصرف بالإصلاح، وبما هو أصلح: أمر مقبول شرعا.

ومن أوجه مراعاة المصلحة: تقديم ذوي الحاجة والفاقة على غيرهم، والأصل أن يتبع شرط الواقف الذي وقف على ذوي القربى دون تفضيل.

 

الخلاصة

والخلاصة أننا يمكن أن نجزم باعتبار المصلحة في استثمار الأوقاف، مع المحافظة على الديمومةº مما يُمكن من إعداد برامج الاستثمار المراعية للناحيتين: الشرعية والمصلحية، ويحافظ على الموازنة الدقيقة بين انفتاح الوقف لمقتضيات \"المصالح الراجحة\" المحققة أو المظنونة، وبين الإبقاء على الوقفية التي تتمثل في بقاء العين أو ما يقوم مقامها في المحافظة على طبيعة الانتفاع للمستفيد من الوقف بحيث لا تَكُر مراعاة المصلحة بالإبطال على أصل الديمومة والجريان المستمر اللذين يمثلان أساس الحكمة التي تميز الوقف عن غيره من الصدقات والهبات.

 

وانطلاقا مما تقدم ينبغي صياغة سياسة للمحافظة على الأوقاف، لا سيما في بلاد الغرب حيث يتعين تسجيل المساجد والأوقاف الأخرى باسم هيئات موثوق بها، وإيجاد صيغة لاعتراف السلطان في تلك الديار.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply