بسم الله الرحمن الرحيم
عندما يقودنا الحديث إلى بيان الحكم الشرعي في الدخان واستعمالاته على أشكاله المختلفة، فإن الباحث يواجه بسيل من الشبه التي يستخدمها المدخنون للتأكيد على أن الحكم على التدخين ليس وراءه نص قرآني أو نبوي صريح وواضح يحكم عليه وبالتالي فلا قيمة للاجتهادات التي تصدر بهذا الشأن، ولا يمكن التعامل معها باعتبارها مسلمات كالنص القرآني أو النبوي وتكون المحصلة الإجمالية لهذه الاعتراضات بقاء الحال على ما هو عليه وتقرير الأمر الواقع الذي يؤكد أن التدخين أضحى ظاهرة شديدة الانتشار على جميع المستويات والفئات الثقافية والاجتماعية والمادية والعمرية وغيرها وأن إزالتها واستئصالها من المجتمع سيتطلب جهدا خارقا على جميع الأصعدة الإعلامية والصحية والشرعية.
لذا كان لزاما بيان وجه الحق في مسألة التدخين وتأصيلها التأصيل الشرعي اللائق بها كمسألة بات حكمها يشغل أذهان الكثيرين من المسلمين الذين اشتبه عليهم أمرها أو الذين يقللون من قدر خطورتها الشرعية بوضعها في درجة المكروه دون الحرام بدعوى عدم توفر نصوص واضحة قطعية تنص على التحريم والمنع.
وبين القائلين بالحرمة والقائلين بالكراهة لعدم توفر نصوص قطعية واضحة وبين المبيحين لها على الإطلاق بلا تقييد بين كل هؤلاء يقف المسلم حائرا في أمر دينه غير حاسم لشأنه فيما يتعلق بالتدخين وحتى على الفرض بالحكم بالحرمة فما هي درجة هذه الحرمة أهي من الصغائر أم من الكبائر أم هي من الصغائر التي تتحول إلى كبائر بمصاحبتها لأفعال أخرى، لبيان كل هذا يأتي هذا المقال.
لا بد أولا من التأكيد على أن الإسلام دين صالح لكل زمان ومكان هكذا قرر لنا رب العزة- تبارك وتعالى -عندما أنزل على نبيه صلي الله عليه وسلم في حجة الوداع قوله - تعالى -: \" اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا \" ومن كمال علم الله - تعالى -علمه بما سيكون في حياة البشر من استحداث وسائل جديدة للحياة وأساليب متغيرة لأداء وظائف الحياة اليومية ومن كمال قيوميته - عز وجل - على عباده أنه قد قرر لهم في آخر الرسالات والشرائع السماوية نزولا ما يضمن قدرة هذه الشريعة على مواجهة المعدل السريع للتغيرات المختلفة في مظاهر الحياة البشرية وكذا التطور اللحظي للاختراعات المختلفة التي تنشأ أساسا بغرض توفير الراحة للجنس البشري باختلاف أعراقه.
هذه القدرة على مواجهة التطورات المختلفة للحياة البشرية صاغها العلماء، علماء الشريعة في نصوص محددة بعد أن استقرؤوها من نصوص الوحيين الكتاب والسنة، هذه القواعد بفهمها تضمن للمسلم اليقين بكمال الشريعة والحصول على الطمأنينة والاستقرار في شؤون الحياة كلها وفي ظل هذه القواعد الكلية تكون نظرة المسلم للأحكام الشرعية كاملة وشرعية ومن هذه القواعد:
قواعد شرعية:
(1) المقصد العام من الشريعة جلب المنافع للناس ودفع المفاسد عنهم.
(2) مصالح الناس ترجع إلى الحفاظ على الكليات الخمس الدين والمال والنفس والعرض والعقل وهي مرتبة على مراتب ثلاث ضرورية وحاجية وتحسينية: بهذه القاعدة يصوغ العلماء أهداف المقصد العام من الشريعة بجلب المنفعة ودفع المفسدة حيث يحدد مدار هذا المقصد على هذه الكليات الخمس ويأتي الشرع ليحدد كذلك نوع وحجم الضرر الذي يتعدى على هذه الكليات الخمس مما يجعله في دائرة المحرمات أو المنهيات وهو يقسم ما يتعلق بهذه الكليات الخمس إلى المراتب الثلاث بناء على ضرورة هذا المتعلق بهذه الكليات ومن ثم يتحدد بناء على ذلك حكمه.
(3) الأحكام الشرعية تدور مع علتها وجودا وعدما: إذا نص الشارع الحكيم - جل وعلا - على تحديد العلة من صدور الحكم الشرعي منه كانت القاعدة أن هذه العلة للحكم هي الفيصل في إنفاذ الحكم من عدمه وهي كذلك الحكم في قياس غيرها من الأفعال عليها وبالتالي حصولها على ذات الحكم لأنها توافق الأول في العلة ومثال ذلك الخمر فالعلة الأساس فيه الإسكار بنص الحديث \" ما أسكر كثيره فقليله حرام \" وهي علة إذهاب العقل وبالتالي فكل ما وافق الخمر في تحقيق الإسكار وإذهاب العقل فهو موافق لها في الحكم لأن المقصد العام من مقاصد الشريعة يسعى للحفاظ على كلية العقل كواحدة من ضمن الكليات الخمس المقصود الحفاظ عليها والإسكار وسيلة لإذهابه فتعين موافقة كل ما يحقق الإسكار للخمر في الحكم الشرعي.
(4) المصالح ما غلبت منافعها مضارها والمفاسد ما غلبت مضارها منافعها: وهذا لبيان أنه لا منفعة خالصة وكذا لا مضرة خالصة بل كل ما خلقه الله - تعالى -في الدنيا هو خليط من الخير والشر يغلب هذا ذاك وذاك هذا وقد نظر الشرع إلى هذه الحقيقة فقرر أن المصالح هي ما غلبت منفعتها مضرتها لا ما كانت مصلحتها خالصة والمفسدة هي ما غلبت مضرتها منفعتها لا ما كانت خالصة المضرة.
(5) مصالح الدارين ومفاسدها وأسبابها لا تعرف إلا بالشرع: إن تحديد المفسدة والمصلحة لأمور الدنيا والآخرة منوط بالشرع فهو المصدر الوحيد لتقييمها ولا عبرة بما يراه البشر بعقولهم وأفهامهم القاصرة وفي هذا حفاظ على الشريعة من تلاعب المتلاعبين واستهانة المستهينين.
(6) درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة: إذا تحقق بيان المصلحة والمفسدة في أمر واحد فقد قرر الشرع في هذا المقام أن دفع المفسدة وإزالتها مقدم على جلب المصلحة لأن الحفاظ على الكليات الخمس التي أمر الشرع بالحفاظ عليها: الدين والنفس والمال والعقل والعرض من الإفساد والضرر أولى من القيام بما يعود بالنفع على هذه الكليات الخمس هذا بالطبع إذا تعارض كل من جلب المصلحة مع دفع المفسدة وكان لا بد من القيام بأحدهما وتعذر الآخر.
(7) إذا اجتمع حرام وحلال غلب الحرام: إذا اجتمع في الأمر الواحد كحكم شرعي جانب الحل وجانب الحرمة فقد أمر الشرع بالحفاظ على دين المسلم بتغليب جانب الحرمة على جانب الحل صيانة لدين العبد وحفظا له من الوقوع في دائرة المخالفة للأوامر الشرعية.
(8) المستحب في قول العلماء الخروج من الخلاف المعتبر: إذا تحقق لدينا وجود خلاف معتبر في مسألة من المسائل الشرعية بتوفر رأيين أو أكثر في المسألة الواحدة ولكل منهما استدلال معتبر ووجيه فالقاعدة تؤكد أن كمال الحفاظ على دين المرء يقتضي الخروج من هذا الخلاف المعتبر بالتورع عن أوجه الخلاف الأضعف دليلا وإن كانت معتبرة.
ملاحظات عامة حول الدخان والتدخين:
(1) التدخين عادة مكتسبة يكتسبها الفرد بالتشبه والتقليد ثم يصاب بنوع من الإدمان بدرجة بسيطة لا كإدمان المسكرات وهو إدمان ناتج من فعل النيكوتين الذي يطلق الأدرينالين الذي يحرر مولد السكر فيشعر المدخن نتيجة لذلك بتصاعد في النشاط مؤقت ثم يزول ليعقبه شعور بالإرهاق أو الفتور يتطلب تدخين المزيد وهكذا....وعلى هذا فالدخان يعتبر من المواد التي تعدل الشعور بالنشاط لدى المدخن وإذا كان الأمر كذلك فيمكن اعتبار الدخان من المفترات التي ورد النهي النبوي عنها كما في الحديث عن أم سلمة أن رسول الله صلي الله عليه وسلم \" نهي عن كل مسكر ومفتر\".
(2) لا يعتبر الدخان من ضمن سلسلة الأطعمة أو الأشربة أو الفواكه أو الأدوية وبالتالي فلا يوضع إلا في بند الأمور التي يمكن الاستغناء عنها.
(3) المتناولات التي خلقها الله - تعالى -في هذا العالم قسمان إما حرام لصفته أو مباح لصفته والصفة أمر قائم بالغير فينتج عن تناوله مفاسد وأضرار محققة أو محتملة بمعنى أن المتناول في هذه الدنيا ينبني حكمه على الصفات المتعلقة به، وعليه فحكم التدخين تابع لحكم السموم والمضار الموجودة فيه يقول الإمام القرافي - رحمه الله -: \"اعلم أن الله - تعالى -خلق المتناولات للبشر في هذا العالم على قسمين قسم يحرم لصفته وهو ما اشتمل على مفسدة تناسب التحريم فيحرم أو الكراهة فيكره فالأول: كالسموم تحرم لعظيم مفسدتها والثاني: سباع الطير أو الضبع من الوحوش على الخلاف في ذلك،... وقسم يباح لصفته إما لاشتماله على المصلحة كالبر واللحم الطيب من الأنعام وإما لعدم مفسدته ومصلحته وهو قليل في العالم فلا يكاد يوجد شيء إلا وفيه مصلحة ومفسدة ويمكن تنظيره بأكل شعرة من قطن ونحو ذلك مما لا يظهر له أثر في جسد ابن آدم فالموجودات في هذا العالم إما حرام لصفته أو مباح لصفته\".
(4) \"النواهي تعتمد على المفاسد فما حرم الله - تعالى -شيئا إلا لمفسدة تحصل من تناوله\" فمعيار المفسدة هو أساس الحكم الشرعي هذا بالطبع إذا كانت المفسدة ظاهرة منضبطة ولكن إذا كانت المفسدة خفية أو غير منضبطة أقيمت مظنتها مقامها، والمظنة هي العلة بشروطها ومثال ذلك أن المشقة في السفر هي أساس الحكم الشرعي الذي هو القصر والإفطار ولكن لما كانت المشقة غير منضبطة لاختلاف الأشخاص والأحوال أقيمت مظنتها مقامها وهي المسافة التي هي العلة، وكذا التدخين إذا قيل أن ضرره غير منضبط بأن يدعي البعض أنه لا يتضرر منه كما يتضرر باقي الناس أقيمت مظنته مقامه وهي السمية الموجودة في الدخان لأنها صفة ظاهرة منضبطة مناسبة لتشريع الحكم وإصداره وإذا كان الأمر كذلك فلا عبرة هنا لاختلاف الأبدان في مدى تحملها للمقادير المختلفة منه ومدى استعدادها لحدوث درجات الضرر المختلفة فلا تأثير لهذا الأمر في إصدار الحكم كما الشأن في الخمر فعلة التحريم فيه السكر لعدم انضباط ضرره وأثره من شخص لآخر وكذا في الدخان فضرره يتدرج ويختلف من شخص لآخر من ضرر خفيف إلى متوسط إلى شديد قطعي ولكن من المؤكد أن المدخن كلما أسرف في التدخين كلما ازدادت نسبة الضرر وأنه سيصاب حتما ما لم يمتنع عن التدخين بأحد الأمراض الناتجة عنه وفي هذا الكفاية لتحقق الضرر.
(5) لا بد من التفرقة بين ما هو ضار إلى حد الإماتة فيعتبر تناوله من باب الانتحار ويأخذ حكمه وبين ما هو ضار إلى ما دون ذلك فيعتبر تناوله من باب المحرم، وكلما ازدادت نسبة الضرر فيه ارتفعت قوة التحريم ودرجته واقترب الشخص من دائرة المنتحر مما ينذر بسوء الخاتمة كما يلوح في الحديث فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: \" من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيها خالدا مخلدا أبدا ومن تحسى سما فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا\" وينبغي التنبيه إلى أن ما ذكره الحديث من وسائل الانتحار إنما هو من باب التمثيل فقط لا من قبيل الحصر لأن للانتحار وسائل متعددة وتتغير بتطور الزمان.
(6) حفظ الكليات الخمس \"الدين والعقل والمال والنفس والعرض\" هو ما تدور عليه أحكام الشريعة الإسلامية أمرا ونهيا فأي تصرف يضر بواحدة من هذه الكليات الخمس يأخذ حكم التحريم فكيف إذا كان الضرر يتناول أكثر من واحد فإن التدخين باليقين العلمي ثبت ضرره القطعي على كل من المال والنفس.
بهذه القواعد الكلية يمكننا الشروع في بيان الحكم الشرعي المتعلق بالدخان على اختلاف استعمالاته مع الرد على بعض الشبه المتعلقة بالحكم ومنها قول بعض العلماء من السابقين بإصدار الحكم على التدخين بالكراهية أو الإباحة ولعل المتأمل في مجموع فتاويهم فيما يتعلق بحكم الدخان واستعمالاته المختلفة وأشكاله المتداولة سيلحظ أنهم أكدوا على أنهم لم يتضح لهم حتى وقت إصدار فتاواهم ما يؤكد حقيقة الضرر الواقع من جراء التدخين وملحقاته فأكدوا أن الحكم متعلق بالكراهة لمتعلق الرائحة الكريهة الصادرة عن مستعمله أو الإباحة رجوعا إلى قاعدة أن الأصل في الأشياء الإباحة وبناء على ذلك أن الجميع أجمعوا في الفتاوى المتعلقة بالتدخين في المساجد أو ملحقاتها عدم جواز ذلك لأنه مما لا يليق بأماكن العبادة ولمشابهة الدخان للثوم والبصل في جامع الرائحة الكريهة وهي مما تتأذى منه الملائكة.
مما سبق يتأكد لنا أنه لا يصح الاستدلال بأقوال السابقين مجردة عن القيود التي وضعوها ومنها أنهم أكدوا أنهم لم يتبين لهم ضرر حقيقي مبني على التدخين وبالتالي لا يرون وجها للحكم بالحرمة عليهم وبما أن القاعدة تنص على أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره ولما كان تصور العلماء السابقين للتدخين وأضراره ناقصا غير كامل جاءت أحكامهم مضطربة بين التحريم للبعض والكراهة للبعض الآخر والإباحة لفريق ثالث حملا على الأصل.
هذا وقد سرد الدكتور محمد البار في كتابه أسماء عدد من فقهاء المذاهب المختلفة ممن حرموا التدخين فذكر من علماء الأحناف خمسة عشر فقيها منهم العمادي المتوفى سنة 1051هـ والحصكفي 1088هـ والشربنلالي 1069هـ ومن علماء الشافعية سبعة عشر فقيها منهم النجم الغزي 1061هـ وأحمد القليوبي 1069هـ وسليمان البجيرمي 1221هـ ومن علماء المالكية ذكر ثلاثة عشر فقيها منهم إبراهيم اللقاني 1041هـ من هؤلاء الفقهاء من أفرده برسالة خاصة ومنهم من أورد الحكم عليه ضمن مؤلف عام في الفقه ومعظم هؤلاء الفقهاء في القرن الحادي عشر الهجري أول ما ظهر الدخان أما فقهاء الحنابلة فالواضح أنهم ذهبوا إلى تحريمه قولا واحدا.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد