بسم الله الرحمن الرحيم
الـوَقـف في اللغة: الحبس، والوقف: مصدر للفعل وقَف، يقال: وقَف، يقِف، وقفًا: حبس، يحبِس، حبسًا. ومن هذا قولهم: وقف الرجل بستانًا: حبسه وجعله موقوفًا لأهداف خيريّة. أما قولهم: أوقف الرجل بستانًا، فهي لغة رديئة غير فصيحة.
وكما أن الوقف مصدر، فإن الوقف أيضًا: الشيء الموقوف، وهذا من باب إطلاق المصدر وإرادة اسم المفعول ومن هذا قولهم: هذا الكتاب وقف: بمعنى موقوف، ويُجمع الوقف على وقوف وأوقاف، ومن هذا قولهم: وزارة الأوقاف.
أما الوقف في الاصطلاح فله عدّة تعريفات اصطلاحية متقاربة، منها أنه: حبس العين ـ كمسجد وبستان ومدرسة ـ عن التمليك للناس، وتسبيل منافعها. أي منع العين من أن يتملّكها أحد من الناسº لأنها انتقلت إلى ملك الله - تعالى -، لكن للناس أو لبعضهم أن يستفيدوا بمنافعها وثمراتها، تبعًا لرغبة الإنسان الواقف، أي الذي وهبها لله.
ومن الألفاظ المستعملة التي يراد بها الوقف والأوقاف: الأحباس والحُبُس ـ جمع حبس ـ، والسبيل ـ وجمعه سُبُل، والصدقة الجارية، والتأبيد ـ لكون الوقف مؤبّد المدة.
وهكذا يكون معنى الوقف: انتقال ملكية الشيء الموقوف إلى الله - تعالى -، مع بقاء منافعه بحسب الرغبة الخيرية للواقف.
مشروعية الوقف في الإسلام
أجمع غالب العلماء على أن الوقف مشروعº فقد ندب إليه الإسلام ورغّب فيه، وجعله من أفضل القربات المستمرة الدائمة التي يُتقرّب بها إلى الله - تعالى -، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)، ومن المتفق عليه بين جمهور علماء الإسلام، أن الصدقة الجارية هي: الوقف.
وفي حديث آخر: (من احتبس ـ أي وقف ـ فرسًا في سبيل الله إيمانًا واحتسابًا، فإنّ شِبَعَه ورِيَّه وروثه وبولَه في ميزانه يوم القيامة حسنات).
ولمّا هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، لم يكن بها ماء يُستعذب غير بئر رومة، وكانت لرجل من بني غفار، وكان يغالي في بيع الماء منها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من يشتري بئر رومة بخير له منها في الجنة؟) فاشتراها عثمان بن عفان بخمسة وثلاثين ألف درهم، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: (اجعلها سقاية ـ أي سبيلاً ووقفًا ـ للمسلمين وأجرُها لك، ففعل).
وحينما استشار عمر بن الخطاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - في قطعة أرض ملكها بخيبر يقال لها ثمغ لم يملك قط أنفَس منها، قال له: احبس أصلها، وسبّل ثمرتها، فوقفها عمر على ألا تُباع ولا توهب ولا تورث، وأن ينتفع بها الفقراء وذوو القربى والرقاب ـ أي العبيد ـ والضيف وابن السبيل، لا جناح على من وليها ـ أي ناظر الوقف ـ أن يأكل منها، أو يطعم صديقًا له بالمعروف.
والحوادث الدالة على مشروعية الوقف كثيرة، فقد وقف الرسول - صلى الله عليه وسلم - ووقف الصحابة. ووقف الرسول - صلى الله عليه وسلم - سبعة حوائط ـ أي بساتين ـ كان قد فوّضه بها أحد المحاربين الذين قتلوا، فجعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - على الفقراء والمساكين والغزاة المجاهدين وذوي الحاجات.
ووقف المسلمون مسجد قُباء أول مسجد بني في الإسلام في بداية الهجرة، ثم وقفوا المسجد النبوي، وكان أرض بستان لبني النجار، فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدفع لهم ثمنه فقالوا: والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله - تعالى -، فسُرّ لذلك، ثم شرع في بنائه مسجدًا.
ووقف أبو بكر وعلي ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وسعد بن أبي وقاص وعمرو بن العاص وجابر بن عبد الله وعائشة بنت أبي بكر وصفية بنت حيي. ووقف خالد بن الوليد دروعه وفرسانه وعتاده في سبيل الله - تعالى -.
ووقف أبو طلحة الأنصاري أرضًا نفيسة يقال لها: بيرحاء وفيها ماء عذب طيب، فجعل كل ذلك في فقراء قرابته، استجابة لتوجيه النبي - صلى الله عليه وسلم -، الذي قال له: (أرى أن تجعلها في الأقربين) وحَفَر سعد بن عبادة بئرًا وسبلها لأمه. ووقف الزبير بن العوام دارًا له على المردودة ـ أي المطلّقة ـ من بناته، وعلى الفاقدة التي مات زوجها. ووقفت صفية بنت حيي زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - على أخ لها يهودي. قال جابر بن عبد الله الأنصاري: ما أعلم أحدًا ـ من الصحابة ـ ذا مقدرة، إلا حبس مالاً من ماله، صدقة موقوفة، لا تشترى ولا تورث ولا توهب.
وهكذا، فالوقف مشروع في الإسلام، وأوقاف الصحابة معروفة ومنقولة، وكانوا لا يبتغون من ذلك إلا مرضاة الله - تعالى -والتقرب إليه وطاعته بالعمل الصالح.
أهداف الوقف في الإسلام:
إن الهدف الأسمى في الوقف هو التقرب إلى الله - تعالى -بالطاعة، وتحقيق رضوانه، ونيل ثوابه المتجدد، طيلة استدامة أعمال البر والمعروف والإحسان إلى خلقه، ويظهر هذا جليا في الحديث السابق ذكره: (من احتبس فرسًا في سبيل الله إيمانًا بالله وتصديقًا بوعده كان شبعه، وريه، وروثه، وبوله حسنات في ميزانه يوم القيامة). وقل نحو هذا في بقية الأحاديث السابقة.
غير أنه يضاف إلى هذا الهدف أهداف أخرى مهمة أيضًا، قصدها الإسلام لكونه دينًا للحياة السعيدة، جاء لتحقيق مصالح الإنسانية وهدايتها للتي هي أقوم، ومن تلك الأهداف ما يلي:
1- تنظيم الحياة بمنهج حميد متوازن، يقوّي الضعيف، ويعين العاجز، ويحفظ حياة المعدم ويرفع من مستوى الفقير، في الوقت الذي تُحترم فيه إرادة الواقف، وتُحقّق رغباته الإيجابية المشروعة، من غير إضرار به أو ظلم يقع عليه.
2- تحقيق منافع معيشية واجتماعية وثقافية مستمرة ومتجددة في أزمنة متطاولة، وذلك من خلال وقف الخانات ـ الفنادق ـ والسقايات والمستشفيات ودور العجزة، والمساجد والمصاحف والكتب والمدارس، ونحوها مما سيأتي بيانه.
3- إطالة مدة الانتفاع بالمال إلى أجيال متتابعة، حيث تستفيد الأجيال اللاحقة بما لا يضر الأجيال السابقة.
4- تأمين الواقف مستقبل أقربائه وذريته وغيرهم من الأجيال اللاحقة، وذلك بإيجاد مورد ثابت لهم، يدفع عنهم الحاجة والعَوَزº لأنه قد لا يتهيأ للأجيال اللاحقة جمع ثروات تحميهم من عوادي الدهر.
5- استمرار حصول القربة والثواب للواقف في حياته وبعد مماته.
وهكذا، فإن مجموعة الأهداف المتقدمة تدل على سمو البواعث الوقفية في الإسلام، ونبل مقاصدها الإنسانية، ولعل مجموع هذه الأهداف أو بعضها هي التي جعلت الإمام الشافعي يقول: (إن أهل الجاهلية فيما علمت لم يحبسوا (أي يقفوا) تبررًا (أي طاعة) وإنما حبس المسلمون).
أنواع الوقف:
ينقسم الوقف إلى نوعين اثنين، أولهما: الوقف الأهلي والذٌّري، حيث يخص الواقف بمنافع وقفه أناسًا من أقربائه وأولاده وذريتهم من بعدهم. وثانيهما: الوقف الخيري الذي يبادر فيه إلى تقديم الخدمة الاجتماعية المجانية لأصناف وفئات عامة متنوعة في المجتمع الإنساني كالفقراء والمرضى والعميان والأيتام واللّقطاء وطلاب العلم والمعرفة ونحوهم ممن سيأتي بيانهم.
وهذا التقسيم لأنواع الوقف تقسيم فقهي حديث، لا يخرج على حقيقة الوقف الشامل الذي عرفه الأقدمون ومارسوه بنوعيهº تحقيقًا لمعاني الخير والبرّ والإحسان، التي يمكن أن يخص الأقرباء بها، كما في إرشاد النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي طلحة في القصة المتقدمة إذ أمره أن يجعلها في الأقربين كما يمكن أن تشمل عامة الناس، مسلمين وغير مسلمين، كما في إرشاد النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر في القصة المتقدمة أيضًا: (احبس أصلها ـ أي أرض الوقف ـ وسبّل ثمرتها).
هذا، ومن الأمور المقررة في الإسلام أن صلة الأقرباء وبخاصة المحتاجين أولى وأفضل من صلة غيرهم، وهذا سر تقديم الله - تعالى -لهم في الترتيب على من سواهم في قوله: ?وآتى المال على حبّه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب? البقرة: 177. وفي الحديث الشريف: (الصدقة على المسكين صدقة، وهي على ذي الرحم ـ أي القريب المسكين ـ اثنتان: صدقة وصلة) رواه أحمد والترمذي وغيرهما بإسناد صحيح.
بعض أحكام الوقف:
عمل الإسلام على إرساء قواعد إيجابية بناءة للوقف، وفتح ميادين الخير به، وإفادة جوانب متعددة في الحياة الإنسانية، لتحقيق مزيد من السعادة والرقي للبشرية، وأحاط كل ذلك بتنظيم دقيق وأحكام منضبطة مفصلةº لتحمي هذا النشاط الخيري الإنساني من عوامل الأنانية والانحراف والزيغ عن أهدافه ومقاصده النبيلة.
ومما شرعه الإسلام في هذا، أنه اشترط في الواقف شروطًا معينة، منها: العقل والبلوغ، والتملك للمال المراد وقفه، وأن يكون الواقف حر الإرادة ـ أي غير مكره على الوقف ـ وأن لا يكون سفيهًا ـ أي لا يحسن التصرف في أمواله لطيش وسوء تدبير ـ ونحو هذا مما يعرف بشروط أَهلية التبَّرع.
كما اشترط أن يكون الوقف منجَزًا حالاً غير مؤجّل، معلومًا غير مجهول، وأن لا يكون مرهونًا بحق للغير.
وجعل الوقف لازمًا، لا خيار للواقف في الرجوع عنه، بعد صدوره منه عن رغبة واختيارº لأنه انتقل ـ وقتئذ ـ إلى الله - تعالى -، ولم يعد ملكًا للواقف، ولا ملكًا للموقوف عليه، ولهذا لا يصح بيع الوقف ولاهبته ولا توريثهº للحديث الذي في قصة عمر المتقدمة: (لا يُباع ولا يوهب ولا يورث).
ودعا الإسلام إلى احترام إرادة الواقف وتنفيذ رغباته ومراعاة شروطه المشروعة، ما بقي سبيل ممكن إلى تحقيق ذلك.
ومَنَع الوقف على المحرمات والمعاصي وما لا يتقرب به إلى الله - تعالى -، ومثلُه ما يضر بمصالح البشر، ويُفسد العلاقات الإنسانية. كما حرم الوقف بنية الإضرار بالورثة أو حرمانهم من الميراث، ومنع حصر الوقف في الأغنياء وتخصيصهم به دون غيرهم من الفقراءº لما في هذا من مخالفة مبدأ التقرب إلى الله - تعالى -بإشاعة الخير على ضعفاء الناس ومحتاجيهم: {كي لا يكونَ دُولةً بين الأغنياء منكم} الحشر: 7.
وأمر الإسلام بأن يكون متولي الوقف ـ أي ناظره ومديره ـ متصفًا ولو بالحد الأدنى من الكمال الإنساني، فاشترط له صفة العدالة ـ أي الأمانة والنزاهة وحسن السيرة ـ والكفاءة. وشرع محاسبته والتحقق من أساليب إدارته للمال الموقوف. ورغّب في إعطائه أجرًا عادلاً على وظيفتهº استدامة لأسباب البر والخير، وإعانة له على ما هو في سبيله.
ورغبة من الإسلام في توفير وتوسيع مجالات الخدمة الاجتماعية المجانية والتكافل بين أفراد الأمة، فقد أجاز وقف الأموال المنقولة كالمصاحف والكتب والأثاث وأدوات الطبخ ونحوهاº ليستفيد منها المحتاج إليها، وكذلك وقف الأبقار والأغنامº ليشرب من لبنها الفقراء والمسافرون وأبناء السبيل وغيرهم. كما أجاز وقف الأموال الثابتة غير المنقولة كالمساجد والمدارس والمستشفيات والقناطر والجسور.
شرع الإسلام الوقف على أشخاص مبهمين غير معيّنين، لكنّهم محصورون بأوصافهم كالفقراء والعميان والمرضى وطلاب العلم، كما شرع الوقف على أشخاص معروفين ومعينين بأسمائهم.
ومن سماحة الإسلام وإنسانيته أنه أجاز الوقف على غير المسلمين من أهل الذمة، من أصحاب الديانات الأخرى المحتاجين إلى ذلكº إشاعة للخير، وإسعادًا للجنس البشري الذي كرمه الله - تعالى -، وتوفيرًا لمتطلباته الفطرية في حياة كريمة، وتقدم أن صفية زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - وقفت على أخ لها يهودي.
كما سمح الإسلام بوقف المُشاع غير المقسوم، ولو أنه لا يقسم مستقبلاً، بشرط أن لا يضار الشريك، كوقف دار لتُسكن، أو بقرة ليشرب لبنها، أو فرس ليجاهد عليها.
وشرع للمحسنين أن يكون وقفهم مؤبدًا لا مؤقتًاº ليبلغ خيرهم مداه الأقصى الممكن، في البعد الزمني على مر الأجيال اللاحقة، وتدوم لهم آثاره الطيبة وحسن ثوابه المتجدد.
وأجاز الإسلام تأجير الوقف ـ بحسب رغبة الواقف ـ للاستفادة من ريعه في مجالات البر والخير التي يحددها الواقف، أو تمليها الحاجة المشروعة. كما أجاز أيضًا بيع الوقف المتعطل للحاجة، إذا لم يعد الانتفاع به ممكنًا، ثم شراء ما يقوم مقامه ـ بحسب الإمكان ـ بالثمن الذي بيع به. وأجاز وقف المريض في مرض الموت ـ وهو المرض الذي يُتوفى فيه ـ غير أن هذا الوقف يعتبر كالوصية، ويصح منه المقدار الذي لا يتجاوز ثلث ثروة الميت، إلا إذا رضي الورثة بأكثر من ذلك.
الوقف عند الأمم القديمة:
كانت بعض الأمم القديمة تمارس أنواعًا من التصرفات المالية، تلتقي في بعض أهدافها ومدلولاتها بما تقدم عن الوقف الإسلامي، وتخالفه في مجالات أخرى مهمة، عقائدية وإنسانية وحضارية، كما سيتضح فيما بعد.
ملوك البابليين كانوا يهبون بعض موظفيهم حق الانتفاع ببعض أراضيهم، دون أن يملكوها أو يتصرفوا فيها، ببيع أو هبة أو نحوهما. وكان القانون يسمح بانتقال حق الانتفاع بهذه الأراضي إلى ورثة الموظفين ـ بعد موتهم ـ بحسب الشروط الموضوعة في الاستحقاق الترتيبي.
في زمن الفراعنة. دلت الآثار المكتشفة حديثًا في مصر، على رصد بعض الناس العقارات الشاسعة على المعابد والمقابر والتماثيلº ليصرف ريعها في إصلاحها وترميمها واستدامتها، وتيسير إقامة الشعائر فيها، وكذلك الإنفاق على كهنتها وخدامها. وكان الدافع إلى ذلك التصرف، التقرب إلى الآلهة بحسب زعمهم.
وعمل بعض الناس في زمن الفراعنة أيضًا بما سمي حديثًا بالوقف الذري، فكانوا يخصون أولادهم وذرياتهم بريع ومنافع الأعيان المحبوسة، من غير أن يحق لهم تملّك هذه الأعيان أو تمليكها للآخرين.
وربما اشترطوا في تلك الأحباس شروطًا معينة، كإشراف الابن الأكبر من كل طبقة على إدارتها، مع التأكيد على منع التصرف بالعين ذاتها.
في زمن الرومان. طور الناس نظام الأحباس بعد ظهور النصرانية، فجعلوها في مؤسسات تابعة للكنيسة، تقوم على رعاية الفقراء والعجزة. لكنهم كانوا لا يعتدون بإضفاء المتبرّع صفة القداسة على الأرض التي احتبسها، إذا لم يقم الكاهن بإجراءاته الشكلية المعينة، وطقوسه الدينية الخاصة في هذا المجال.
وكانوا يعتقدون أن هناك أشياء مقدسة هي خالصة لله: كالمعابد والنذور والهدايا، حيث لا يجوز بيعها ولا رهنها ولا تملّكها. كما كانوا يرون أيضًا أن المكان المقدس، إذا انهدم بناؤه، فإن أرضه تبقى مقدسة.
وإضافة إلى هذا، فقد كان بعض الرومان يرصدون الأحباس على أقربائهم وذرياتهم لينتفعوا بها من بعدهم، ولما توسعوا في هذا المجال الأهلي، ترتب عليه شلل في بعض النشاطات الاقتصادية والاجتماعية، فأصدر جستنيان الذي حكم في القرن السادس للميلاد ـ أمرًا بإلغاء الأحباس الأهلية إذا تجاوزت أربع طبقات، ووجوب تمليكها لهذه الطبقة الأخيرة.
الجرمان. كانوا يسمحون للمتبرع برصد كل ماله أو بعضه لأسرة معينة، مدة محدودة أو إلى حين انقراضها. وقد يكون الاستحقاق فيه لجميع أفراد الأسرة أو لبعضهم، وقد يكون للذكور أولاً، ثم للإناث من بعدهم ولم يكن من الممكن عند الجرمان بيع الأحباس أو هبتها أو توريثها، وليس لمستحقها سوى الانتفاع بريعها وثمراتها.
الأوقاف عند الأمم الحديثة. انتشرت الإرصادات الخيرية في فرنسا في عصر النهضة الحديثة، وأخذت طابعًا ذا مدلول حضاري نوعًا ما، حيث وجّهت إلى ملاجئ العجزة والمدارس ودور العبادة والمستشفيات، ولعل ذلك كان نتيجة اتصال الفرنسيين بالحضارة الإسلامية في الأندلس، وفي سواحل بلاد الشام ومصر وقت الحروب الصليبية.
وفي عهد لويس الثالث عشر في القرن السابع عشر الميلادي، وصلت الإرصادات والأحباس إلى ما يقرب من ثلث مساحة فرنسا. وحين قامت الثورة الفرنسية سنة 1789م، ألغت تلك الإرصادات، وضمتها إلى أموال الدولة، ثم اضطرت بعدئذ إلى وضع نظام خاص بالإرصادات الخيرية، يوفق ـ قدر الإمكان ـ بين فكرة الرعاية الخيرية الاجتماعية، وبين المصلحة العامة.
وفي القانون الفرنسي اليوم نوع من التصرفات المالية التي أطلق عليها اسم الهبة المتنقلة تشبه إلى حد كبير ما يعرف بالوقف الذٌّري عند المسلمين، حيث أباح القانون للأب أن يهب أو يوصي بعقار إلى ولده لينتفع به، ثم إذا مات ينتفع به أولاده أو إخوانه من بعده، وهكذا من بعدهم.
كما يوجد في القانون الفرنسي اليوم نص صريح في الإرصادات الخيرية العامة، وذلك إما بإنشاء المتبرع نفسه مؤسسة خيرية كمستشفى أو ملجأ للعجزة أو مدرسة، وإما بمشاركته في مؤسسة خيرية معترف بها قانونًا، كإنشائه سريرًا أو جناحًا في مستشفى، وكإعطائه مبلغًا من المال للجامعة، لإنشاء كرسي فيها للدراسة.
النظام الأنجلو أمريكي. وفيه نوع من التصرفات المالية يسمى صندوق الائتمان، وهو أن يضع شخص ما مالاً معينًا في حيازة شخص آخر يسمى المستفيد أو المستحق. ومن أهدافه المعلنة: توفير الحماية المعيشية لزوجة المتبرع أو ذرّيته، وهذا ما يسمى صندوق الائتمان الواقي، كما أن من أهدافه المعلنة أيضًا تحقيق الخدمة الاجتماعية من خلال القيام بنشاطات ذات نفع عام، وهذا ما يسمى صندوق الائتمان الخيري. ولنظام صندوق الائتمان مجموعة من الأحكام التفصيلية من مثل: إمكانية كون الوصي شخصية طبيعية، أو شخصية اعتبارية كمؤسسة خيرية. ولا يلزم في صندوق الائتمان تعيين المستفيد بذاته، بل بأوصافه أو طبقته، كاليتامى أو الأحفاد. وإذا انقطعت جهة صندوق الائتمان الخيري فالقاعدة في ذلك هي صرف المال في أقرب غرض خيري مجانس للغرض الأصلي، فإن تعذر هذا، فللمحكمة صرف المال في جهة خيرية أخرى تراها. وهناك أحكام وشروط أخرى يقصد بها تنظيم وتيسير وتطوير سبل الاستفادة من نظام صندوق الائتمان، الأمر الذي سبق إليه الإسلام، وعمل به القضاة المسلمون، وذكره الفقهاء في كتب الوقف.
الأوقاف الإسلامية وآثارها الإنسانية الحضارية
ليس أدل على رقي الأمة وجدارتها بالحياة من سموّ النزعة الإنسانية في أفرادها، سموًّا يفيض بالخير والبر والرحمة على جميع الكائنات الحية، وبهذا المقياس تخلد حضارات الأمم ويفاضل بينها. والمسلمون بلغوا في ذلك مكانة لم يصل إليها شعب من قبلهم على الإطلاق، ولم تلحق بهم أمة من بعدهم حتى الآن.
وتقدم ـ فيما سبق ـ أنه في العصور القديمة لم تكن الأمم تعرف ميادين للأحباس إلا في نطاق ضيق، لا تتجاوز في كثير من صورها المعابد وكهنتها وسدنتها، وأولاد المتبرع وذريته.
أما في العصور الحديثة، فإن الغرب وإن بلغ الذروة في استيفاء الحاجات المعيشية عن طريق المؤسسات الاجتماعية، لكنه لم يبلغ ذروة السمو الإنساني الخالص للخالق - عز وجل -، كما بلغته الأمة الإسلامية في عصور قوتها ومجدها، أو حتى عصور ضعفها وانحطاطهاº ذلك لأن الباعث الأكبر في اندفاع الغربيين نحو المبرات الإنسانية العامة، هو طلب الجاه والشهرة وانتشار الصيت وخلود الذكر بين الناس أو غير ذلك من دوافع لا تتعلق بالطاعة لله- تعالى -. بينما كان الدافع الأول والأسمى في أوقاف المسلمين تحقّق الطاعة لله - تعالى -كما في قول الشافعي الآنف، سواء علم الناس بذلك أو لم يعلموا. وحسبنا دليلاً على هذا أن صلاح الدين الأيوبي أنفق أمواله كلها على جهات البر الاجتماعية، وملأ بلاد الشام ومصر بالأوقاف الخيرية من مساجد ومدارس ومستشفيات ورباطات ـ مراكز إقامة المجاهدين وتزويدهم بالمؤن والأعتاد والخيل ـ وغيرها، دون أن يسجل على واحدة منها اسمه، وهذا غاية ما يكون من التجرد عن حظوظ النفس في أعمال البرّ والخير.
وأمر آخر هو أن الغربيين في مؤسساتهم الخيرية والاجتماعية، كثيرًا ما يحصرون الانتفاع بها في مواطنيهم من أبناء دولتهم أو من أبناء مدينتهم أو في أهداف تنصيرية بحتة أو دنيوية، في حين أن الأوقاف الخيرية عند المسلمين كانت تفتح أبوابها لكل إنسان، بصرف النظر عن جنسيته ولغته وبلده ومذهبه.
وهناك فرق ثالث مهم أيضًا هو أن المسلمين وجّهوا أوقافهم إلى وجوه من البر والتكافل الاجتماعي، بل والإنساني، مما لم يعرفه الغربيون، ولم يمارسوه حتى اليوم، وهذه الوجوه تبعث على التعجب والدهشة، وتدل على عمق النزعة الإنسانية عند المسلمين، بل وعلى شمولها وصفائها وتجرّدها، حتى وصل بهم الأمر إلى أن وقفوا الوقف على الخدم العاملين في قصور الأغنياء وبيوتهم الذين قد يكسرون بعض الأواني الغالية الثمن حتى لا يتعرضوا للإهانة والإيذاء.
لهذا أقبل المسلمون رجالاً ونساء على الوقف بحماسة وإخلاص من جيل الصحابة كما سبق بيانه، ثم الأجيال التي تليهم جيلاً بعد جيل، حتى امتلأت البلاد الإسلامية بالأوقاف الخيرية التي بلغت حدًا من الكثرة، استدعت أن تُخصَّص لها اليوم في كل دولة إسلامية وزارة تسمى وزارة الأوقاف.
وأول الأوقاف الخيرية التي اهتم بها المسلمون هي المساجدº فكانوا يشيدونها بسخاء، وحسبنا أن نذكر الجامع الأزهر بالقاهرة، والمسجد الأموي بدمشق والقرويين بالمغرب والزيتونة بتونس، ومسجد قرطبة بالأندلس، ولا تزال آثار تلك المساجد حتى اليوم آية خالدة في الفن والإبداع، ولقد قيل: إن عدد مساجد قرطبة في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) بلغ ستمائة مسجد، وكانت توقف معها الطنافس والمصاحف والإنارات.
ومن أهم الأوقاف الخيرية المدارس، وكانت من الكثرة بحيث بلغ عددها في مدينة صقلية وحدها أكثر من ثلاثمائة مدرسة، تضم عشرات الآلاف من الطلاب. وكان التعليم فيها مجانيًا لمختلف الطبقات، حيث يجلس فيها ابن الفقير بجانب ابن الغني. وكان هناك قسم داخلي مجاني للغرباء، يُهيأ للطالب فيه الطعام والنوم والمطالعة والعبادة والمرافق الصحية ووسائل النظافة الأخرى. ولم تكن هذه المدارس موجودة في صقلية وحدها، بل إن المحسنين من المسلمين كانوا يقفون المدارس ـ التي لا تزال آثارها باقية ـ في كافة البلاد الإسلامية، كتونس والقيروان والقاهرة والقدس ومكة والمدينة ودمشق وبغداد ونيسابور وبَلخ وغيرها من المدن في آسيا الوسطى وتركيا والهند وإيران.
وكان أساتذة هذه المدارس الوقفية من خيرة العلماء، الذين يتسابق الخيرون من التجار والأغنياء في الوقف عليهمº لكفايتهم أمور معيشتهم، ولضمان استمرار هذه المدارس في أداء رسالتها الإنسانية.
وكانت هذه المدارس متعددة الغايات، فمنها مدارس لتعليم أمور الدين كالقرآن الكريم والحديث الشريف والفقه، ومنها مدارس لدراسة علوم الآداب، وعلوم الصيدلة، وعلوم الطب، وعلوم الفلك، وسوى هذه العلوم مما يسمى اليوم بالعلوم الإنسانية الاجتماعية والعلوم التطبيقية التجريبية العملية. وكم كان لهذه المدارس الوقفية أثر واضح ومتقدم في نشر العلم، ورفع مستوى الثقافة والمعرفة، وتيسير سبلها لكافة طلابها، حتى الغربيين الذين توافدوا على مدن الأندلس وصقلية والمغرب العربي ومصر والشام، من أجل طلب المعرفة وتحصيل الثقافة مجانًا.
ومن الأوقاف الخيرية التي ابتكرتها الأجيال الإسلامية: المستشفيات، ففي عهد الوليد بن عبد الملك ـ في القرن الثاني الهجري (الثامن الميلادي) ـ أنشئ أول مستشفى خيري في الإسلام، وجُعل فيه الأطباء الماهرون، وأجريت عليهم التبرعات السخية، وقصدهم المرضى للمعالجة المجانية.
ثم تتابع إنشاء المستشفيات الوقفية الخيرية التي كانت تعرف باسم البيمارستانات ـ أي دور المرضى ـ وكانت هناك مستشفيات للجراحة، وللباطنية، وللعيون، وللعظام، وللأمراض العقلية وغير ذلك من التخصصات التي يُهتم بها اليوم. انظر: العلوم عند العرب والمسلمين (الطب). وكانت هذه المستشفيات إما متنقلة من قرية إلى قرية، حيث بلغ عددها في زمن السلطان محمود السلجوقي ـ في العراق وما جاورها من المشرق ـ أكثر من خمسة عشر مستشفى، وإما أن تكون المستشفيات ثابتة تمارس نشاطاتها في المدن، وتُخصِّص أقسامًا للرجال، وأقسامًا للنساء، كما في المستشفى العضدي ببغداد ـ في القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي) ـ الذي كان يعمل فيه أربعة وعشرون طبيبًا، وكالمستشفى النوري بدمشق، في القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي) وكالمستشفى المنصوري بالقاهرة، في القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي) ومستشفى مراكش في القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي) أيضًا، وغيره من المستشفيات الخيرية التي انتشرت في بلدان العالم الإسلامي بوقف الخلفاء والولاة والأثرياء والتجار.
وكانت تساق إلى هذه المستشفيات أوقاف خيريةº للإنفاق على المرضى ومعالجتهم وإسكانهم وإطعامهم وتنظيفهم وخدمتهم، بل كان يوقف للمرضى مراوح من خوصº لأجل استعمالهم إياها في وقت الحر، كما كان يوقف للمريض النَّاقة كسوة للباسه ودراهم لنفقاته، حتى لا يضطر إلى العمل الشاق فور خروجه، وكان في مدينة طرابلس بلبنان وقف غريب خصص ريعه لتوظيف اثنين يمرّان بالمستشفيات يوميًا، فيتحدثان بجانب المريض حديثًا خافتًاº ليسمعه المريض بما يوحي إليه بتحسّن حاله واحمرار وجهه وبريق عينيه، الأمر الذي يبعث الأمل في نفسه، ويساعد على شفائه.
ومن الأوقاف الخيرية التي أنشأها المسلمون طاعة لله - تعالى -، بناء الخانات والفنادق للمسافرين المحتاجين ومعها أثاثها وأدوات الطبخ فيها. ومنها التكايا والزوايا التي يقيم فيها من شاء لعبادة الله - عز وجل -. ومنها بيوت خاصة للفقراء، يسكنها من لا يجد ما يشتري به أو يستأجر دارًا. ومنها سقايات الماء المسبّلة للناس في الطرقات العامة. ومنها بيوت للحجاج بمكة يقيمون فيها مجانًا حين قدومهم للحج. ومنها حفر الآبار الخيرية وإنشاء القناطر والجسور والطرقات لعبور المسافرين واستراحتهم وسقايتهم، وكانت كثيرة جدًا بين عواصم المدن الإسلامية ومدنها وقراها، وبخاصة بين بغداد ومكة، وبين دمشق والمدينة، وبين مدن مصر ومدن بلاد المغرب، وكان يوقف معها البساتين والمزارع ليؤكل من ثمرها والأبقار والأغنام ليُشرب من لبنها.
ومن هذه الأوقاف الخيرية في تاريخ المسلمين المكتبات التي كان قد وقفها الخلفاء والأمراء والعلماء والأغنياء. وكانوا يشيدون لها أبنية خاصة عظيمة فسيحة، وكانت تضم عشرات الآلاف من الكتب في علوم الفقه والحديث والتفسير والآداب والتاريخ والصيدلة والطب والكيمياء وغيرها. وكان لهذه المكتبات موظفون ومترجمون ونسّاخ وخدم، يصرف عليهم من ريع الأوقاف التي تنشأ من أجل ذلك.
ومن تلك المكتبات بيت الحكمة التي أنشأها الخليفة هارون الرشيد ببغداد في القرن الثالث الهجري (القرن التاسع الميلادي) ومنها مكتبة الحَكَم بالأندلس، ومكتبة بني عمار في طرابلس، ومكتبة دار الحكمة بالقاهرة زمن الحاكم بأمر الله. ومن المكتبات الخاصة التي وقفها الأفراد مكتبة ابن الخشاب في القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي) ومكتبة القفطي في القرن الثامن الهجري (الرابع عشر الميلادي) ومكتبة أبي القاسم الموصلي، وكان هذا إذا جاءه طالب علم معسر ليطالع في مكتبته أعطاه وَرِقًا ووَرَقًا ـ أي نقودًا وأوراقًا ـ إعانة وتشجيعًا له على العلم والمعرفة.
ومما أنشأه المسلمون من الأوقاف الخيرية دور لتقديم الرعاية الاجتماعية المجانية للّقطاء ولليتامى، ولختانهم والعناية بهم. وكذلك خصّصوا دورًا للعجزة والعميان والمقعدين، حيث يبذلون لهم جميعًا ما يحتاجون إليه من سكن وغذاء ولباس ورعاية وتعليم أيضًا، بل وقفوا أموالاً لإمداد العميان والمقعدين بمن يقودهم ويخدمهم.
وكانت هناك أوقاف خيرية لتزويج الشباب العُزّاب الذين يعجزون عن تقديم المهور وتأمين نفقات الزواج. كما وقف المسلمون أموالاً لإمداد الأمهات بالحليب والسكّر، وكان مما وقفه صلاح الدين الأيوبي أنه جعل في أحد أبواب قلعة دمشق ميزابًا يسيل منه الحليب، وميزابًا آخر يسيل منه الماء المذاب فيه السكّر، تأتي إليه الأمهات يومين كل أسبوعº ليأخذن لأطفالهن ما يحتاجونه من حليب وماء محلى بالسكّر.
ومن أطرف ما بذلوه في الوقف الخيري وقف الزٌّبَادي ـ جمع زُبدية وهي آنية من خزف أو فخّار ـ للأولاد والرقيق الذين تُكسر زُبدياتهم في السوق وهم في طريقهم إلى البيوت، فيأتون إلى مكان الوقف بالقطع المكسورة، فيُعطَون أخرى جديدة، لئلا يعاقبهم أهلوهم على ما وقع منهم، ثم يرجعون إلى البيوت بما معهم، وكأنهم لم يفعلوا شيئًا.
كما كانت هناك أوقاف خيرية تنفق على أسر السجناء وأولادهم، حيث يقدم لهم الغذاء والكساء وما يحتاجونه من أمور أخرى. ومما كان له نصيب كبير في اهتمامات المسلمين الوقفية الحيوانات، فقد وقفوا الأموال لتطبيب المريض منها، ولرعي المسنة العاجزة. وكانت في دمشق أرض يقال لها المرج الأخضر، وقفت للخيول المسنة العاجزة التي يطردها أصحابها، لأنهم ما عادوا ينتفعون بها، فكان هناك موظفون خاصون يأخذونها، فترعى في أرض الوقف حتى تموت.
وكان في أوقاف العديد من المدن الإسلامية أماكن خاصة لرعاية مئات القطط العمياء والجريحة والمكسورة الأذرع، وكان يقدم لها في كل يوم الطعام والعلاج، ويعتنى بها حتى تغدو سمينة فارهة، وبقي هذا في بلاد الشام إلى وقت قريب جدًا.
هذا وبعد الذي تقدم، يتأكد سمو النزعة الإنسانية الحضارية وشمولها في تشريع الوقف عند المسلمين، حيث غطت جوانب الحياة المعيشية لبني الإنسان، بل وللحيوان أيضًا، تحقيقًا لقول الله - تعالى -: ?وما تقدّموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرًا وأعظم أجرًا? المزمل: 20.
التنظيم الإداري للوقف الإسلامي. كان الوقف يدار في بادىء الأمر من قبل الواقفين أنفسهم، أو ممّن ينصّبونهم للإشراف على الوقف وإدارته، مجانًا واحتسابًا أو بأجر وراتب، دون تدخّل من الدولة، إلا في الحالات التي يكون فيها الخلفاء والأمراء والولاة هم الواقفين. ولمّا اتسع الوقف في العهد الأموي، وتطوّرت الحياة في المجتمعات الإسلامية، استدعى الحال إنشاء تشكيلات إدارية وقيام أجهزة معينة للإشراف عليه، وقد تولّى جميع ذلك في حواضر العالم الإسلامي قضاة متخصصون، قاموا بالإشراف على الوقف بأنفسهم، ومحاسبة النظّار والقيِّمين عليه، والتحقيق معهم، واتخاذ الإجراءات التأديبية والعقابية بحق المقصّرين أو المسيئين منهم، أو المستغلين لمناصبهم.
ومن القضاة المشرفين على الوقف في العهد الأموي توبة بن نمر الحضرمي، الذي أنشأ أول ديوان للأوقاف بمصر، في زمن هشام بن عبد الملك في القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي) وأمر بتسجيل الأحباس في سجل خاص، لحفظ وحماية مصالح المستحقين لها، وهذا الأمر لا يعدو كونه إجراء تنظيميًا لرعاية المصالح وحفظ الحقوق. على أنه لابد من الإشارة هنا إلى مدى سماحة الإسلام وتشجيعه على فتح أبواب البر والخير والوقف، حيث لم يشترط للاعتراف بالوقف والاعتداد به، أن يقوم ¸رجل الدين· بمباركته وإجراء طقوس معينة عنده، كما كانت تشترطه الكنيسة الرومانية، بحسب ما سبق ذكره.
وفي عهد العباسيين كان لإدارة الوقف رئيس يسمى صَدر الوقوف. وقد اتصفت هذه الإدارة في أغلب أوقاتها بالدقة والتنظيم، ووضوح الأهداف والسهر على أموال الوقف بحزم ونزاهة، وتوجيهها لتستثمر في التأهيل المهني بإنشاء دور للصناعات والأعمال الحرفية الفنية.
وفي عهد المماليك ثم العثمانيين ازداد نطاق الوقف اتساعًاº لإقبال السلاطين والولاة على وقف المساجد والمدارس والمستشـفيات ونحـوها من الوقـوف الخـيرية للمنفعة العامة، وتتابعت القوانين الصارمة والمنظـمة لشؤون الأوقاف الخيرية والذٌّرية والمحددة لأساليب إدارتها والإفادة منها. ولا يزال الكثير من هذه الضوابط والقوانين معمولاً بها حتى يومنا هذا في كثير من وزارات الأوقاف في البلدان الإسلامية.
وقد لقي الوقف الذري والأهلي معارضة من بعض الجهات الحكومية المعاصرة التي حاولت إلغاءه والاستيلاء عليه، بحجة أنه يساعد على انتشار البطالة بين المستفيدين منه. وتصدى العلماء ووجوه المجتمع لهذه الحملات، إذ لو كان الراغبون في إلغائه صادقين في مقاصدهم، لوضعوا الحلول الناجحة لأسباب البطالة الأخرى التي لا علاقة للوقف الذرّي ولا للمستفيدين منه بها، حيث تغصّ الحدائق والشوارع والمقاهي ودور اللهو بهؤلاء العاطلين عن العمل لأسباب أخرى لا تتصل بالوقف الذري.
ومع هذا الذي تقدم، فقد بقي الوقف الذري في بعض الأقطار وألغي في بعضها. وشددت بعض الدول قبضتها على الوقف الأهلي والذري، وعدلت مصارفه حتى غدا كثير من هذه الإجراءات لا يحترم شروط الواقفين من أهل الخير ولا إرادتهم ولا رغباتهم، التي هي حق من حقوق الإنسان المشروعة والمصانة في الأديان والقوانين.
وتقوم وزارات الأوقاف من جهة أخرى باستثمار الأوقاف الخيرية وتنميتها وتأجيرها وصرف ريعها في إنشاء المساجد والمراكز الإسلامية وتحفيظ القرآن ونحوه من النشاطات الإنسانية الدعوية والمعيشية.وقد أنشأ كثير منها مؤسسات ومبرات مهنية لتعليم الفقراء والأرامل وأصناف من العجزة صنع السجاد والمفروشات المنزلية وتعليم أساليب تفصيل الملابس وخياطتها، ونحو هذه المهن ذات التأهيل الاجتماعي المفيد.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد