بسم الله الرحمن الرحيم
الحكم الوضعي للطلاق أثناء الحيض.
هذه المسألة من المسائل الشائكة، والقضايا المهمة، بل هي من عضل المسائل، لذا قال ابن القيم عنها: (هذه المسألة الضيقة المعترك، الوعرة المسلك التي يتجاذب أعنة أدلتها الفرسان، وتتضاءل لدى صولتها شجاعة الشجعان) (1) وقد اختلف العلماء - رحمهم الله - في هذه المسألة على قولين:
القول الأول/ وقوع الطلاق في زمن الحيض.
وبه قال جماهير أهل العلم من الحنفية(2) والمالكية(3) والشافعية(4) والحنابلة(5) فأما مذهب الحنفية فقد جاء في بدائع الصنائع (وأما حكم طلاق البدعة فهو أنه واقع) (6) وأما مذهب المالكية فقد جاء في الفواكه الدواني\"....فإن طلق في زمن حيضها عالماً به لزمه الطلاق وإن حرم عليه\". (7)
وأما مذهب الشافعية فقد صرح الماوردي بوقوعه حيث قال: (.. فمذهبنا أنه واقع وإن كان محرما). (8)
وأما مذهب الحنابلة فقد جاء في المغني (إن طلق للبدعة.. أثم، ووقع طلاقه في قول عامة أهل العلم). (9)
واستدلوا بأدلة كثيرة منها: -
[الدليل الأول]:
عموم أدلة الطلاق في القرآن، ومنها قوله - تعالى -: \" الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان\"[البقرة: 229] وقوله - تعالى -: \" فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره)[البقرة: 230]، وقوله: \" والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء\" [البقرة: 288] وغيرها من آيات الطلاق.
وجه الدلالة:
أن هذه الآيات جاءت عامة لكل زوج طلق زوجته من غير تقييد بوقت دون وقت، ولا مطلقة أخرى، فدل على الوقوع في عموم الأوقات والأحوال، ولم يجد من النصوص ما يقيد إطلاق هذه الآيات، فوجب القول بوقوع الطلاق في الحيض والطهر الذي باشر امرأته فيه. (10)
ونوقش:
لا نسلم لكم دخول الطلاق البدعي في عمومات أدلة الطلاق، فالقول بهذا كالقول بدخول أنواع البيع المحرم في قوله - تعالى -(وأحل الله البيع) [البقرة: 275] لشمول اسم البيع لها، وهذا ظاهر البطلان(11).
[الدليل الثاني]:
قوله - تعالى -: \" يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن\" [الطلاق: 1] أي مستقبلات للعدة، ووقت العدة هو الطهر الذي لم يمس امرأته فيه، فإذا طلقها في الحيض أو الطهر الذي مسها فيه يكون مخالفاً لأمر الله، فيكون مرتكبا للحرام، ثم قال بعد ذلك: \"ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه\"، وهذا دليل على أن من خالف طلاق العدة والحدود التي شرعها الله فقد ظلم نفسه، ولا يكون ظالما لنفسه إلا إذا وقع الطلاق، وإلا فأي معنى لكلام لا أثر له أن يكون محرماً وفيه ظلم لقائله(12).
ونوقش:
بأن هذا الاستدلال محل نظر، ولا يسلم لكم بهº فالله - تعالى -قال: \" يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن\"، وصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - المبين عن الله مراده من كلامه- أن الطلاق المشروع هو الطلاق في زمن الطهر الذي لم يجامع فيه، أو بعد استبانة الحمل، وما عداهما فليس بطلاق للعدة في حق المدخول بها، فلا يكون طلاقا، فكيف تحرم المرأة به(13).
وأما قوله - تعالى -: \" ومن يتعد حدود لله فقد ظلم نفسه\"[الطلاق: 1]، فصح أن من ظلم نفسه وتعدى حدود الله - تعالى -ففعله باطل مردود(14)، وإذا كان كذلك فلا يقع طلاق.
[الدليل الثالث]:
قوله تعالى\" الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهن إلا اللائي ولدنهم، وإنهم ليقولون منكراً من القول وزوراً وإن الله لعفو غفور\"[المجادلة: 2].
وجه الدلالة من الآية:
أن الله - تعالى -سمى الظهار منكراً من القول وزوراً، ثم رتب عليه حكمه من الكفارة والتحريم، وهذا يدل على أن \" الطلاق المحرم وهو في حال الحيض يترتب عليه حكمه إذا وقع\"(15).
ونوقش من وجهين:
الوجه الأول: بأنّ قياس الطلاق البدعي على الظهار قياسٌ معارض بمثله معارضة القلب بأن يقال: تحريمه يمنع ترتب أثره عليه كالنكاح(16).
الوجه الثاني: هذا قياس مع الفارق، فالظهار كله محرم، بخلاف الطلاق، فهناك نوع محرم (الطلاق البدعي)، ونوع جائز الطلاق السني(17).
[الدليل الرابع]:
ما جاء في حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - من الألفاظ الواضحة الدالة على الاعتداد بطلاقه لامرأته وهي حائض.
ومن تلك الألفاظ ما يلي:
(أ) عن نافع - رحمه الله - أنّ ابن عمر طلق امرأته وهي حائض، فسأل عمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال (مره فليراجعها.. ) (18). والرجعة لا تكون إلا بعد طلاق، فهذا دليل على وقوعها.
ونوقشت هذه الرواية من قبل المانعين.
فهذا ابن القيم - رحمه الله - يقول: (إنّ المراجعة قد وقعت في كلام الله، وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - على ثلاثة معان:
المعنى الأول: ابتداء النكاح، كما في قوله - تعالى -: \" فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله\"[البقرة: 230].
المعنى الثاني: الرد الحسي إلى الحالة التي كان عليها أولا، كقوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي النعمان بن بشير لمّا نحل ابنه غلاما خصه به دون ولده (أرجعه) أي رده.
المعنى الثالث: الرجعة التي تكون بعد الطلاق، ولا يخفى أنَّ الاحتمال يوجب سقوط الاستدلال) (19)
(ب) في رواية أخرى عن ابن أبي ذئب عن نافع بلفظ: (فأتى عمر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، فذكر ذلك له فجعلها واحدة) (20) وهذا اللفظ من أظهر ما يكون على وقوع الطلاق.
أما لفظة (وهي واحدة) في رواية ابن أبي ذئب.
فقد نوقشت بما يلي:
الوجه الأول: هل تجزمون بأن هذه اللفظة من في رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -؟! بل قد تكون من كلام من دونه، ولا حجة في كلام أحدٍ, غيره - عليه الصلاة والسلام -، إذ هو المعصوم دونما سواه، قال ابن القيم - رحمه الله -: \" وأما قوله في حديث ابن وهب عن ابن أبي ذئب في آخره\" وهي واحدة\"، فلعمر الله لو كانت هذه اللفظة من كلام رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ما قدمنا عليها شيئا، ولصرنا إليها بأول وهلة، ولكن لا ندري أقالها ابن وهب من عنده؟ أم ابن أبي ذئب، أم نافع؟ فلا يجوز أن يضاف إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ما لا يتيقن أنه من كلامه، ويشهد به عليه، وترتب عليه الأحكام، ويقال هذا من عند الله بالوهم والاحتمال). (21)
الوجه الثاني: على فرض التسليم بصحة رفع هذه اللفظة، فإن المعنى أنها واحدة أخطأ فيها ابن عمر. (22)
الوجه الثالث: أورد الشيخ أحمد شاكر - رحمه الله - في كتابه\" نظام الطلاق في الإسلام، اعتراضاً مفاده: أنّ الضمير في قوله (وهي واحدة) لا يعود على الطلقة التي في الحيض، بل يعود على الطلقة التي في الطهر الثاني من قبل العدةº لأنّها أقرب مذكور\"(23).
(ج) عن سالم أن عبد الله بن عمر أخبره أنه طلق امرأته وهي حائض، فذكر عمر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال (ليراجعها) (24) وزاد في روايته (قال ابن عمر: فراجعتها وحسبت لها التطليقة التي طلقتها) (25) وهذا ظاهر في وقوع الطلاق واحتسابه.
ونوقشت هذه الرواية من وجهين:
الوجه الأول: أنّ الذي يظنّ أنّها حسبت هو ابن عمر - رضي الله عنهما -، وقد يكون هذا رأيه في الطلاق البدعي، ولا حجة في قول أحد مع أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم -.
الوجه الثاني: أنّه ربّما يقصد الطلقة التي في الطهر الثاني في قُبُل العدة، لا التي في الحيض، ولما كان موجوداً فلا يستقيم الدليل على ما ذكرتم.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد