بسم الله الرحمن الرحيم
هذا العنوان خاطئ، فالحج هو الركن الخامس في الإسلام، وعاشوراء يوم عظيم في التقويم الإسلامي لسبب، وهو أنه يوم نجى الله - تعالى - فيه موسى - عليه السلام -، والمسلمون كما أخبرهم نبيهم - صلى الله عليه وسلم - أولى بنجاة موسى - عليه السلام - من اليهود.
الحج هو نقطة الذروة في العام الهجري، تجتمع فيه أسرار العبادات الإسلامية من عبادات بدنية ومالية ونفسية وفكرية، فالمسلم يطوف ويضحي ويدعو وينقطع عن الدنيا، فهو ذروة فقهية، وفيه يرجم الجمرات خذلاناً للشيطان، وينحر إذعاناً لأمر الله فهو ذروة العبودية، ويسعى بين الصفا والمروة التحاماً برسالة أبي الأنبياء، فهو ذروة أيديولوجية، وفيه يستوي الغني مع الفقير، والقوي مع الضعيف دون اعتبار للون أو لسان فهو ذروة حضارية.
وبعد أداء الفريضة يزور الحاج العاصمة الأولى لدولة الحضارة العربية الإسلامية للصلاة فيها والسلام على منقذ البشرية، وتسجيل الولاء للصف الأول من القادة الذين وضعوا أسس النظام السياسي الذي غيَّر خريطة العالم إلى غير رجعة، فهو ذروة سياسية.
بشقي رحلة الحج هاتين ترتسم شخصية المسلم بشكل كامل، بشقيها الفقهي والسياسي.
في مقابل مشهد الحج، وبالكاد بعد أسبوع على انقضائه، ينعقد عيد غدير خم في النجف الذي يؤمه الشيعة من كل صوب، رسالة العيد هي أحد أركان المعتقد الشيعي، وباختصار شديد: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أوصى لعلي - رضي الله عنه - بالخلافة من بعده، وأن هذه الوصية لم تنفذ، وبلغة العصر: انقلاب سياسي مبكر وقع في دولة الحضارة العربية الإسلامية حال وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - قاده الخليفتان الأولان، وانحراف في انتقال السلطة.
ثم ترتفع حرارة الجو السياسي لتصل مداها في عاشوراء، حيث البراءة من النظم السياسية التي احتوت الحضارة العربية الإسلامية فيما بعد، وتوريثها وزر مقتل الحسين - رضي الله عنه - في مشهد دموي من لطم الخدود، وضرب الأجساد بالسلاسل، ويتكرر ذات المشهد بعد أربعين يوماً.
مشهد الدماء واللطم والإغماء والموت أحياناً ولافتات الوعيد التي شاهدها العالم الإسلامي حية على الهواء للمرة الأولى بعد سقوط العراق لم تكن محط إعجاب كبير لدى شريحة رجل الشارع في العالم العربي والإسلامي لاسيما على خلفية مشهد الحج، وربما ساهم في انسداد الشهية الفكرية عند هذه الشريحة - وهي الأغلبية في كل مجتمع - هي أنها تبني قناعاتها بناءً على المشاهدة وليس القراءة، والبون الشاسع بين المشهدين لم يترك هامشاً واسعاً للاختيار.
يبقى السلوك العام هو أولى الاعتبارات التي يوليها الرأي العام قبل تقرير علاقته مع أية فكرة سياسية، مهما كان المجتمع بسيطاً، فعناد قريش الفكري مع الدين الجديد كسره في أحايين عدة رصيد الرسول - صلى الله عليه وسلم - الأخلاقي قبل الرسالة، ثم شخصه - صلى الله عليه وسلم - بعد البعثة، الذي وصف بأنه كان \"قرآناً يمشي على الأرض\".
يذكر في هذا المقام أن انتشار الإسلام بين شعوب شرق آسيا لم يتحقق على أيدي دعاة أو ساسة أو مطبوعات ملونة، وإنما أوصله تجار كانت مؤونتهم الدعائية الوحيدة هو سلوكهم، وهيبة طقوسهم الدينية التي صادفت الفطرة الإنسانية لتلك الشعوب، فاستهواهم الإسلام بناءً على مشهد أخلاقي وروحي، ثم نظرت إلى ما وراء ذلك المشهد فارتضته منهاج حياة.
التحول العميق في حياة شعوب شرق آسيا لم يكن قراراً سهلاً، فهم أول من دان بدين سماوي في ذلك الركن من العالم الذي لم تعرف أقوامه غير الديانات البوذية، الأهم من ذلك أن التحول حدث واستمر دون سلطان سياسي، أو حراسة أمنية، وهي حالة أقرب ما تكون للمثالية والنظريات منها للواقع.
المثال الآسيوي هو عكس المثال الإيراني، الذي قادت فيه الدولة الصفوية انقلاباً أيديولوجياً غير أبيض في القرن العاشر الهجري وفرضت المذهب الشيعي، وقامت أجهزتها بحراسة بوليسية للأيديولوجيا الجديدة التي أخرجت إيران من دائرة المذهب العام للحضارة الإسلامية بعد أن كانت معقلاً له، ووقفت الأجهزة الأمنية منذ ذلك الحين حاجزاً أمام محاولات حقيقية للحد من الشرخ مع الخط العام للحضارة العربية الإسلامية وتصفية روادها.
ما دلت عليه فصول التاريخ هو أن المذهب الشيعي بأيديولوجيته وطقوسه قد يمسك بالجغرافية لكنه لا يمسك بالتاريخ، فقد حكم العبيديون ( الفاطميون) شمال أفريقيا زهاء قرنين من الزمان، لكن التشيع - بشقيه الفقهي والسياسي - زال لحظة زوال الكيان السياسي للدولة العبيدية، وعادت مصر إلى الخط العام للحضارة العربية الإسلامية بشقيه الفقهي والسياسي وسط احتفالات شعبية ربما على غرار احتفالات أوربا الشرقية بعد زوال النظم الاشتراكية، وكان لذلك التحول تبعات سياسية استراتيجية بالغة الأهمية في المنطقة العربية، يمكن أن تفهم على ضوئه أحداث معاصرة.
يمكن القول: إن تمدد التشيع خارج مساحاته التقليدية يتطلب حراسة سياسية، أو مؤثر خارجي، أو الاثنين معاً، وأن انتشاره أو انحساره ديموغرافياً في مجتمع ما هو \"بارومتر\" للواقع الثقافي العام لذلك المجتمع، ولعالم الاجتماع العراقي الكبير الدكتور علي الوردي (وهو شيعي) رأي تؤيده الأدلة الميدانية في تفسير ظاهرة تشيع قطاعات من عشائر الجنوب العراقي في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين في ظل حالة التردي الثقافي في العهود الأخيرة للدولة العثمانية.
الأيديولوجية الشيعية ليست أيديولوجية رمادية، بل أيديولوجية أسود وأبيض، وهي سمة إيجابية في عرف الناخب السياسي، لكن مدة خمسة عشرة قرناً من العمل السياسي تكفي للحكم على حظوظ مدرسة سياسية تتراوح أسهمها بين 4- 5% من مجموع الناخبين.
ما ينتظره الناخب من أي مدرسة سياسية هو رؤية مشرقة، وأجندة متجددة، وحيوية قادرة على تجاوز الأزمات.
من بين ما رواه الصحابي الجليل عمرو بن العاص - رضي الله عنه - عن مظاهر الحيوية عند الروم هو أنهم \"أسرع الناس إفاقة بعد مصيبة\"، وهي سمة بارزة عند الأوربيين المعاصرين الذين أقاموا مؤسسات للإفاقة الفردية والجماعية وإعادة التأهيل.
العكس هو عندما تكون المصيبة هي الثقافة، والحداد هو سمتها، والطقوس هي الضامن لاستمرار المصيبة، وهي التي تنكأ الجراح كلما أرادت أن تندمل، ومن هذا الباب أباح الإسلام الحداد، لكنه حرص على عدم إطالته، فلا حداد فوق ثلاث، لما في الإطالة من شل للقدرات، وإماتة النفوس، وضياعاً للطاقات، والمجتمع أولى بسرعة الخروج من الصدمة، واستعادة الحيوية، والالتحاق بركب الأمم.
وفي هذا السياق فالحج إفاقة لكل \"من حج ولم يرفث ولم يفسق\"، وإعادة تأهيل للنفوس التي أحبطتها الأخطاء والهموم؟ وهذا هو الفرق بين الشخصية التي تنظر إلى الأمام وتبدأ عامها الجديد بالتفاؤل، والأخرى التي تنظر إلى الوراء وتستهل العام الجديد بالعزاء ومراكمة الهموم.
ليس من شطط الكلام القول: إن ارتباط أيديولوجية التشيع بالحداد ارتباطاً عضوياً، واعتبار القبر واحة للفكر تنهض حوله التجمعات السكانية ومعاهد العلم، وإدامة التوتر النفسي تجاه المحيط الاجتماعي العام، وتحميله وزر مأساة في القرن الأول الهجري، استهلك قدرات هذه المدرسة عبر القرون، وحال دون خروجها من هذه الحلقة والتطور في اتجاه برامج وأجندات أكثر شمولية، وأبقاها خارج الحياة السياسية والثقافية العامة للحضارة العربية الإسلامية، وخارج خيارات الناخب، وظلت خصومتها مع النظم السياسية المتعاقبة على هذه الحضارة موضع اهتمام القوى الخارجية.
انتحال الأقلية لأدوار الأغلبية يضع سجلاتها تحت دائرة الضوء، ويضطرها لاستئناف أدوار في العلن كانت تزاولها في الظل، فقد التقت مصالح \"إيران الحوزة\" مع مصالح قوى عالمية ضد جارتها المسلمة أفغانستان مرتين خلال عقدين، تارة مع الشيوعية، وأخرى مع المسيحية المتصهينة التي يعتنقها نزلاء البيت الأبيض، التقاء مصالح التشيع السياسي ـ الجناح الفارسي على وجه الخصوص ـ مع مصالح قوى خارجية كروسيا القيصرية والبرتغال في \"استكشافاتها الجغرافية\"، وأوربا أثناء الفتوحات العثمانية فيها، ضد مصالح الجغرافيا الإسلامية ليس سراً دفيناً، ولم تتأثر هذه المصالح تحت النظم التي توالت على حكم إيران منذ التشيع (الصفويون، القاجاريون، الشاهنشاهيون وأخيراً النظام الحالي) باستثناء دخول إسرائيل على الخط، هذه العلاقات مكانها أراشيف التاريخ لمن أراد الوصول إليها، الحقيقة هي أن أحداً لم يشأ الوصول إليها، لكنها اليوم مبتغى الجميع.
لقد حققت المدرسة الشيعية إبان عقود أو قرون المعارضة نجاحات على صعيد الاستقلال الذاتي المالي والثقافي، ومحاولات استعطاف الرأي العام العربي والإسلامي، وتسويق أيديولوجية المظلَمَة، وانتزعت ولاءً لا يتزعزع من الشارع الشيعي، لكن أشهراً قليلة في الموقع الجديد في العراق كانت كافية لبداية مسلسل الأخطاء القاتلة لمدرسة أمضت حياتها السياسية في معسكر المعارضة.
الأهم من ذلك هو تآكل المصداقية أمام الشارع الشيعي العربي الذي ولد ونشأ واشتد عوده على شعارات تتساقط اليوم أمام الواقع.
يبقى من حق الشيعة ممارسة طقوسهم التي حفظتها التعددية الثقافية والفقهية للحضارة العربية الإسلامية على مر العهود، ولكن ليس من حق المذهب الشيعي تقديم نفسه في لحظة اختلال في تاريخ هذه الحضارة على أنه هو وجه الإسلام الصحيح.
أما أهل السنة، فمن حق حضارتهم وتاريخهم عليهم الإفاقة والإدراك أن المعني بصراع الحضارات هي الألوان الأساسية للحضارات وليست أطيافها، وهم أحد تلك الألوان، وحسبهم أن الجيوش الأمريكية والأوربية عندما تدخل المنطقة العربية ليست بحاجة إلى من يذكرها أي ديار وطأت، وأي أنف مرغت، وأي مناهج تغير، ومؤازرة من تحتاج! وللقارئ متعة الاسترسال بهذه التساؤلات التي تضع الكثير من النقاط على الحروف.
الحديث عن السنة والشيعة ليس حديث فتنة طائفية، وإنما تعاملاً مع الواقع السياسي الحقيقي للمجتمع، وإخراجاً لأحاديث الغرف المقفلة إلى الهواء الطلق، وحسبنا أن تقسيم الأمريكان للمجتمع العراقي لم يكن على أساس البعث والشيوعية والليبرالية لعلمهم أنها طلاءات خارجية، وأن الانتماء السياسي الذي يفطم عليه الإنسان هو الانتماء الحقيقي.
ومن نفس المنطلق يستمر الحديث في أوربا عن البروتستانتية والكاثوليكية بعد قرون من إقصاء الكنيسة عن الحياة العامة، لكنه ليس حديثاً عن فروقات مذهبية، وإنما عن مآلات نمطين مختلفين من التفكيرº مدرسة متصلبة أعجزها التجديد والتطوير فأفلت في الأفق السياسي العالمي، وأخرى براغماتية متجددة هي المسؤولة عن المدنيات التي تسود العالم اليوم كأمريكا وبريطانيا وكندا وأستراليا ونيوزيلندا.
وعندما تتنافس حضارات العالم الكبرى ( الكونفوشية واليابانية والسلافية وغيرها) مع العولمة فإنها في حقيقة الأمر تتنافس مع المدنية المسيحية الأنكلوسكسونية البروتستانتية، أما فرنسا فلم تنجها أمومتها للعلمانية من قذف العالم لها بالكثلكة في قضية منع الحجاب.
لا خلاف أن هذا الموضوع ليس مادة مثالية لجدالات برامج الإثارة الفضائية الحية، أو برنامجاً انتخابياً لحزب من الأحزاب السياسية، أو حتى حديثاً لناطق باسم هيئة، لكن تجاوزه في المطبخ السياسي لأية حركة سياسية يحرق الطبخة، وحسبنا أن الذين رشقوا فرنسا بالكثلكة هم المفكرون في حين صمت السياسيون!
أما عاشوراء، فمعنىً بحاجة إلى تصويب، مثل مئات المفاهيم المعطوبة في القاموس الإسلامي، ليعود رمزاً لتراكم الإرث الإنساني في كنف الرسالات السماوية.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد