الأوقاف من منظور اجتماعي


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 يأتي الحديث عن الوقف بمعناه الواسع ضمن سياق تصاعد موجة ما يسمى بالقطاع الثالث في المجتمع المدني فمع القطاع الخاص والقطاع العام يقف القطاع الخيري شامخاً باعتباره القطاع الثالث المرشح لمزاحمة القطاعين السابقين في إدارة دفة المجتمع بمختلف مؤسساته المدنية والاجتماعية

ولئن كان القرن الماضي يسمى القرن الإداري بما حدث فيه من تطور إداري ملموس وطرح للعديد من النظريات الإدارية، وكان القرن الذي قبله يسمى بالقرن الدستوري، لما أُحدث فيه من أسس دستورية على مستوى العالم، فإن القرن الذي نعيشه الآن يمكن اعتباره قرن المجتمع المدني ومؤسسات العمل الأهلي غير الربحية- القطاع الثالث-، ومن المسلم به أن دافعية العمل الاحتسابية فيما يسمى القطاع الثالث لها خاصية مهمة هي ملامسة الحاجات الإنسانية الفطرية لدى الفرد نفسه الشعور تجاه الآخرين والتعاطف معهم، وهذا أكسبه ثقة ليست محلية وعلى المستوى الدولي.

 

القطاع الخيري:

ولقد تنامى الاهتمام بالقطاع الثالث- القطاع الخيري- بعد أن أصبح رقماً مهماً في المعادلة الاقتصادية في عدد من الدول المتقدمة، ومن المتوقع أن يزداد دور القطاع الثالث على نطاق واسع من العالم بغض النظر عن المستوى الاقتصادي للدولة لما لهذا القطاع من جاذبية داخل النفس البشرية بما يؤمله الفرد القائم به أو عليه من رجاء الثواب، وشعوره بالغبطة والسرور وهو يرى فعل الخير يمر من خلاله لمحتاجيه، ولا تستثنى هذه الحالة حتى الدول الغنية.

ومن هنا يمكن القول إن الحضارات البشرية والثقافات المعاصرة تتمايز بمقدار ما تملكه من رصيد إنساني وأخلاقي تقدمه للبشرية، ولقد بلغت الحضارة الإسلامية الذروة في ذلك ولم تقتصر على الإنسان فحسب، بل تجاوزته إلى من هو أدنى مرتبة في سلم الحياة وهو الحيوان، يحدوها في ذلك قول المصطفى - عليه الصلاة والسلام -: \"إن اللّه كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته\" (رواه مسلم)، ولقد اتسمت الحضارة الإسلامية بخصائص تتفق وطبيعة روح الإنسان وفطرته باعتباره مخلوقاً متميزاً في هذا الكون، فالطابع الخيري لها يمثل ركناً ركيناً وأساساً متيناً لها.

ويعد الوقف بمفهومه الواسع في الحضارة الإسلامية أصدق تعبير وأوضح صورة للصدقة التطوعية الدائمة في شرع اللّه، بل إن له من الخصائص والمواصفات ما جعله يتمايز عن غيره بمسافات اجتماعية واسعة جداً، ومن ذلك عدم محدوديته مكاناً وزماناً وكماً وكيفاً، إضافة إلى اتساع آفاق مجالاته العملية الملبية لاحتياجات الناس الفردية والجماعية، فضلاً عما يمتلكه من قدرة ذاتية على تطوير أساليب التعامل معه وهذه القدرة جزء لا يتجزأ من كينونة نظام الوقف ذاته، فالوقف يحمل في داخله بذور بقائه وإمكانات تطوره في المستقبل، ليس فقط في المجتمع الإسلامي، بل في بناء نظرية عالمية إنسانية تحمل الروح الإنسانية التي تسع الإنسان والتي كان الوقف أحد الابتكارات الإسلامية التي ترجمت هذا المعنى على أرض الواقع.

وسيحاول هذا المقال توضيح أثر الوقف في بنية المجتمع من خلال ما أداه ويؤديه حالياً عبر مؤسساته المختلفة والمتعاقبة، والدور الذي أداه في حياة المجتمعات على مر العصور السابقة، وإبراز سمات التكاتف والتعاضد والترابط التي أحدثها الوقف بشكل مباشر وغير مباشر في البنية الاجتماعية عبر القرون الماضية، وذلك بذكر نماذج منها. فإنه مما يغلب على الأدبيات العربية خلوها من دراسات معمقة للوقف كظاهرة اجتماعية، لها أثرها الفاعل في المجتمع بشكل عام، فغالباً ما يكون التركيز على الجوانب الفقهية له أو الآثار العلمية والثقافية له وسبب ذلك أن الآثار تحتاج إلى فترات طويلة ليتضح أثر الوقف فيها، وبالجملة فهذه الدراسة للكشف عن صورة مشرقة من جوانب ظاهرة الوقف، وتجلية الآثار الاجتماعية لها على بنية المجتمع بمختلف مستوياتها (الأسرة- المجتمع- الأمة).

 

ماهية الوقف

يُعرف الوقف في اللغة بأنه: الحبس والمنع، ويقال: وقفت الدابة إذا حبستها على مكانها، وفي أوضح تعريف للفقهاء في الوقف وأقربها للمراد الشرعي هو: تحبيس الأصل وتسبيل الثمرة. والأصل في مشروعية الوقف في الإسلام السنة المطهرة والإجماع في الجملة، ولقد اتفق جمهور علماء السلف على جواز الوقف وصحته فلقد حث القرآن الكريم في آيات عدة على فعل الخير والبر الإحسان، وهو ما يرمي إليه الوقف، ومن ذلك قوله - تعالى -: {لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحبٌّونَ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيءٍ, فَإِنَّ اللَّه بِهِ عَلِيمٌ} (آل عمران: 92)، وقوله - تعالى -: {وَمَا تُنفِقُوا مِن خَيرٍ, يُوَفَّ إِلَيكُم وَأَنتُم لاَ تُظلَمُونَ} (البقرة: 272). وينقسم الوقف إلى قسمين:

 

أ- وقف أهلي: وهو ما كان على الأولاد والأحفاد والأقارب ومن بعدهم من الفقراء ويسمى هذا بالوقف الأهلي أو الذري ويقوم على أساس حبس العين والتصدق بريعها على الواقف نفسه وذريته.

ب- الوقف الخيري: أو الوقف العام، وهو الذي يقصد الواقف منه صرف ريع الوقف إلى جهات البر التي لا تنقطع سواء كانت معينين كالفقراء والمساكين، أم جهات بر عامة كالمساجد والمدارس والمستشفيات.

ومن المؤكد أن نظام الوقف في الإسلام بشكله الحالي يبقى خصـــــوصية إســـلامية لا يمكن مقارنته بصور البر في الحضارات أو الشعوب الأخرى، وهذا عائد إلى عدة أمور:

*التعلق الشعبي به وعدم اقتصاره على فئة دون أخــــرى، فضلاً عن امتداد رواقه ومظلته إلى أمور تشف عن حس إنساني رفيع.

* عدم اقتصار الوقف على أماكن العبادة كما هو في الأديان السابقة، بل امتد في نفعه إلى عموم أوجه الخير في المجتمع.

* شمول منافع الوقف حتى على غير المسلمين من أهل الذمة والمستأمنين لما روي أن صفية بنت حيي- رضي الله عنها - زوج رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وقفت على أخ لها يهودي.

لأجل ذلك لا عجب أن نرى ذلك الإقبال الكبير من لدن أفراد المجتمع - حكاماً ومحكومين - على الوقف فقد كان نظام الوقف مفتوحاً أمام الجميع ولم يكن مختصاً بفئة مـــحددة، ويدل على ذلك كثرة التأليف الفقهي في باب الوقف وهو دليل واقعي على اتساع دور الأوقاف في حياة المجتمع بسبب كثرة الأوقاف ابتداء.

ولقد كان المسجد النبوي أول عمل وقفي أعلنت به الدولة الإسلامية عن وجودها عمرانياً، وتطور الأمر بالوقف حتى صار مكوناً من مكونات النشاط الاجتماعي في المجتمع المسلم، ثم توسع في التطبيقات بناءً على بروز حاجات اجتماعية اقتضت أن يوفر لها الوقف موارد مالية دائمة وثابتة. فالدارس للوقف في الحضارة الإسلامية ليعجب من التنوع الكبير في مصارف الأوقاف، فكان هناك تلمس حقيقي لمواطن الحاجة في المجتمع لتسد هذه الحاجة عن طريق الوقف.

ومن هنا فالمسجد أهم الأوقاف التي اعتنى بها المسلمون، بل هو أول وقف في الإسلام، كما هو معلوم في قصة بناء مسجد قباء أول مقدم رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة المنورة، ومن أبرز شواهد اهتمام المسلمين بذلك الجانب في الوقف: الحرمان الشريفان بمكة المكرمة والمدينة المنورة، والجامع الأزهر بالقاهرة، والمسجد الأموي بدمشق، وجامع القرويين بالمغرب، والزيتونة بتونس وغيرها كثير وكثير، ثم يأتي في المرتبة الثانية من حيث الكثرة العددية والأهمية النوعية المدارس، فلقد بلغت الآلاف على امتداد العالم الإسلامي، وكان لها أثر واضح في نشر العلم ورفع مستوى المعرفة بين المسلمين.

 

وقد أدى توافد طلاب العلم من جميع أنحاء العالم إلى مراكز الحضارة الإسلامية والعواصم الإسلامية إلى إنشاء الخانات الوقفية التي تؤويهم، إلى جانب تهيئة الطرق، وإقامة السقايات والأسبلة في هذه الطرق للمسافرين، وكذا دوابهم، وصاحب ذلك ظهور البيمارستانات في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، إضافة إلى إنشاء الأربطة ودور للطلاب الغرباء لإيوائهم وتهيئة الجو المناسب لهم، واستتبع ذلك ظهور الوقف للصرف على هؤلاء الطلاب باعتبارهم من طلاب العلم المـــستحقين للمســـــاعدة في دار الغــــربة، ولا تخلو كل هـــذه المراحل والأنـــواع من جوانب اجتماــعية للوقف لها دلالــتها وأهميتها وأثرها في المجتمع بشكل عام.

إلا أن الدور الفاعل للوقف في المجال الاجتماعي يتمثل في مظاهر عدة فقد كان الواقفون يتبارون في ابتكار أغراض من الرعاية الاجتماعية لمن يحتاجها، ولم يتوقف الأمر على الإنسان فحسب، بل بلغ الأمر حتى إلى البيئة والحيوان فقد كان هناك أشكال عديدة من الأوقـــاف ذات المضــــمون الاجتماعي فوجـــدت أوقاف لصـــيانة الـــترع والأنهار إقامة الجســور عليها، وأوقاف لطيور الحرمين الشريفين، وأوقاف لإطعام الطيور والعصافير في مدن عــــديدة من العالم الإسلامي، وأوقاف للقطط وأوقاف للحيوانات الأهلية الهرمة أو المعتوهة.

ولكن مما لا شك فيه أن الجانب الاجتماعي الأظهر من الأوقاف كان يتمثل في المدارس والدور التي أنشئت خصيصاً للأيتام ويوفر لهم فيها المأكل والأدوات المدرسية، كما يتمثل دور الوقف في مجال الرعاية الاجتماعية في الأربطة، والخانقاوات، والزوايا، والتكايا، بالإضافة إلى الأسبلة التي يقصد بها توفير ماء الشرب للمسافرين وعابري السبيل وجموع الناس سواء داخل المدن أو خارجها.

ولا يكاد يوجد جانب من جوانب الحياة في المجتمع إلا وله صلة بنظام الأوقاف من قريب أو بعيد، فالمتأمل في شأن الأوقاف من خلال نظرة شمولية يرى أن الأوقاف عمل اجتماعي، دوافعه غالباً ما تكون اجتماعية وأهدافه اجتماعية.

 

آثار اجتماعية

ومن هنا يمكن القول: إن الأوقاف الإسلامية في الأصل عمل اجتماعي، ويمكن أن نورد بعض الآثار الاجتماعية المترتبة على الوقف، أو التي كان للوقف دور في تعزيزها في حياة المجتمع وترسيخها على مدى القرون الماضية، ومن هذه الآثار ما يلي:

 

* ساعد الوقف على تحقيق الاستقرار الاجتماعي وعدم شيوع روح التذمر في المجتمع وذلك بتحقيق نوع من المساواة بين أفراده، فقد تمكن الفقير من الحصول على حقه في التعليم والعلاج والاحتياجات الاجتماعية الأخرى، بالإضافة إلى المتطلبات الأساسية في الحياة من خلال نظام الوقف، بل إن بعض الأوقاف كان يخصص ريعها لفقراء المجتمع دون الأغنياء، لذا لا عجب أن نصل إلى نتيجة اجتماعية على مستوى العالم الإسلامي هي أن الآلاف الكثيرة من المجتمع من العلماء المبرزين في مختلف التخصصات كانوا من فئات اجتماعية واقتصادية رقيقة الحال، وليس هذا فحسب بل إن الأوقاف بهذه الطريقة أسهمت في عملية التنمية الاجتماعية الشاملة لما فيها من شيوع جو من المحبة، والتفاهم، والإخاء والتكاتف، لإحساس الفرد المحتاج أن هناك من يهتم به ويأخذ بيده.

 

* تمكن نظام الوقف بما يمتلكه من مرونة من بسط مبدأ التضامن الاجتماعي وشيوع روح التراحم بين أفراد المجتمع وحمايته من الأمراض الاجتماعية التي تنشأ عادة في المجتمعات التي تسود فيها روح الأنانية المادية وينتج عنها الصراعات الطبقية بين المستويات الاجتماعية المختلفة، وهناك من يرى أن الولايات المتحدة الأمريكية قد حمت مجتمعها من امتداد ثورة العمال التي برزت مع الثورة البلشفية في روسيا إلى المجتمع العمالي في الولايات المتحدة الأمريكية من خلال التوسع في فتح أبواب العمل الخيري وتشجيع الشركات والأثرياء بإعفاءات كبيرة لمن يُقدم منهم على الأعمال الخيرية فزادت المؤسسات الخيرية وتضاعفت الهبات حتى بلغت مئات الملايين في وقت مبكر من القرن الماضي، كما أن في الوقف توزيعاً عادلاً في الثروات وعدم حبسها بأيد محدودة مما يجعلها أكثر تداولاً بين الناس فالنظام المالي الإسلامي قائم على تحقيق التوازن الاجتماعي، ويأتي الوقف عاملاً مهماً لتحقيق التوازن الاجتماعي.

 

* أدى نظام الوقف إلى الانفتاح المجتمعي بين أجزاء العالم الإسلامي بصورته الكبيرة، وهذا ما استرعى نظر العلامة ابن خلدون في مقدمته عندما وصف الوضع الاجتماعي السائد في القاهرة وقت صلاح الدين الأيوبي بقوله: فاستكثروا من بناء المدارس والزوايا والرُبط ووقفوا عليها الأوقاف المغلّة، وكثر طلاب العلم وارتحل إليها الناس من العراق والمغرب، أدى ذلك إلى الترابط بين سكان الحاضرة وسكان البادية وانتقال الأفراد من مكان إلى آخر ومن مدينة أو قرية إلى أخرى أو ما يعرف في علم الاجتماع بظـاهرة الحــراك الإيكولوجـــي (Ecological Mobility) وما يستتبع ذلك من ظواهر اجتماعية أخرى، وقد تحقق هذا بوجود المدارس الوقفية والبيوت الموقوفة لرعاية الغرباء، وإحياء طرق السفر بالخانات والأسبلة، كما استطاع نظام الوقف كسر عزلة القرية وفرض على أهلها التواصل مع المدينة، وتعزيز مبدأ التوازن إلى حد كبير في عملية التحضر وذلك من خلال الاهتمام بالمناطق الأكثر احتياجاً، وكذلك بالفئات الأقل قدرة على سد ضروريات الحياة، وبخاصة في مجالات الصحة والتعليم والعمل والسكن.

 

* كانت الأوقاف تمسك على المجتمع كيانه من الداخل فلا ينهار وذلك من خلال الحفاظ على مقومات أي أمة وهما الدين واللغة أو ما يسمى بهوية الأمة، فقد أدت الأوقاف دوراً محورياً في الحفاظ على الهوية الإسلامية بين أفراد الأمة وعدم الذوبان في حومة الاستعمار أو الموجات التنصيرية والتغريبية، وكذلك محاولات محو اللغة العربية وإحلال لغة المستعمر محلها، ولكن الأوقاف ومن خلال المدارس الإسلامية الوقفية ساعدت وبشكل جلي في محافظة الأمة على دينها ولغتها على الرغم من المحاولات التي قام بها المستعمر لتحجيم الأوقاف والتضييق عليها، فقد حاولت موجات الاستعمار الغربي في العصور الحديثة بعد أن سيطر على العديد من البلدان الإسلامية أن يضغطوا على المسلمين عن طريق السيطرة على الأوقاف..غير أن الوقف كان أحد العوامل الرئيسية التي استندت إليها الطبقة المتعلمة المسلمة التي وقفت ضد رغبات الاستعمار السياسي والفكري والديني من أجل الحفاظ على تماسك المسلمين في كثير من البلدان التي وقعت تحت هذه السيطرة الغربية، كما عمل الوقف على حماية سيادة الوطن في نفوس المواطنين، بنشر الثقافة الوطنية كاستجابة في وجه التحدي، وبناء المساجد والمعاهد العربية الإسلامية في مقابل هدمها أو تدجينها، ففي الهند عملت السلطات الإنجليزية على ممارسة الدور الإضافي للمدارس الوقفية ولكن استمرار المقاومة الثقافية من خلال المعاهد الإسلامية ومراكز التعليم الوقفية في كل من (عليكرة، وحيدر آباد، وكراتشي) حدت من هذه الهجمة وقللت من أثرها، ويمكن القول نفسه في كل من اندونيسيا وماليزيا وغيرها من بلدان جنوب شرق آسيا، وكذا الأمر يتكرر في بلدان المغرب العربي، فقد كانت المواقف الرافضة للاحتلال تعتمد على ما أتاحته مــــوارد الموقوفات على المدارس، فقد أدت تلك الموقوفات للثقافة الإسلامية وإلى اللغة العربية خدمات محـــمودة، فلولا مـــوارد الوقوف المغربية التي عضدت الدراسات الإسلامية في بلاد المغرب العربي زمن الاحتلال الفرنسي لعفت لغة القـــرآن وانطــفأت شعلة الثقافة الإسلامية.

 

* أسهم الوقف وبدرجة فاعلة في توسيع الطبقة المتوسطة (Middle Class) في المجتمع وهذه الطبقة هي: فئة من السكان في نظام التدرج الطبقي في المجتمع وتقع بين الطبقتين السفلى والعليا، ويتمتع أفراد هذه الطبقة -غالباً- بقسط مناسب من الدخل والتعليم، وتتميز القيم السائدة بين أفراد هذه الطبقة بتقدير المسؤولية واحترام الذات والعمل الجاد، وليس بخاف أن الطبقة الوسطى هي لحمة أي مجتمع بشري وأوسعها ثقافة وتعليماً، ومنها يتخرج الأطباء والمهندسون والمعلمون وسائر القيادات التنفيذية في مختلف دوائر الدولة، وإنّ تآكل هذه الطبقة ينتهي حتماً بالمجتمع إلى التخلف والاضمحلال، لذا تعمل سائر الحكومات في الدولة الحديثة إلى توسيع دائرة الطبقة الوسطى أو على الأقل المحافظة على وجودها وبقائهاº حفاظاً على وحدة وتماسك المجتمع وتنمية الشعور والحس والانتماء الوطني، وقد ساعد الوقف الإسلامي كثيراً في توسيع دائرة هذه الطبقة، وكان أحد أسرار تماسك المسلمين وتمسكهم بعقيدتهم ودفاعهم عن أوطانهم، رغم الهجمات الشرسة المتعاقبة من أعدائهم.

 

* إن الدارس للأثر الاجتماعي للوقف لابد أن تستوقفه نوعية الطبقة الاجتماعية التي استفادت من الوقف وكيف استطاع تغييرها وتحقيق ما يسمى في علم الاجتماع بظاهرة الحراك الاجتماعي (Social Mobility) في بنية المجتمع، والحراك الاجتماعي يقصد به: انتقال الأفراد من مركز إلى آخر ومن طبقة إلى أخرى، وقد يكون هذا الانتقال أفقياً وهو تحرك الأفراد من مركز اجتماعي إلى آخر في نفس الطبقة، وقد يكون رأسياً وهو انتقال الأفراد من طبقة اجتماعية إلى طبقة اجتماعية أعلى ولقد مكن التعليم القائم على نظام الوقف، وكذلك الرعاية الاجتماعية الوقفية من تغير طبقات المستفيدين منه أفقياً ورأسياً وفق مفهوم الحراك الاجتماعي، فساعد نظام الوقف على تحسين المستويات الاقتصادية، والعلمية، والثقافية لكثير من أفراد المجتمع، فالتعليم الجيد الذي قد يحمله شخص موهوب قد ينقله ليس لأن يتسلم مرتبة الإفتاء والقضاء فحسب، بل لأن يتمرس في العمل الإداري وتيسير أمور الدولة أو في أي مهنة متخصصة كالطب أو الإدارة أو غيرها والتي قد لا تتاح له لولا أن أموالاً موقوفة قد ساعدته على هذا الارتقاء والانتقال.

 

* أسهمت الأوقاف بشكل واضح وجلي في تحقيق ترابط اللبنة الأولى للمجتمع وهي الأسرة، وذلك من ثلاثة جوانب، الأول: من خلال ما يسمى بالوقف الأهلي أو الوقف الذري وهو ما كان على الأولاد والحفدة والأقارب، فمن خلال هذا النوع من الوقف كان يحدث لم الشمل للأسرة، أما الجانب الثاني: فهو مساعدة الشباب والفتيات العوانس على الزواج وبخاصة الفقراء منهم، وقد كان هناك أوقافً مخصصة لذلك، والجانب الثالث الذي يحقق تماسك الأسرة وترابطها فهو من خلال إيجـــــاد أوقاف خاصة برعاية النساء المتزوجات الغاضبات اللواتي لا أسر لهن، أو تكون لهن أســــر في بلاد بعيدة، فتؤسس لهن دور تقوم على رعايتها نساء، على رأسهن مشرفة تهيئ الصـلح للزوجــات الغاضبات مع أزواجهن، فغدت وكأنها مكاتب لإصلاح ذات البــــين أو مكاتب للتوجيه والإرشاد الأسري المعروفة حالياً والتي يمارسها المختصون في مجال الخدمة الاجتماعية والإرشاد الزواجي.

 

* لقد كان لنظام الوقف دور فاعل في تحقيق درجة عالية من الترابط بين أفراد المجتمع الواحد، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال التعرف على درجة ومقدار الالتقاء بين أفراد المجتمع اليومية والأسبوعية والسنوية، فإذا عرفنا أن المساجد تأتي في المرتبة الأولى من حيث الأعيان الموقوفة على امتداد العالم الإسلامي، وهذه الكثرة في المساجد مدعاة لتعدد اللقاءات بين أفراد المجتمع في الحي الواحد الذين يؤدون الصلوات خمس مرات في اليوم، ثم السؤال عمن غاب وعيادته إن كان مريضاً، وكل ذلك يعمل بشكل غير مباشر وقوي على تماسك وترابط أفراد المجتمع الواحد بسبب كثرة المساجد المعتمدة في قيامها على نظام الأوقاف، وما تؤديه هذه المساجد من دور اجتماعي يتمثل في تهيئة بيئة خصبة لتلاقي الناس بشكل دائم ومستمر، فكان المسجد محققاً لتآلف المسلمين وترابطهم الناشئ عن التقائهم يومياً.

 

وجماع القول أن للوقف دوراً اجتماعياً كبيراً ومهماً، رغم عدم وضوحه في بعض الأحيان وذلك يعود إلى تأخر ظهور الآثار الاجتماعية في حياة المجتمعات واحتياجها إلى سنوات وأحياناً إلى عقود طويلة من السنين والأعــــوام لتتضح للعــيان، وهذا ما يؤكد ضرورة العودة بالوقف إلى دوره الفعال في المجتمعات المسلمة لجني ثماره الاجتـــماعية والاقتصادية والثقافية بشــــكل متوازن ومتكامل، ومما لاشك فيـــه أن الآثار الاجتماعية للوقف تزداد كماً ونوعاً كلما كان الوقف مركــــزاً على الاحتياجات الاجتماعية في المجتمع.

 

وختاماً فالوقف في الإسلام مؤسسة كبرى وقربة دينية عظيمة لها أبعادها الإنسانية والحضارية والاجتماعية والاقتصادية، وقد كان ولا يزال رمزاً للسماحة والعطاء وعصباً للاقتصاد ومفجراً للطاقات المبدعة في المجتمعات الإسلامية، وهو من أهم الصدقات نفعاً وأعظمها ثواباً يجري نفعه ويستمر عطاؤه، فهو من أفضل الأعمال الصالحة وأحبها إلى اللّه - تعالى -، ومصدر بر وإحسان إلى عباد اللّه، والدارس للحضارة الإسلاميةº يجد أن الوقف كان له دور رائد في تغذية تلك الحضارة، وإمدادها بالمال والإبداع والقوة، مما رعى مسيرتها وحافظ على ثرة عطائها، وهذا ما يؤكد النظـــرة التفـــاؤلية لهذا المشــروع الحضاري المهم، وبخاصة أنه يمتلك مرتكزات أســـاسية تعين على تفــــعيله بشكل حيوي مرة أخرى.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply