بسم الله الرحمن الرحيم
لم يعد خافياً أن المرأة أصبحت الرهان الأقوى الذي يراهن عليه أهل الشر لتحقيق التغير الذي ينشدونه في المجتمع وتحويله إلى مجتمع منفتح ـ بزعمهم - تنطلق فيه المرأة دونما ضوابط شرعية أو اجتماعية، وما هذه الدعوات والممارسات اليومية التي نشاهدها في التعامل مع قضية المرأة إلا مؤشرات قوية لهذا التوجه الذي يراد للمجتمع أن يسلكه عبر بوابة تغير وضع المرأة أولاً ثم ما بعده.
ومن هنا كان على أهل الخير بعد أن اتضحت لهم معالم هذه المرحلة التحريرية للمرأة - وفق مصطلح الفريق الآخر- أن يعملوا بأسلوب مختلف عما كان عليه العمل في المرحلة السابقة، فمن المعلوم أن الجهود السابقة لدعوة المرأة كانت منصبة في معظمها على قاعدة (ردود الأفعال) من الغيورين الرافضين للمنكر وأهله، ولعل قيادة المرأة للسيارة، ومنتدى جدة الاقتصادي، وقناة الإخبارية، خير مثال على ذلك من المنكرات القديمة والحديثة.
لذا لا عجب أن هذا الأسلوب الذي كان متبعاً في التعامل مع دعوة المرأة الدعوة النسائية جعل المدافعين الحقيقيين لها بمنزلة الظالمين لها عند عدد من الكتّاب وحتى بعض المسئولين، فالطريقة في ذاتها ـ أقصد تحري المنكر وانتظاره حتى يقع ثم إنكاره ومحاولة منعه أو إيقافه ـ جعلت هذا التصور يشيع، ومن هنا نطرح أسلوباً يتناسب مع المرحلة التي يعيشها المجتمع ويتعامل في ضوئها مع المرأة.
إن من يطلع على الكثير من التجارب في مجال الدعوة النسائية يستطيع أن يحدد بعض المعالم التي ساعدت على نجاحها، وساهمت بشكل كبير في جعلها تنافس غيرها في ذات المجال، والمقصود بنجاحها من وجهة نظر الكاتب هو قدرتها على استباق المنكر والتأثير في المجتمع، إضافة إلى تفاعل قاعدة عريضة من المستفيدين والمستفيدات معها نقداً وتطويراً، فمن المعالم البارزة في المشاريع الدعوية النسوية الناجحة: روح المبادرة، والتعامل بشكل أقرب للإيجابية في تعاطي إنكار المنكر الذي تعمل هذه المشاريع الدعوية على دفعه أو رفعه، ولا يعني هذا أن الإنكار بالوسائل المتبعة حالياً أقرب للسلبية، بل المقصود أن المنكر أيا كان هذا المنكر يحتاج إلى أكثر من وسيلة لرفعه أو دفعه، ومن هذه الوسائل: المبادرة بطرح البدائل من خلال توقع المنكر، ولا شك أن هذا يحتاج إلى فقه شرعي وفقه بواقع المجتمعات المشابهة لمجتمعنا ـ وبخاصة الخليجية ـ لمعرفة طبيعة المنكر المقبل.
إن الراصد للمجتمعات القريبة منا يستطيع أن يتوقع المرحلة القادمة في مجال إفساد المرأة، وذلك من خلال تتبع الخطوات التي مرت بها المجتمعات الأخرى، وهذه سنن الله في الخلق: وبناءً على المراحل على مرحلة أخرى، والطرح الجريء أحيانا، وخلق الأعذار الواهية لتمرير بعض المشاريع النسوية المشبوهة في المجتمعات المسلمة، والتقدم خطوتين ثم التراجع بخطوة واحدة صفات لا تنفك غالباً عن مسيرة خلخلة عفاف المرأة المسلمة وحشمتها في غالب الدول التي عايشت مراحل إذابة شخصية المرأة المسلمة، أو ما يسمى بتحرير المرأة.
مما سبق أرى أن مشاريع الدعوة النسائية في الحاضر، وكذلك القادمة منها، تحتاج لكي يُكتب لها النجاح أن تقوم على ثلاثة منطلقات رئيسية:
1- رصد مراحل تحرير المرأة التي مرت بها الدول المجاورة: وبخاصة الخليجية، لتشابه الظروف معها، والتعرف على ردود أفعال المجتمع، وردود أفعال وسائل الإعلام والحكومات، والجهات الخارجية، مثل جمعيات حقوق الإنسان والمنظمات النسائية وحكومات العالم الغربي، وتوثيق هذه المراحل وفق تسلسل زمني لمقارنتها بالواقع في المملكة العربية السعوديةº لمعرفة أي المراحل وصلت مسيرة تحرير المرأة التي يُخطط لها، وأي المراحل نحن منتقلون إليها. ولا يفوتني أن أشير إلى أن الرصد يجب أن يشمل جميع الجوانب المتعلقة بالمناشط النسائية بجوانبها: التربوية، والاجتماعية، والإعلامية، والترويحية، والاقتصادية.
2- التخصص الدعوي: بحيث ينبري مجموعة من العاملين للمبادأة بالمشاريع الدعوية النسائية، وتتفرع مجموعات أُخر لرصد المنكرات والتعامل معها وفق الطرق المتبعة حالياً للتعامل معها، مثل: مناصحة المسئولين، ونصح أصحاب المنكر مباشرة، والتواصل مع العلماء والدعاة والخطباء، والكتابة في الصحف والإنترنت، وكتابة العرائض أو جمع التواقيع، وكل ذلك بالطبع بضوابط الإنكار المعروفة شرعاً.
3- المبادرة بطرح مشاريع دعوية موجهة للمرأة بمختلف شرائحها الاجتماعية والعمرية وليست مشروعاً واحداً، وهذه المشاريع المقترحة ينبغي أن تتناسب والمرحلة المتوقعة المرور بها أو التي يُقاد لها المجتمع بدراية منه، وأحياناً كثيرة بغير دراية منه للأسف. وهذه المبادرات الدعوية إن لم تصل إلى درجة دفع المنكر جملة فهي على الأقل ستخفف منه وتضعفه في حالة وقوعه، وبالتالي تُضعف ما بعده من المنكرات التابعة له. وبكل حال عبارة الفقهاء مشهورة هنا وهي: أن \"الدفع أولى من الرفع\"، والأسباب في ذلك معروفة لا داعي للإطالة فيها.
إذا تناولنا الموضوع من منطلق (الدفاع الاجتماعي) الذي يقصد به (حماية المجتمع والفرد على حد سواء من الجريمة) تكون حماية المجتمع من الجريمة بمواجهة الظروف والعوامل التي تساعد على الإجرام بشكل عام، كما تكون حماية الفرد من خلال تأهيله نفسياً ومعنوياً ليمتنع بنفسه عن الإجرام.
ومن هذا المصطلح الاجتماعي (الدفاع الاجتماعي)..أطرح مصطلحا آخر يقابله وهو (الدفاع الجوي) وأقصد به: حماية المجتمع من المنكرات الموجهة إلى المرأة والتي تكون المرأة مستهدفة فيها، بالإضافة إلى حماية أفراد المجتمع النسوي من الوقوع في المنكر من خلال التأهيل الشامل لهن، ويكون ذلك عبر عدد من المشاريع الدعوية الموجهة إليهن، ومؤادها بشكل شمولي هو حماية المجتمع النسوي من الانحراف بشكل عام، وحماية المرأة نفسها من الانحراف الذاتي أو الانحراف المتعدي إلى الغير، ويكون بطرح مبادرات دعوية تسبق ظهور المنكر في المجتمع النسوي بشكل عام، أو في آحاد النساء.
إن في طرح هذه المشاريع الدعوية الاستباقية للمنكر أثراً عظيماً في تقليل شره، هذا إن لم تتمكن هذه المشاريع بالفعل من رد المنكر بالجملة. وأطرح مثالاً واحداً عن ذلك، فمن المعلوم أن الترويح والترفيه من البوابات الكبرى التي يحاول أهل الشر الولوج منها الآن لحرف المرأة في المجتمع السعودي عن عفتها وحشمتها، وبخاصة أنه يلامس حاجة أساسية في النفس البشرية، ويصاحب ذلك الكم الكبير من ساعات الفراغ التي تمتلكها النساء والتي تراوح بين (6 - 10) ساعات يومياً، ثم إن ممارسة الترويح وبخاصة النساء غالباً ما تخفف من الكثير من القيود الاجتماعية، وهذا ما يجعله مسلكاً سهلاً لتغيير كثير من المفاهيم والاتجاهات لدى الممارسين له.
ومن هنا فإن استمرارية امتلاك زمام طرح المبادرات الترويحية بيد الفريق الآخر يمهد إلى صياغة مناخ ترويحي منفتح يتجاوز جميع الحدود الشرعية والاجتماعية، بخلاف ما لو كان أصحاب المبادرة هم أهل الخيرº من خلال التوسع المنضبط في التعامل مع هذه القضية الترويح، وطرح مبادرات إيجابية تتمثل في مشروعات ترويحية تراعي الجوانب الشرعية والحاجات النفسية، ولا تُغفل واقع المجتمع وما يمر به من تحولات تتسابق مع نفسها، ويمكن أن يقاس على ذلك الجوانب الأخرى في حياة المرأة المسلمة التي هي محل نقاش وجدل لمّا ينتهي بعد، مثل عمل المرأة، إثبات الشخصية، المشكلات الزوجية، آثار الطلاق عل المرأة... إلخ.
والمقصود بطرح هذه المشروعات الدعوية النسوية أن تُغطي شقيها: النظري، والعملي، فلا يمكن استغناء أحدهما عن الآخر، فإن وجود التصور النظري لمثل هذه المشروعات الدعوية النسائية أهم بكثير من الجانب التطبيقي، فإن وجود التصور النظري لأي مشروع دعوي يسهل عمل من يريد المساهمة في هذا المجال حتى من أصحاب النظرة الاقتصادية البحتة، فتوجه المجتمعات المسلمة الملتزمة يفرض على كثير من رجال الأعمال مراعاة هذا الجانب، وفي ظني أن ذلك ينطوي على خير كثير يتنامى مع الوقت ويؤسس لقواعد تُراعى مستقبلاً في هذا الصدد.
إن طرح هذه الفكرة المتمثلة في التعامل الإيجابي مع واقع المنكرات القائمة في المجتمع لرفعها أو دفع المتوقع حدوثه على المدى القريب أو البعيد، لا يخرج في جملته عن قول الله - عز وجل -: {وَلتَكُن مِّنكُم أُمَّةٌ يَدعُونَ إِلَى الخَيرِ وَيَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَيَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ} (آل عمران الآية: 104)، بل أحسبها تطبيقا عمليا لها وامتثالا حرفيا لها، ففي الآية تقديم لمبدأ الأمر بالمعروف على جانب النهي عن المنكر، وإن كان الأمر بالمعروف يتضمن فعلياً إنكار منكر، ولكن ذلك ليس بمطرد، بل فقد يؤمر بمعروف ابتداءً دونما وجود للمنكر.
كما أنه من المعلوم أن تقديم الشيء على الشيء يتضمن أهميته- والله أعلم- ففي ثماني آيات وردت في القرآن الكريم قرن الله - عز وجل - بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بهذا الترتيب، وهو تقديم الأمر بالمعروف على النهي عن المنكر، ولم يرد في القرآن تقديم لإنكار المنكر سوى في آية واحدة هي قوله - عز وجل - :{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابنِ مَريَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعتَدُونَ} (المائدة آية: 78)، وكذلك الأمر في الأحاديث النبوية حسبما اطلعت لا يوجد ربط بين هاتين الشعيرتين إلا بتقديم الأمر بالمعروف على النهي عن المنكر، سواء في التكليف أما مدح فاعلهما وذمّ تاركهما، ومن هنا فقد تكون المرحلة تحتاج من العاملين في مجال الدعوة النسائية إلى الأمر بالمعروف ابتداء من خلال المشاريع الدعوية الموجهة للنساء التي تقطع الطريق على ظهور منكرات جديدة في المجتمع النسوي، وتقلل من شر المنكرات الموجودة في المجتمع.
ومما لا يخفى أن الآثار المترتبة على المبادرة في طرح المشاريع الدعوية النسائية كثيرة، ولا تنحصر فقط بمنع المنكر من الظهور أو تقليله، بل يمكن القول: إن لهذه المبادرات إيجابيات عدة، منها:
1- تحقيق مبدأ الثقة في النفس لدى العاملين في مجال الدعوة النسائية، وعدم احتقارها، والتغلب على الشيطان فيما يمكن أن يغرر به الفرد المسلم أنه لا يصلح الأمر، فيقعد عن العمل في وسط الطريق ليتعطل ويعطل غيره من المسير، فالثقة في النفس مقدمة أساسية لنجاح العمل والابتكار فيه وتجديده.
2- في المبادرة بطرح مشاريع دعوية نسائية إعذار إلى الله - عز وجل -، وتحقيقاً لقوله - تعالى -: {وَإِذَ قَالَت أُمَّةٌ مِّنهُم لِمَ تَعِظُونَ قَومًا اللّهُ مُهلِكُهُم أَو مُعَذِّبُهُم عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعذِرَةً إِلَى رَبِّكُم وَلَعَلَّهُم يَتَّقُونَ} (الأعراف: 164)، كما أن في هذه المبادرات تخفيفا من التبعية الفردية على الإنسان المسلم، قال - تعالى -: {فَقَاتِل فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفسَكَ وَحَرِّضِ المُؤمِنِينَ عَسَى اللّهُ أَن يَكُفَّ بَأسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللّهُ أَشَدٌّ بَأسًا وَأَشَدٌّ تَنكِيلاً} (النساء 84 87).
3- في المبادرة الإيجابية المنتجة لمشاريع دعوية نسائية جديدة إيجاد للقدوات العاملة الداعية لغيرها، وحجة على القاعدين طوعاً أو المثبطين لغيرهم بأن الزمان زمان سوء لا مجال فيه للدعوة.
4- المبادرات الإيجابية في مجال الدعوة النسائية تعمل على تغيير صورة أهل الخير لدى قطاع عريض من المجتمع والمسئولين فيه، فإن مما يشتكي منه أهل الخير: كثرة ما يُتهمون به من أنهم ضد المرأة وأنهم لا يجيدون سوى مصادمة حقوقها، وتحريم كل عمل أو مشروع تطويري للمرأة، فلا شك أن المبادرات الإيجابية المتمثلة في طرح متتابع ومتواصل لمشاريع دعوية نسائية سوف تعمل مع مرور الوقت على تغير هذه الصور التي يحملها الكثير من أفراد المجتمع وقادته عن أهل الخير، وفي ذلك تغيير استراتيجي لقيادة قضايا المرأة في المجتمع والتحكم في دفتها بشكل ملحوظ على المدى البعيد.
5- الدفع بمزيد من الطاقات في سوق العمل الدعوي النسائيº ذلك أن مثل هذه المشاريع الدعوية النسائية الجديدة لا تحتاج في الغالب إلى مواجهة من المنكر القائم أو أهله، فهذه المواجهة قد يعجز عنها العبد من أهل الخير لأي سبب من الأسباب، أما في حالة المبادأة بالعمل وكونه من المشاريع الجديدة فسوف يعمل على استقطاب العديد من الطاقات لتعمل بمعزل عن ضغوط المنكر وأهله، وهي ضغوط قد تُقعد بعض الناس عن العمل وتصيبه باليأس، وهذا خلاف العمل الابتكاري الجديد فهو يجعل الفرد المسلم ينظر بروح التفاؤل للواقع، مما يعزز عملية التعامل معه والتعايش فيه بروح إيجابية.
6- في تعاطي هذه المبادرات الإيجابية المنطوية على مشاريع دعوية نسائية تحقيقاً لمبدأ توظيف الطاقات بحسب تخصصها وقدرتها وميولها وتركيزاً للجهود، إذ الغالب في طبيعة هذه المشاريع ذات الصفة المبادرية أنها تُنفذ بعيدة عن الضغوط المتولدة من رؤية المنكر عياناً، كما أنه بعيد عن ردود أفعال المنكر الواقع، وهذا ما يجعل المشروع الدعوي النسائي ينضج فكراً وتخطيطاً وتنفيذاً، بسبب نشوئه بعيدا عن سياسة ردود الأفعال المتصفة غالباً بالرد السريع غير المدروس أو المخطط له.
7- في مثل هذه المبادرات الإيجابية المنتجة لمشاريع دعوية نسائية توليد لأفكار ومشاريع دعوية نسائية جديدة أخرى ومشاريع تكاملية لها يُبنى بعضها على بعض، ومن هنا فإن تأخر المشروع الأول يؤخر ما بعده، وهكذا فتقدم الأول يعني تقدم ما بعده.
وأخيراً.. فإن من مستلزمات ظهور المبادرات الدعوية النسوية الجديدة: تشجيع المبادرات الفردية ابتداءً ورعايتها بعين الحرص، فالمتتبع لمسيرة الحضارة الإنسانية لا يمكن أن يتخلف نظرة عن حقيقة مهمة، هي أن الإبداع الفردي والإيجابية الذاتية هما منبع الأفكار المتميزة وبداية الانطلاقة لأفكار خلاقة وأعمال تعدى نفعها الزمان والمكان التي بدأت فيه وانطلقت منه.
فأسأل الله أن يجعلنا من الفئة التي تدعو إلى الخير على بصيرة، وممن يأمرون بالمعروف ابتداءً ولا يغفلون عن النهي عن المنكر عن علم ورفق وعدل، وأسأله - عز وجل - أن يعفو ويتجاوز بمنه وكرمه.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد