بسم الله الرحمن الرحيم
لهذا ربط الإسلام بين الأخلاق والمعاملة أوثق رباط، ولم يفرق بين الغايات والوسائل في إيجاب موافقتها للشرع، ومن ثم حث على الفضل، فقال عز من قائل: \"وَلاَ تَنسَوُا الفَضلَ بَينَكُم\"، وجاء في الأثر: \"الدين المعاملة\"، ورحم الله القائل: \"لا يذهب الفضل بين الله والناس\".
وحض على العفو فقال: \"وَأَن تَعفُوا أَقرَبُ لِلتَّقوَى\"، بل تعدى الأمر الحث والحض إلى الدعاء والترحم للمتسامحين الفضلاء، فقال رسول الإسلام: \"رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى\".
لهذا كان سلف هذه الأمة من لدن الصحابة ومن بعدهم ملتزمين بهذا المبدأ مراعين له، ولم يحدث فيهم الانفصام الذي حدث في خلف هذه الأمة بين الأخلاق والمعاملة، بل كانت مراقبتهم لربهم - سبحانه وتعالى - في التعليم، والتجارة، والزراعة، والجهاد، وغيرها كمراقبتهم لربهم في الصلاة، والصوم، والحج، ونحوها، بل منهم من تجاوز توقي الحرام والمشبوه إلى الورع عن كثير من المباح.
بعض النماذج من سلوك تجار المسلمين:
وإليك بعض النماذج من هذا السلوك الرائع لبعض تجار المسلمين فيما له تعلق بموضوع بحثنا:
1. التابعي الجليل محمد بن سيرين (المتوفى 115هـ).
ذكر النووي في ترجمته: (لما حبس ابن سيرين في السجن قال له السجان: إذا كان الليل فاذهب، وإذا أصبحت فتعالº فقال: لا والله لا أعينك على خيانة السلطان.
قال الخطيب: وكان حبس في دين ركبه لغريم له، وبإسناده عن المدائني قال: كان سبب حبس ابن سيرين أنه اشترى زيتاً بأربعين ألف درهم، فوجد في زق منه فارة، فقال: الفارة كانت في المعصرةº فصب الزيت كله، وكان يقول: عيرت رجلاً بشيء منذ ثلاثين سنة أحسبني عوقبت بهº وكانوا يرون أنه عيره بالفقر فابتلي به).
2. يونس بن عبيد (المتوفى 140هـ).
قال الذهبي في ترجمته في سير أعلام النبلاء: (روى الأصمعي عن مؤمل بن إسماعيل قال: جاء رجل شامي إلى سوق الخزازين، فقال: عندك مطرف بأربع مائة؟ فقال يونس بن عبيد: عندنا بمائتينº فنادى المنادي: الصلاة، فانطلق يونس بن عبيد إلى بني قشير ليصلي بهم، فجاء وقد باع ابن أخته المطرف من الشامي بأربعمائة، فقال: ما هذه الدراهم؟ فقال: ثمن ذلك المطرفº فقال: يا عبد الله، هذا المطرف الذي عرضه عليك بمائتي درهم، فإن شئت فخذه وخذ مائتين، وإن شئت فدعهº قال: من أنت؟ قال: أنا رجل من المسلمينº قال: أسألك بالله من أنت؟ وما اسمك؟ قال: يونس بن عبيدº قال: فو الله إنا لنكون في نحر العدو، فإذا اشتد الأمر علينا قلنا: اللهم ربَّ يونس فرج عنا، أو شبيه هذاº فقال يونس: سبحان الله، سبحان اللهº إسنادها مرسل.
وقال أمية بن خالد: جاءت امرأة يونس بن عبيد بجبة خز، فقالت له: اشترهاº قال: بكم؟ قالت: بخمسمائةº قال: هي خير من ذلكº قالت: بستمائةº قال: هي خير من ذلكº فلم يزل حتى بلغت ألفاً.
وكان يشتري الإبريسم من البصرة فيبعث به إلى وكيله بالسوس، وكان وكيله يبعث إليه بالخز، فإن كتب وكيله إليه: إنما المتاع عندهم زائد، لم يشتر منهم أبداً حتى يخبرهم أن وكيله كتب إليه أن المتاع عندهم زائد).
3. الإمام محمد بن إسماعيل البخاري صاحب الصحيح (المتوفى 256هـ)
جاء في ترجمته في سير أعلام النبلاء: (كان لأبي عبد الله غريم قطع عليه مالاً كثيراً، فبلغه أنه قدم \"آمل\" ونحن عنده بـ\"فربر\"، فقلنا له: ينبغي أن تأخذه بمالك، فقال: ليس لنا أن نروعه.
وقال الذهبي: كان حمل إلى البخاري بضاعة أنفذها إليه ابنه أحمد، فاجتمع بعض التجار إليه فطلبوها بربح خمسة آلاف درهم، فقال: انصرفوا الليلةº فجاءه من الغد تجار آخرون، فطلبوا منه البضاعة بربح عشرة آلاف، فقال: نويت بيعها للذين أتوا البارحة).
4. دَعلج بن أحمد بن دَعلج بن عبد الرحمن المحدث الفقيه التاجر ذو الأموال العظيمة (المتوفى 351ه)
قال الذهبي: (ونقل أبو بكر الخطيب البغدادي حكاية مقتضاها أن رجلاً صلى الجمعة فرأى رجلاً متنسكاً لم يصل، فكلمه، فقال: استر عليَّ، لدعلج عليَّ خمسمائة ألف، فلما رأيته أحدثتº فبلغ ذلك دعلجاً، فطلبه إلى منزله، وحلله من المال، ووصله بمثلها لكونه روعه).
قلت:
هذه التوطئة جعلتها مقدمة لما أريد أن أبين حكم الشرع فيه، وهو: هل هناك نص من كتاب الله، أو سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو إجماع لأهل الحل والعقد في تحديد الربح أم لا؟
ذهب بعض أهل العلم إلى أن الربح المنهي عنه هو الربح الفاحش، وقد حدده الإمام الزيلعي الحنفي بأنه هو ما كان ضعف ثمن السلعة، وقال بعضهم: لا يزيد على نصف ثمن السلعة.
هذه الأقوال وغيرها يعوزها الدليل، وهي مناهضة للأدلة الصحيحة الصريحة التي تبيح أن يربح المرء ما يسره الله له من غير حد، كثر هذا الربح أم قل، وإليك الأدلة.
الدليل على أنه ليس للربح حد في الشرع
من أقوى الأدلة وأصحها حديث عروة بن الجعد البارقي - رضي الله عنه - قال: \"أعطاني النبي - صلى الله عليه وسلم - ديناراً لأشتري له به شاة، فاشتريت شاتين، فبعت إحدى الشاتين بدينار، وجئته بشاة ودينار، فقال - صلى الله عليه وسلم -: أربح الله تجارتك\".
الشاهد من هذا الحديث إقرار الرسول - صلى الله عليه وسلم - له، بل ودعاؤه له أن يبارك الله في تجارته.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: \"دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض\".
قال الشيخ عبد الله البسام - رحمه الله -: (إن المتتبع لنصوص الكتاب والسنة لا يجد فيها تحديداً للربح بنسبة معينة، لا وجوباً ولا استحباباً، ولعل الحكمة في ذلك والله أعلم أن التحديد لا يمكن ضبطه بنسبة معينة، فإنه يختلف باختلاف الزمان والمكان، واختلاف ما بين السلع من ضرورية وكمالية، وفرق ما بين الثمن المؤجل والمعجل، إلى غير ذلك من ملابسات لا يمكن معها تحديد الربح).
نهي الإسلام أتباعه عن الجشع، وحثهم وحضهم على السماحة
لهذا فقد جعل الإسلام كما ذكرنا الأخلاق محور المعاملات بين المسلمين، وحضهم وحثهم على السماحة والفضل، ونهاهم وحذرهم من الجشع والأثرة.
قال أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - ناصحاً ومرشداً لإخوانه التجار: \"معاشر التجار: خذوا الحق تسلموا، ولا تردوا قليل الربح فتحرموا كثيره\".
قيل لعبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه -: ما سبب يسارك؟ قال: \"ما رددتُ ربحاً قط\".
وقال الغزالي - رحمه الله -: \"الإحسان المحض أمر فوق العدل والواجب\".
وقالت اللجنة الدائمة للإفتاء بالمملكة العربية السعودية: (الأصل في الأثمان عدم التحديد، سواء كانت في بيع الحال أو المؤجل، فتترك لتأثير العرض والطلب، إلا أنه ينبغي للناس أن يتراحموا فيما بينهم، وأن تسود بينهم السماحة في البيع والشراء، وألا ينتهزوا الفرص لإدخال بعضهم الضيق في المعاملات على بعض).
يستثنى من ذلك ما يأتي
أولاً: السلع التي يجوز تسعيرها
يستثنى من ذلك السلع التي يجوز تسعيرها من قبل وزارات التجارة، وهي:
1. السلع التي تنتجها الدولة أو تستوردها.
2. السلع التي تدعمها الدولة بطريق مباشر أو غير مباشر.
ثانياً: المحتكر
المحتكر يجبر على بيع ما عنده إذا احتاجه الناس، خاصة فيما يتعلق بالأقوات، بسعر المثل، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: \"من احتكر فهو خاطئ\".
قال ابن القيم: (ويحرم الاحتكار في قوت الآدمي، وهو الشراء للتجارة وحبسه مع حاجة الناس إليه، ويجبر ولي الأمر المحتكر أن يبيع كما يبيع الناس دفعاً للضرر).
ثالثاً: بيع المضطر المضغوط
كذلك من الحالات التي نهى الشارع فيها عن المبالغة في الربح بيع المضطر أو المضغوط، فإذا جاءك المضطر فيتحتم عليك أن تبيعه بسعر المثل، ويحرم عليك استغلال حاجته واضطراره.
فقد روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: \"لا ضرر ولا ضرار\".
وقد فسره الإمام أحمد - رحمه الله - قائلاً: (يجيئك المضطر فتبيعه ما يساوي عشرة بعشرين، فإني أكره أن يربح بالعشرة خمسة).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: (المضطر هو الذي لا يجد حاجته إلا عند هذا الشخص، فينبغي لمن عنده الحاجة أن يربح عليه مثل ما يربح على غير المضطر، فإن في السنن فإن النبي - صلى الله عليه وسلم -: \"نهى عن بيع المضطر\"، فالذي يضطر الناس إلى شراء ما عنده من الطعام واللباس يجب عليه أن يبيعهم بالقيمة المعروفة).
وقال ابن رجب الحنبلي في شرح حديث \"لا ضرر ولا ضرار\"، وهو يعدد صور الإضرار: (ومنها في البيع، وقد ورد النهي عن بيع المضطر، خرجه أبوداود من حديث علي بن أبي طالب أنه خطب الناس، فقال: سيأتي على الناس زمان عضوض، يعض الموسر عل ما فيه يديه، ولم يؤمر بذلك، قال الله - تعالى -: \"وَلاَ تَنسَوُا الفَضلَ بَينَكُم\".
وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع المضطر، وخرجه الإسماعيلي، وزاد فيه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"إن كان عندك خير تعود به على أخيك، وإلا فلا تزيدنه هلاكاً على هلاكه\".
وقال عبد الله بن معقل: بيع المضطر ربا).
رابعاً: بيع المسترسل
المسترسل هو الساذج الذي لا يحسن يماكس، كذلك لا يجوز أن يخدع فيباع له بربح فاحش، فإن كان ذلك فلأهله الخيار لمدة ثلاثة أيام.
قال ابن رجب الحنبلي: (وإن كان المشتري مسترسلاً لا يحسن أن يماكس فباعه بغبن كثير لم يجز أيضاً، قال أحمد: الخلابة الخداع، وهو أن يغبنه فيما لا يتغابن الناس في مثله، يبيعه ما يساوي درهماً بخمسة، ومذهب مالك وأحمد أنه يثبت له خيار الفسخ بذلك).
أيها التجار، اعلموا أنه لا يحل لمكلف أن يقدم على عمل حتى يعلم حكم الشرع فيه، ويعلم ما يصلحه وما يفسده، ومن ذلك فمن دخل في التجارة أو كانت مهنته البيع والشراء، فيتحتم عليه معرفة أحكام البيوع، وإلا فلا يحل له العمل في التجارة، ولهذا كان عمر - رضي الله عنه - يقيم من الأسواق من لا يعرف أحكام المعاملات.
والحمد لله أولاً وآخراً، اللهم ارزقنا الحلال الطيب، وجنبنا الحرام الخبيث، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا البشير النذير، وعلى آله، وأصحابه، والتابعين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد