بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
لقد جعل الحق -سبحانه وتعالى- فريضة الصيام أصلاً من أصول الديانات السماوية كلها، على اختلاف في أدائه وفي كيفيته، فهو عبادة قديمة قدم البشرية.
فقال: {يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ}(البقرة: 183) وليس الصوم إذلالاً للنفس بكفها عن المفطرات أو المحرمات، بل الهدف منه رفع النفس الإنسانية عن شهواتها، وإعدادها لعظائم الأمور، وتعويد المسلم الصبر والاحتمال، وليس الصوم الكف عن الطعام والشراب وما أحل الله للإنسان من طيبات فحسب، بل هو في الأساس كف عن جميع المحرمات من قول وعمل، وفي ذلك يقول -صلى الله عليه وسلم-: "من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه من أجلى" فالحق -تبارك وتعالى- ليس في حاجة إلى أن ندع طعامنا وشرابنا من أجله، إذا كذبنا أو نافقنا، أو اغتبنا، أو سخرنا من غيرنا من عباد الله، أو وعدنا فاخلفنا، أو نظرنا إلى المحارم، ولم نغض البصر، أو أكلنا حقوق الآخرين، أو استقر الباطل في أنفسنا، أو قصرنا عن واجب عمداً، أو تجاوزنا الحق في أحكامنا، أو تجرأنا على حدود الله ولم نعظم حرماته.
وهذا تعويد وتدريب على أفضل الأخلاق، وأكرم الصفات التي يجب أن يوصف بها المسلم، فإذا التزمنا مدة شهر بهذا كان خليقا بنا ألا ننحرف عن ذلك سائر العام، في الصيام ما يعلم الصائمون، وما لا يعلمون، من فوائد، ونلفت النظر هنا إلى أن الحق -تبارك وتعالى- يعلم من أمورنا ما لا نعلم، وقد فرض علينا الصيام وغيره من الفروض مما هو غني عنه، وإنما التكليف هنا لحاجتنا ومصلحتنا، مما فيه علاج القلوب وتصحيح النفوس والأبدان، فنقبل عليها ونؤديها لأنه -سبحانه- لا يفرض علينا إلا ما فيه سعادتنا ورقينا، فهو الذي خلق كل شيء وقدره تقديرا.
الصوم ضياء:
فإذا كانت الصلاة مناجاة بين العبد وربه ومعراجا يرقى فيه المؤمن، فإن الصوم ضياء وقرب ومشاهدة، كله لله، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، طاعة متصلة النفحات، ليس فيها للعبد نصيب، بل كلها خالصة لله "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزى به" وفي الأثر أيضاً "عليك بالصوم فإنه لا عدل له"
فالصوم صفة ربانية طاهرة مطهرة، وهو سمو فوق مطالب الجسد وحاجاته، رغم ضرورتها أحياناً، طاعة وامتثالاً لأمر الله، ولذلك فالحق -سبحانه وتعالى-، هو الذي ينفرد بالعطاء الجزيل، على من أحيا هذه الفريضة، والصائم يفتح طاقة رحبة بينه وبين خالقه، وهل من أمنية أشهى وأبهى، وأغلى وأعلى وأكرم وأسمى من تلقي هذا الفيض؟ فما أعظم هذه التجليات والفيوضات يسعد الصائم بالوقوف بين يدي مولاه يناجيه ويطرق أبوابه ويلح في الدعاء، فله من الحق -سبحانه- فرحتان، فرحة عن فطره، وفرحة عند لقاء ربه، إلا إن الصوم يرقى بالصائم في مراتب الرضا حتى يحظى بمغفرة خطاياه، وقد كفر الحق ذنوبه، وستر عيوبه، وحقق مطلوبة ونال ما يرغب ويتمنى {وُجُوهٌ يَومَئِذٍ, نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}(القيامة: 22 23) {وُجُوهٌ يَومَئِذٍ, مٌّسفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مٌّستَبشِرَةٌ}(عبس: 39).
هل رأيتم إلى أي مستوى وصل الصائم، وهل تبينتم الموقف وعظمته؟ وجمال العبودية لله وعزها؟ إن العز الحقيقي في الطاعة، وإن الذل الحقيقي في المعصية {وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلمُؤمِنِينَ} (المنافقون: من الآية 8).
في رمضان عبودية كاملة لله، وهذه هي الحرية الكاملة للإنسانية، إن أوسع الناس حرية، أشدهم لله عبودية، هؤلاء لا تتحكم فيهم شهوة، ولا يستذلهم مال، ولا تضيع شهامتهم لذة، ولا يذل كرامتهم طمع أو جزع، ولا يتملكهم خوف ولا هلع، لقد حررتهم عبادة الله من خوف ما عداه، فقد انقطعوا بعبوديتهم لله عن كل خضوع لغيره، فإذا هم في أنفسهم سادة، وفي حقيقتهم أحرار، وفي أخلاقهم نبلاء وفي قلوبهم أغنياء، وذلك لعمري هو التحرر العظيم.
وأي فضل يفوق ما قاله سيد الخلق -صلى الله عليه وسلم- في عظمة هذا الشهر: "أعطيت أمتي في شهر رمضان خمسا لم يطعهن نبي قبلي".
أما الأولى: فإنه إذا كان أول ليلة من شهر رمضان ينظر الله -عز وجل- إليهم ومن نظر إليهم لم يعذبه أبدا.
وأما الثانية: "فإن خلوف أفواههم حين يمسون أطيب عند الله من ريح المسك".
وأما الثالثة: فإن الملائكة تستغفر لهم في كل يوم وليلة.
وأما الرابعة: فإن الله -عز وجل- يأمر جنته فيقول لها استعدى وتزيني لعبادي، أوشكوا أن يستريحوا من تعب الدنيا إلى دارى وكرامتي.
وأما الخامسة: فإنه إذا كان آخر ليلة غفر الله لهم جميعاً، فقال رجل من القوم أهى ليلة القدر "قال: لا: ألم تر إلى العمال، فإذا فرغوا من أعمالهم وفوا أجورهم".
إن أمة الإسلام اليوم لا ينقصها العلم، فالجامعات والعلماء لا حصر لها في الوطن العربي والإسلامي، ولا ينقصها المال، فهي بلاد الثروة الطبيعية، مما يجعلها أغنى أمم الأرض لو أحسنت استخدام هذه النعم، كما لا ينقصها العدد، فالمسلمون يزيدون على ألف مليون، لكن الذي ينقصها صدق الانتماء لهذه الرسالة التي أخرجت العالم من الظلمات إلى النور، ينقصها الصلابة في الحق، ومقاومة الباطل بحق، والعمل بدينها والالتزام به، ينقصها الضمير المؤمن المعتصم بالله، والمراقب لله -عز وجل-، ينقصها وحدتها في الوسيلة والهدف والغاية تحت راية الإسلام.
ويأتي شهر رمضان كل عام ليقيم الحجة علينا، ففي ميدان الأمة الواحدة لا عذر لأحد، فنحن في شهر الصيام نصوم معاً في مشارق الأرض ومغاربها ونفطر معاً، في لحظة واحدة، ونتجه في صلاة القيام وفي الفرائض كلها إلى قبلة واحدة، والقرآن الذي نزل في هذا الشهر دستور المسلمين جميعاً، وشهادة التوحيد الخالص، هي عنوان لكل مسلم، والنبي -صلى الله عليه وسلم- لنا جميعاً ولغيرنا.
كل مقومات الوحدة والاتحاد قائمة، وينقصنا جميعاً التجرد والإخلاص والخروج من حظ النفس، عندها يتحقق فينا قوله -تعالى-: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُم أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبٌّكُم فَاتَّقُونِ}(المؤمنون: 52).
شهر الانتصارات الكبرى:
في رمضان كانت غزوة بدر الكبرى، معركة الفرقان بين الحق والباطل، وتحقق وعد الله للأبرار من المؤمنين من كتيبة بدر التي تخرجت في رحاب الإسلام، وفي رمضان: زحف حملة المنهج الإلهي على مكة يرفعون لواء التوحيد، ويفتحون أكبر الأبواب لمن يريد الدخول في هذا الحق ونكست دولة الأصنام والأوثان إلى الأبد وصدق الله العظيم إذ يقول: {وَقُل جَاء الحَقٌّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}(الإسراء: 81).
وانتهى الفجار الذين وقفوا في وجه دعوة الحق، ووقف -صلى الله عليه وسلم- عليهم ينادى "يا أبا جهل، يا عتبة، يا شيبة، هل وجدتم ما وعد ربكم حقا، فإني وجدت ما وعدني ربى حقا"، فقال عمر يا رسول الله أتناديهم وقد جيفوا، قال يا عمر: ما أنت بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يجيبه\" السيرة لابن هشام.
وفي رمضان كانت معركة عين جالوت التي ردت التتار الذين اكتسحوا البلدان الإسلامية واحدة بعد الأخرى، ولم ينج من شرورهم إلا الذين اعتصموا بالله ورفعوا لواء الجهاد، وحرصوا على الشهادة فوهبت لهم الحياة، وكانت الفاصل في إيقاف هذا السيل المدمر وهزيمته وإعلاء كلمة الله وحده.
يقول أحد المؤرخين: تعتبر معركة عين جالوت من أهم المعارك الحاسمة في التاريخ، وما أحرزه المماليك من انتصار أنقذ الإسلام من أخطر تهديد تعرض له".
الانتفاضة:
ويأتي علينا شهر رمضان هذا العام والثورة التي انطلقت في فلسطين واجتاحت في طريقها المكر اليهودي والغطرسة الصهيونية والتردد العربي، لتلقى بكل هذا في مكانه المناسب، إنها انتفاضة شملت كل فلسطيني على الأرض وخارج الأرض، إنها استمدت قوتها من عقيدة حياة الأمة ومن وجدانها وتاريخها، لقد تعاطف معه كل مسلم ومسلمة على ظهر الأرض لأنها ثورة أرض الإسراء والمعراج ثورة الأرض المقدسة ثورة الإسلام ثورة المستضعفين المغلوبين على أمرهم الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ثورة الشباب المؤمن الموصول بقيوم السماوات والأرض.
لقد اكتشف الشعب الفلسطيني على وهج المحنة وشدتها وعلى أبواب القدس اكتشف أبعاد اللعبة اليهودية، وقرر تلقائياً عن غرورهم وإجرامهم وسفالاتهم، إلا عبر المواجهة عن طريق الجهاد والكفاح، ولقد اختفت من الساحة مقولات التردد والمفاوضات والمساومات وحلول الوسط، وبرزت معالم العقيدة وقيمة رجل العقيدة الذي لا يناقش ولا يغش ولا يخون، ولا يساوم ولا يحابى، وأيقن الشعب الفلسطيني المسلم بضرورة حرب التحرير، فهي الحل الوحيد للقضية، إن أخطر ما في الانتفاضة هو إدراك تلك الحقائق وإدراكها أولى خطوات النصر الذي لا ريب فيه بإذن الله -تعالى-، والذي وعدنا في كتابه العزيز بأن زوال اليهود حتمية قرآنية فقال: {عَسَى رَبٌّكُم أَن يَرحَمَكُم وَإِن عُدتٌّم عُدنَا وَجَعَلنَا جَهَنَّمَ لِلكَافِرِينَ حَصِيرًا}الإسراء.
ولقد صدقت النبوءة ووقع الوعد الحق، فسلط الله على بني إسرائيل من قهرهم أول مرة، ثم سلط عليهم من شردهم في الأرض، ودمرهم تدميرا، ثم عاد بنو إسرائيل إلى الإفساد في الأرض وسفك دماء الأبرياء، والجزاء حاضر والسنة ماضية "وإن عدتم عدنا" وفي أيام الإسلام الأولى كذبوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحرضوا عليه مشركي الجزيرة. وحاولوا قتل نبي الإسلام -صلى الله عليه وسلم- وكعادتهم مضوا في الإجرام والخيانة، فسلط الله عليهم المسلمين فأخرجوهم من الجزيرة كلها، حتى كان العصر الحديث، سلط عليهم هتلر فصنع بهم ما يستحقون، ولقد عادوا اليوم في صورة إسرائيل التي نكلت بالأبرياء العزل، وأذاقت أصحاب الدار والأرض والعرض الويلات، ونحن على يقين كامل من أن الحق -جل وعلا- سيسلط عليهم من يسومهم سوء العذاب تصديقاً لوعده القاطع وتأكيداً لسنته التي لا تتخلف وإن غداً لناظره قريب.
أيها الصائمون:
يا من تزيدون على ألف مليون، من يملك أن ينصر الحق المهدور، والشرف الضائع، والأمة المسلوبة إلا أنتم؟
أيها المسلمون: عار عليكم أن يطغى اليهود ويتفرعنوا، ويعربدوا، ويهدموا ويشردوا إخوانكم، وأنتم نائمون ساكتون لا تتحركون، وكأنكم في غيبوبة لا أمل في الاستيقاظ منها، كيف تلقون الله غدا؟ وبماذا تجيبون حين تسألون؟ وماذا تقولون للمعذبين المقهورين؟ وماذا يقول التاريخ عنكم للأجيال؟ احذروا من التهديد الرباني الحاسم وعواقبه في قوله -تعالى-: {يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرتَدَّ مِنكُم عَن دِينِهِ فَسَوفَ يَأتِي اللّهُ بِقَومٍ, يُحِبٌّهُم وَيُحِبٌّونَهُ أَذِلَّةٍ, عَلَى المُؤمِنِينَ أَعِزَّةٍ, عَلَى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَومَةَ لآئِمٍ, ذَلِكَ فَضلُ اللّهِ يُؤتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}(المائدة:54).
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد