إقبال شهر رمضان


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

يقبل رمضان من كل عام فينساب في قلوب المؤمنين نور وتتجدد في نفوسهم مشاعر، وتحيا أمال، إنه يذكرهم برسالتهم الخالد، ويبين لهم حاجة البشرية إليها، وهي أهم وأولى من حاجتهم إلى الهواء والغذاء والكساء والدواء ولن تتقدم البشرية أو يروي ظمأها اكتشاف المناجم أو أبار البترول أو قوى الذرة ووسائل الحضارة، لأن غذاء الروح روح، وغذاء الطين طين.

وهذه خواطر حول جماعة الصيام الكبرى، حول الحرية الحقة للإنسان في شهر الخير، المطهر كما سماه الرسول صلوات الله وسلامه عليه.

روى أبو هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين"(رواه البخاري ومسلم).

وفي رواية "غلقت أبواب الجحيم فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادي مناد يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة"، يشير هذا الحديث إلى عدة حقائق تحدث في هذا الكون حين يقبل رمضان قال العلماء "الفتح" كناية عن تنزيل الرحمة وإزالة العوائق عن مصاعد أعمال العباد تارة يبذل التوفيق وأخرى يحسن القبول، وفي معنى الغلق قالوا إنه كناية عن ارتفاع الصائم فوق المعاصي والذنوب والتخلص من بواعث الشر بقمع الشهوات، وتصفيد الشياطين أي يشدون بالسلاسل، ويمنعون من إفساد المسلمين، وهنا تمهد الطريق لطالب الخير والثواب، ولا يجد أهل الشر طريقاً يسلكونه للغواية والإضلال.

حين يتطلع المسلم إلى مسيرة التاريخ الإسلامي يجد شهر رمضان اقترن بألوان من البطولات والمفاخر، ويجد أن الحق -سبحانه- لحكمة يعلمها ربط بين هذا الشهر ووحيه إلى أنبيائه ورسله، وكأن هذه الحكمة أن يكون شهر رمضان موسماً لتجيد الصلة بالله.

روى أحمد "أنزلت الصحف على إبراهيم في أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان، والإنجيل لثلاث عشرة ليلة خلت من رمضان، وأنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان" وصدق الله العظيم إذ يقول: {شَهرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ القُرآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ, مِّنَ الهُدَى وَالفُرقَانِ}(البقرة: من الآية185) ومن أمجاد رمضان أن غزوة بدر أولى الغزوات المشهودة في تاريخ الإسلام كانت في السابع عشر منه، ويوم الفتح الأعظم فتح مكة الذي أعز الله به الإسلام كان في رمضان وفتح الأندلس الفردوس الإسلامي المفقود بدأ في شهر رمضان ومعركة عين جالوت التي انتصر فيها المسلمون على التتار كانت في رمضان، وسيضاف إلى هذه الأمجاد قريباً بإذن الله تحرير فلسطين وعودة بيت المقدس من أيدي المخربين أعداء البشرية من اليهود الذين دمروا وخربوا وعاشوا في الأرض فسادا {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالمِرصَادِ}(الفجر: 14) {إِنَّهُم يَكِيدُونَ كَيدًا* وَأَكِيدُ كَيدًا*فَمَهِّلِ الكَافِرِينَ أَمهِلهُم رُوَيدًا}(الطارق: 15).

كان المصطفى -صلى الله عليه وسلم- إذا أقبل رمضان يقول: "أتاكم رمضان شهر بركة، يغشاكم الله فيه، فينزل الرحمة، ويحط الخطايا ويستجيب الدعاء، فأروا الله من أنفسكم خيرا، فإن الشقي من حرم فيه رحمة الله - عز وجل-".

وإذا كان شأن الأمم العظيمة الاهتمام بمواريثها وتخليد ذكرياتها فلا عجب أبدا أن يجعل الإسلام شعار رمضان الاحتفال بمولد الدستور الخالد القرآن الذي أتم الله به النعمة وختم به الرسالات، وإن أعظم أسلوب عرفه الناس في ميدان التكريم هو تجديد الولاء وتأكيد العهد والعزم على الاستمساك، فليكن احتفالنا بشهر رمضان قرآني الذي أنزله في رمضان بالنزول على أحكامه فذلك مقتضى الإيمان، وهذا الأمر ضروري اليوم لإنقاذ البشرية التي تقف على حافة الهاوية بسبب إفلاسها في عالم القيم وصدق الله العظيم: {اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيكُم مِّن رَّبِّكُم وَلاَ تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَولِيَاءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ}(الأعراف: 3).

إن كل الأنظمة الأرضية فسلت بل مزقت الإنسان وقهرته واليوم جاء دور الإسلام الذي يخرج الناس من الظلمات إلى النور، يقول الحق -سبحانه- عن الليلة التي بدأ فيها نزول هذا الحق: {إِنَّا أَنزَلنَاهُ فِي لَيلَةٍ, مٌّبَارَكَةٍ, إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ* فِيهَا يُفرَقُ كُلٌّ أَمرٍ, حَكِيمٍ,* أَمرًا مِّن عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرسِلِينَ * رحمة من ربك إنه هو السميع العليم}، وإنها لليلة مباركة حقا في شهر مبارك التي بدأ نزول القرآن فيها والقرآن لم ينزل كله في رمضان، ولكنه بدأ يتصل بالأرض في تلك الليلة، وإنها لمباركة حقا تلك الليلة التي يفتح فيها ذلك الفتح على البشرية، وهذه نعمة كبرى ورحمة من المولى -تبارك وتعالى- تستحق أن يقام المهرجان شكراً لله الذي فرق بهذا القرآن في كل أمر وفصل فيه كل شأن وتميز الحق الخالد عن الباطل الزاهق ووضعت الحدود وأقيمت المعالم السليمة لرحلة البشرية كلها بعد تلك الليلة إلى يوم الدين، يقول الحسن البصري عن هذا الشهر الكريم وما يجب على المسلم فيه من تسابق وتنافس في الخير "إن الله جعل رمضان مضمارا لخلقه يتسابقون فيه بطاعته إلى مرضاته فسبق قوم ففازوا وتخلف آخرون فخابوا، فالعجب من الضاحك اللاعب في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون، ويخسر المبطلون".

إن التربية الراشدة وضبط النفس وإصلاح القلوب لا غنى عنه للبشرية هو رصيدها الدائم، ولا قيمة للبشرية إلا إذا أمنت بربها وتأدبت على أساس من دين الإسلام وعقيدته. وما من عاقل إلا وهو يدرك إنه لو أطلق الناس العنان لأهوائهم في كل مجال، فإن أحوال الدنيا تصبح فوضى والحياة لا تطلق . والضوابط الشرعية التي جاء بها الإسلام هي الصيغة النهائية الدقيقة التي تضبط حياة الناس، وهي الصراط المستقيم الذي يجب عليهم أن يسلكوه.

والتدريب العملي لضبط النفس في الإسلام هو الصوم، ومن هنا جاء في الحديث الذي رواه ابن عباس "عرى الإسلام وقواعد الدين ثلاثة عليهن أسس الإسلام من ترك واحدة منهن فهو بها كافر حلال الدم شهادة أن لا إله إلا الله والصلاة المكتوبة وصوم رمضان" رواه أبو يعلى بإسناد حسن وهو الطريق الذي يصل بصاحبه إلى مرتبة التقوى يقول الحق -سبحانه-: {يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ}(البقرة: 183).

إن أثر الصوم في تربية المسلم وترويضه على الصبر وضبط النفس لا يحتاج إلى برهان، وإن أربعة عشر قرنا لخير شاهد على صدق ما نقول.

إذا أحسن المنتسبون لهذه المدرسة أدبهم مع الله، تخرجوا منها وهم بشر جدد، إن رمضان مرحلة يقبل المسلم فيها على مرضاة الله، وهي ترويض للمسلم أن يكون أكبر من الدنيا وما عليها.

إن الكثير من المسلمين لا يفهمون من هذه المدرسة إلا تجهيز الطعام والشراب وتحضير المطاعم والمناعم، وإعداد لوازم السحور والإفطار، وما يقوي شهية الطعام ويوفر راحة المنام لأن رمضان كريم وهذا شيم الكرام.

وهناك قوم فهموا أن هذه المدرسة فترة راحة عندهم من عناء الأعمال، ويقضون وقتهم في اللهو والتسلية وتقسيم الأوقات على الزيارات والسهرات، وفي نهارهم يغطون في نومهم ويتكاسلون في عملهم.

وهذان الصنفان رسبوا في هذه المدرسة، وخسرهم رمضان وخسروا وهجرهم بعد أن هجروه وهو حجة عليهم بين يدي ربهم وشهيد على تقصيهم وسوء تقديرهم "كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، وكم من قائم ليس له من قيامه إلا السهر"(رواه البزار والبيهقي).

وقوم آخرون.. صلوا وصاموا وتعبدوا وقاموا وهم لا يعلمون من ذلك إلا أنهم أمروا فامتثلوا. وتعودوا فعملوا يرجون رحمة الله ويخافون عذابه، وأولئك لهم أجرهم وثواب صيامهم وجزاء أعمالهم والحسنة بعشرة أمثالها والله يضاعف لمن يشاء. وبقى بعد كل هذا الصنف الوفي لدينه، الذي يؤدي ما أمره الله به من صلاة وصيام وطاعة وقيام ومسارعة إلى الخيرات والصدقات.. لكنهم لم يقفوا عند ظواهر الأعمال بل فهموا عن الله، ونظروا إلى الهدف الكبير الذي لا ينبغي أن يغيب عن قلب المسلم، لقد عرفوا لرمضان معنى لم يعرفه سواهم. وفازوا بربح لم يفز به غيرهم، فاكتسبوا منه تزكية الروح وتصفية النفس ونصرة الحق وأولئك هم العارفون. الذين امتلأت قلوبهم بالنور ولسان حالهم يقول: إن هذا هو الطريق إلى الجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمة الله وتفويض الأمر إليه، هذا الصنف الكريم يعتقد أن الله جعلهم جنودا لقضية الحق فهم يعدون أنفسهم ويطهرون قلوبهم ويحاربون أهواءهم وشهواتهم فالميدان الأول هو النفس فمن هزم أمام نفسه فهو العاجز البعيد عن النصر أمام عدوه.

أين أنت أيها المسلم من هذا الضياء؟ تبدأ نهارك بالاعتصام بالصوم والحياة في ظلاله ورحابه، وتحاول الأمارة بالسوء، أن تلقي في نفسك أنك محروم من الطعام والشراب، وعندها يضيق الصدر وتحس بألم الحرمان، وهنا يأتي الخاطر الطيب فيذكرك بأنك تصوم لله لا لنفسك، وأنك تستجيب لأمر من تحتاج إليه {يَا أَيٌّهَا النَّاسُ أَنتُم الفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الغَنِيٌّ الحَمِيدُ}(فاطر: 15).

{وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيُّ عَنِ العَالَمِينَ}(العنكبوت: 6).

وهنا تحس برحمة الله، ويسري بين جنبيك الرضا بالطاعة وتغمرك الفرحة، وتحس بسعادة وحلاوة الطاعة، وعندها تغلب النفس الأمارة بالسوء. وينتصر الخير في نفسك على الشر.

قد يلقاك في الطريق أو في عملك أحمق يتطاول عليك ويشتمك. وتهم بالانتصار لنفسك بالرد عليه. ولكنك سرعان ما تتذكر ما أنت فيه من عبادة خالصة لله، وتتذكر حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فإن سابك أحد أو جهل عليك، فقل إني صائم، إني صائم"، وهنا يكبح الصوم جماح الغضب فيك، فإذا بهذا المعتدي يتأثر ويتغير ويعود وكأنه صديق حميم وينسى ما كان.

إن أدب الصوم وخلق الصوم والتجرد لله، وقوله اللهم إني صائم إني صائم أوجدت منك شيئاً أخر أين أنت؟ وأين هو؟ أين منزلك من الدرجات العلى؟ من منزلته ولذلك قال وكيع في قوله -تعالى-: {كُلُوا وَاشرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسلَفتُم فِي الأيَّامِ الخَالِيَةِ}(الحاقة: 24) هي أيام الصوم إذا تركوا فيها الطعام والشراب, وفي قوله -تعالى-: {فَلاَ تَعلَمُ نَفسٌ مَّا أُخفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعيُنٍ, جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعمَلُونَ}(السجدة: 17) قالوا: كان عملهم الصيام.

وفي الحديث "إن الشيطان ليجري من ابن أدم مجرى الدم فضيقوا مجارية بالجوع" وفي التوجيه لأم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- يقول لها المصطفى -صلى الله عليه وسلم- "داومي قرع باب الجنة"، قالت بماذا قال لها: "بالجوع".

 

يا أخي:

تعال نصم، لتنصاع بكلياتنا لله، متحلين بآداب الصوم وأخلاق الصيام، تعال نصم، لتروح علينا الملائكة  الكرام ونفوز بالفوز والفلاح، تعال نصم حق الصيام حتى نفوز بالجائزة، تعال نصم حق الصيام، فنعطي لله ولأهلنا وجيراننا ما يجعل بالصائم أن يقدمه..

اللهم لك صمنا وعلى رزقك أفطرنا، وعليك توكلنا وبك أمنا ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر يا واسع الفضل، اغفر لنا.. الحمد لله الذي أعاننا فصمنا ورزقنا فأفطرنا..

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply