فتنة المعاصي وفشوا المنكرات وترك إنكارها


 بسم الله الرحمن الرحيم 

والمقصود هنا بالمعاصي والمنكرات: تلك المخالفات التي يقع فيها الناس من ترك للواجبات، أو فعل للمحرمات، إتباعاً للهوى والشهوات، أو هي مزيج من الشبهات والشهوات، يسوغ فيه المخالفات والتنازلات، ويمكن حصر الحديث عن هذه الفتنة فيما يلي:

1- فتنة انتشار الفساد وفشو المنكرات وترك إنكارها.

2- فتنة إنكارها بلا ضوابط شرعية، ودون مراعاة للمصالح والمفاسد.

أولاً: فتنة فشو المنكرات وانتشار الفساد وعدم إنكار ذلك:

ورد في كتاب الله –عزوجل- آيات عديدة، تحث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتحذر من خطر المعاصي وتركها بلا إنكار، فمن ذلك:

قوله - تعالى -: ((وَلتَكُن مِنكُم أُمَّةٌ يَدعُونَ إِلَى الخَيرِ وَيَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَيَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ)) [آل عمران: 104].

وقوله - تعالى -: ((فَلَولا كَانَ مِنَ القُرُونِ مِن قَبلِكُم أُولُو بَقِيَّةٍ, يَنهَونَ عَنِ الفَسَادِ فِي الأَرضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّن أَنجَينَا مِنهُم وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُترِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجرِمِينَ. وَمَا كَانَ رَبٌّكَ لِيُهلِكَ القُرَى بِظُلمٍ, وَأَهلُهَا مُصلِحُونَ)) [هود: 116- 117]

وقوله - تعالى -: ((فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَينَا الَّذِينَ يَنهَونَ عَنِ السٌّوءِ وَأَخَذنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ, بَئِيسٍ, بِمَا كَانُوا يَفسُقُونَ)) [الأعراف: 165].

وقوله - تعالى -: ((وَالمُؤمِنُونَ وَالمُؤمِنَاتُ بَعضُهُم أَولِيَاءُ بَعضٍ, يَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَيَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيرحمهم الله إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)) [التوبة: 71].

وأما الأحاديث فكثيرة ومتنوعة، من أشهرها:

* قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبهº وذلك أضعف الإيمان)) [1].

* وعن أبي بكر الصديق- رضي الله - تعالى عنه- أنَّهُ خطب على منبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: ((يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية ((يأيها الذين آمنوا عَلَيكُم أَنفُسَكُم لا يَضُرٌّكُم مَن ضَلَّ إِذَا اهتَدَيتُم)) وتضعونها في غير موضعها وإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده)) [2].

ولشيخ الإسلام- رحمه الله - تعالى- كلام نفيس على الآية الكريمة يقول فيه:

وإنما يتم الاهتداء إذا أطيع الله وأدي الواجب من الأمـر والنهي وغيرهما، ولكن في الآية فوائد عظيمة:

أحدها: أن لا يخاف المؤمن من الكفار والمنافقينº فإنهم لن يضروه إذا كان مهتدياً.

الثاني: أن لا يحزن عليهم ولا يجزع عليهمº فإن معاصيهم لا تضره إذا اهتدى، والحزن على ما لا يضر عبث، وهذان المعنيان مذكوران في قوله: ((وَاصبِر وَمَا صَبرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحزَن عَلَيهِم وَلا تَكُ فِي ضَيقٍ, مِمَّا يَمكُرُونَ)) [النحل: 127].

الثالث: أن لا يركن إليهم، ولا يمد عينه إلى ما أتوه من السلطان والمال والشهوات، كقوله: ((لا تَمُدَّنَّ عَينَيكَ إِلَى مَا مَتَّعنَا بِهِ أَزوَاجاً مِنهُم وَلا تَحزَن عَلَيهِم)) [الحجر: 88].

فنهاه عن الحزن عليهم والرغبة فيما عندهم في آية، ونهاه عن الحزن عليهم والرهبة منهم في آية، فإن الإنسان قد يتألم عليهم ومنهم، إما راغباً وإما راهباً.

الرابع: أن لا يتعدى على أهل المعاصي بزيادة على المشروع في بغضهم أو ذمهم، أو نهيهم أو هجرهم، أو عقوبتهمº بل يقال لمن اعتدى عليهم: عليك نفسك لا يضرك من ضل إذا اهتديت، كما قال: ((وَلا يَجرِمَنَّكُم شَنَآنُ قَومٍ,)) [المائدة: 2]الآية.

وقال: ((وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُم وَلا تَعتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبٌّ المُعتَدِينَ)) [البقرة: 190].

وقال: ((وَقَاتِلُوهُم حَتَّى لا تَكُونَ فِتنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوا فَلا عُدوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ)) [البقرة: 193].

فإن كثيراً من الآمرين والناهين قد يتعدى حدود الله إما بجهل وإمـا بظلم، وهذا بابٌ يجب التثبت فيه، وسواءً في ذلك الإنكار على الكفار والمنافقين أو الفاسقين أو العاصين.

الخامس: أن يقوم بالأمر والنهي على الوجه المشروع، من العلم والرفق، والصبر، وحسن القصد، وسلوك السبيل القصدº فإن ذلك داخل في قوله: ((عَلَيكُم أَنفُسَكُم)) وفي قوله ((إِذَا اهتَدَيتُم)) [المائدة: 105].

فهذه خمسة أوجه تستفاد من الآية لمن هو مأمورٌ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفيها المعنى الآخر، وهو إقبال المرء على مصلحة نفسه علماً وعملاً، وإعراضه عما لا يعنيه، كما قال صاحب الشريعة: ((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)) [3].

ولا سيما كثرة الفضول فيما ليس بالمرء إليه حاجة من أمر دين غيره ودنياه، لا سيما إن كان التكلم لحسد أو رئاسة) [4] ا. هـ.

وعن أبي موسى- رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إنه كان من قبلكم من بني إسرائيل إذا عمل فيهم العامل الخطيئة، فنهاه الناهي تعذيراً، فإذا كان من الغد جالسه وواكله وشاربه، كأنه لم يره على خطيئة بالأمس، فلما رأى الله - تعالى -ذلك منهم، ضرب قلوب بعضهم على بعض ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم {ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَكَانُوا يَعتَدُونَ} والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على أيدي المسيء، ولتأطرنه على الحق أطراً، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ويلعنكم كما لعنهم)) [5].

وعن عبد الله بن عمرو- رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إذا رأيت أمتي تهاب الظالم أن تقول له: أنت الظالمº فقد تودع منهم)) [6].

وعن زينب بنت جحش- رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل عليها فزعاً يقول: ((لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه- وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها- فقالت زينب بنت جحش: قلت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث)) [7].

وعن العرس بن عميرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى تعمل الخاصة بعمل تقدر العامة أن تغيره ولا تغيره، فذاك حين يأذن الله في هلاك العامة والخاصة)) [8].

أما عن مواقف السلف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتحذيرهم من تركه فكثيرة نقتبس منها ما يلي:

عن ابن أبي أو يس، عن أبيه: عن الوليد بن داود بن محمد بن عبادة ابن الصامت عن ابن عمه عبادة بن الوليد، قال: كان عبادة بن الصامت مع معاوية، فأذن يوماً، فقام خطيب يمدح معاوية، ويثني عليه، فقام عبادة بتراب في يده، فحشاه في فم الخطيب، فغضب معاوية، فقال له عبادة: إنك لم تكن معنا حين بايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالعقبة، على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا ومكسبنا، وأثرة علينا، وألا ننازع الأمر أهله، وأن نقوم بالحق حيث كنا، لا نخاف في الله لومة لائم، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إذا رأيتم المداحين، فاحثوا في أفواههم التراب)) [9].

عن شريك عمن أخبره: أن علياً- رضي الله عنه- قال: (لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن عليكم شراركم ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم) [10].

وعن عبد الملك بن الربيع قال: قال ابن مسعود- رضي الله عنه-: (إنها ستكون هنات وهناتº بحسب امرئ إذا رأى أمراً لا يستطيع له تغييراً أن يعلم الله أن قلبه له كاره) [11].

وعن خالد بن سعد مولى أبي مسعود قال: دخل أبو مسعود على حذيفة- رضي الله عنه- وهو مريض، فأسنده إليه فقال له أبو مسعود: أوصنا قال: (إن الضلال حق الضلالة، أن تعرف ما كنت تنكره، وتنكر ما كنت تعرفه، وإياك والتلون في دين الله) [12].

وعن طارق بن شهاب قال: جلد خالد بن الوليد رجلاً حداً، فلما كان من الغد جلد رجلاً آخر حداً، فقال رجل: هذه والله الفتنة، جلد أمس رجلاً في حد، وجلد اليوم رجلاً في حد، فقال خالد: (ليس هذه بفتنة، إنما الفتنة أن تكون في أرض يعمل فيها بالمعاصي، فتريد أن تخرج منها إلى أرض لا يعمل فيها بالمعاصي فلا تجدها) [13].

وعن عبد العزيز بن أبي بكرة: أن أبا بكرة تزوج امرأة من بني علاثة، وأنها هلكت، فحملها إلى المقابر، فحال إخوتها بينه وبين الصلاة عليها، فقال لهم: لا تفعلوا فإني أحق بالصلاة منكم، قالوا: صدق صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فصلى عليها، ثم إنه دخل القبر، فدفعوه دفعاً عنيفاً، فوقع فغشي عليه، فحمل إلى أهله، فصرخ عليه يومئذ عشرون من ابن وبنت له.

قال عبد العزيز: وأنا يومئذ من أصغرهم، فأفاق إفاقة فقال لهم: لا تصرخوا علي، فو الله مـا مـن نفس تخرج أحب إلي من نفس أبي بكرة، ففزع القوم، فقالوا له: لما يا أبانا؟ فقال: (إني أخشى أن أدرك زماناً لا أستطيع أن آمر بمعروف ولا أنهى عن منكر، ولا خير يومئذ) [14].

وعن الأوزاعي: حد ثني أبو كثير، عن أبيه، قال: أتيت أبا ذر وهو جالس عند الجمرة الوسطى، وقد اجتمع الناس عليه يستفتونه، فأتاه رجل، فوقف عليه، فقال: ألم ينهك أمير المؤمنين عن الفتيا؟ فرفع رأسه، ثم قال: أرقيب أنت علي! لو وضعتم الصمصامة على هذه- وأشار بيده إلى قفاه- ثم ظننت أني أنفذ كلمة سمعتها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل أن تجيزوا علي لأنفذتها [15].

وهذا غيض من فيض من مواقف السلف- رحمهم الله - تعالى- في إنكار المنكر وقول كلمة الحق، فيا ليتنا حين نتكلم عن صبر السلف على ولاة الجور وتحذ يرهم من الخروج عليهم- وهذا حق ومن أصول السلف- ليتنا إذا تكلمنا عن هذا الجانب الحق في مواقف السلف أضفنا إليه مواقفهم الصلبة في قول الحق، وإنكار المنكر، لا يخافون في الله لومة لائم، وهذا من الوفاء لهم، وحجب هذه الجوانب المشرقة عن الناس فيها عقوق للسلف وتضليل للناس.

 

----------------------------------------

[1] مسلم 6911. ك. الإيمان (باب كون النهي عن المنكر من الإيمان).

[2] سنن أبي داود 17314 ك الملاحم. باب الأمر والنهي.

[3] الترمذي في الزهد (2317) (2318) وابن ماجة في الفتن (3976).

[4] مجموع الفتاوى 14 / 480- 482.

[5] أورده الهيثمي في مجمع الزوائد7/531 وعزاه إلى الطبراني وقال: رجاله رجال الصحيح.

[6] أورده الهيثمي في مجمع الزوائد7/531 وعزاه إلى أحمد والطبراني والبزار وقال: أحد إسنادي البزار رجاله رجال الصحيح.

[7] متفق عليه: البخاري- كتاب أحاديث الأنبياء، (7) باب: قصة يأجوج ومأجوج (ح 3346) [فتح (6/ 0 44)]، ومسلم- كتاب الفتن (ح. 288) (4/ 57 22).

[8] أورده الهيثمي في مجمع الزوائد7/528وقال: رواه الطبراني ورجاله ثقات.

[9] سير أعلام النبلاء712. وحديث (إذا رأيتم المداحين... ) رواه مسلم (3002).

[10] المطالب العالية 3/210.

[11] المطالب العالية 3/211.

[12] المصدر السابق 3/ 211.

[13] كنز العمال 11 / 235.

[14] مجمع الزوائد 7/ 550 وقال الهيثمي: رواه الطبراني ورجاله ثقات.

[15] سير أعلام النبلاء2/ 64.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply