نزهة النظر في أحكام السفر


بسم الله الرحمن الرحيم 

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:

فقد تحدثنا في العدد الماضي عن أحكام السفر ورخصه، وعن صلاة القصر الرباعية وعن الجمع بين الصلاتين، وفي هذا العدد نتحدث عن حكم الفطر في رمضان أثناء السفر، ومدة المسح على الخفين...فنقول - وبالله - تعالى -التوفيق:

ثالثًا: الفطر في رمضان

قال - تعالى -: فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون<< [البقرة: الآية184].

وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر فرأى رجلا قد اجتمع الناس عليه وقد ظلل عليه فقال: ما له؟ قالوا: رجل صائم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ليس من البر أن تصوموا في السفر». [رواه مسلم (1115)]، وزاد في رواية أخرى: «عليكم برخصة الله الذي رخص لكم»

رابعا: مدة المسح على الخفين عن شريح بن هانئ قال: أتيت عائشة أسألها عن المسح على الخفين؟ فقالت: عليك بابن أبي طالب فسله فإنه كان يسافر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فسألناه فقال: جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر ويوما وليلة للمقيم. [رواه مسلم276]

خامسا: عدم وجوب صلاة الجمعة على المسافر لأن من شروط وجوب الجمعة الإقامة، والمسافر ليس مقيما ولم يكن من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يصلي الجمعة في سفره، قال ابن عمر - رضي الله عنهما -: ليس على المسافر جمعة. [كنز العمال برقم 20173]

وقال ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: (ولا صلى بهم في أسفاره صلاة جمعة يخطب ثم يصلي ركعتين، بل كان يصلي يوم الجمعة في السفر ركعتين كما يصلي في سائر الأيام وكذلك لما صلى بهم الظهر والعصر بعرفة صلى ركعتين كصلاته في سائر الأيام، ولم ينقل أحد أنه جهر بالقراءة يوم الجمعة في السفر لا بعرفة ولا بغيرها ولا أنه خطب بغير عرفة يوم الجمعة في السفر، فعلم أن الصواب ما عليه سلف الأمة وجماهيرها من الأئمة الأربعة وغيرهم من أن المسافر لا يصلي جمعة). اهـ [الفتاوى (17/480)]

فإن صلى المسافر الجمعة مع الإمام فإنه لا يجمع معها العصر لأن العصر إنما تجمع مع الظهر لا الجمعة، والجمعة صلاة مستقلة لها أحكام خاصة فهي صلاة جهرية والظهر سرية، وهي ركعتان والظهر أربع، وقبلها خطبتان والظهر لا خطبة قبلها، ووقتها يبدأ قبل الزوال بخلاف الظهر فلا يدخل وقتها إلا بعد الزوال وغير ذلك من الفروق. [انظر الشرح الممتع 4/582]. أما إن صلى مع الإمام ونواها ظهرا مقصورة جاز له جمع العصر معها.

سادسا: التنفل على الراحلة يجوز للمسافر أن يصلي قيام الليل والوتر وصلاة الضحى وغيرها من النوافل على الراحلة وهي تسير به أينما اتجهت لحديث سعيد بن يسار قال: كنت أسير مع عبد الله بن عمر بطريق مكة فقال سعيد: فلما خشيت الصبح نزلت فأوترت ثم لحقته فقال عبد الله بن عمر: أين كنت؟ فقلت: خشيت الصبح فنزلت فأوترت. فقال عبد الله: أليس في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوة حسنة؟ فقلت: بلى والله، قال: فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يوتر على البعير. [رواه البخاري (954)، ومسلم (700)]

وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي في السفر على راحلته حيث توجهت به يومئ إيماء صلاة الليل إلا الفرائض ويوتر على راحلته. [رواه البخاري (955)، ومسلم (700)]

سابعا: ترك السنن الرواتب عدا سنة الفجر عن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب قال: صحبت ابن عمر في طريق مكة قال: فصلى لنا الظهر ركعتين ثم أقبل وأقبلنا معه حتى جاء رحله وجلس وجلسنا معه فحانت منه التفاتة نحو حيث صلى فرأى ناسا قياما فقال: ما يصنع هؤلاء؟ قلت: يسبحون. قال: لو كنت مسبحا لأتممت صلاتي يا ابن أخي، إني صحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السفر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت أبا بكر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت عمر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، ثم صحبت عثمان فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وقد قال الله: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة[الأحزاب: 21]. [رواه مسلم (689)]

وهذه الرخص الفعلية والتركية ينبغي للمسافر المحافظة عليها لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «عليكم برخصة الله التي رخص لكم». [رواه مسلم (1115) من حديث جابر رضي الله عنه]

وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- : «إن الله يحب أن تؤتى رُخصه كما يكره أن تؤتى معصيته». [أخرجه أحمد برقم 5866، وصححه الأرناؤوط وابن حبان برقم 354، وصححه الأرناؤوط وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 2767]

فإتيان الرخص الشرعية عبادة يغفل عنها كثير من الناس فيشقون على أنفسهم بتركها ظانين أن الأفضل تركها، بينما الأفضل والأكمل والأكثر أجرًا هو اتباع سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - سفرًا وحضرًا عزيمة ورخصة، وهذه الرخص ذكر العلماء شروطًا ثلاثة لجواز الترخص بها في السفر وهي:

الأول: أن يكون السفر مسافة قصر وهي أربعة برد. [انظر اختلاف العلماء للمروزي 45، والاستذكار 2/232، والمغني 2/46، وفتح الباري 2/566]. وتعادل تسعة وثمانين كيلو مترًا على رأي كثير من العلماء لما رواه عطاء بن أبي رباح أن عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس - رضي الله عنهم - كانا يصليان ركعتين ركعتين ويفطران في أربعة برد فما فوق ذلك. [رواه البيهقي 3/137]

وقد جاء عن ابن عمر ما يخالف ذلك، فقد قصر فيما دون هذه المسافة، وللعلماء أقوال كثيرة في مسافة القصر، قال ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: (ولم يحد النبي - صلى الله عليه وسلم - قط السفر بمسافة لا بريد ولا غير بريد ولا حدها بزمان). اهـ [الفتاوى (24/127)]،

وفي صحيح مسلم (691) عن يحيى بن يزيد الهنائي قال: سألت أنس بن مالك عن قصر الصلاة؟ فقال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج مسيرةَ ثلاثةِ أميالٍ, أو ثلاثةِ فراسخَ - شُعبَةُ الشَّاكٌّ - صلى ركعتينِ.

الثاني: مفارقة محل الإقامة: يظن كثير من المسافرين. أن المسافر لا يحل له الترخص حتى يقطع مسافة القصر، وهذا خلاف الصحيح، بل للمسافر أن يترخص بتلك الرخص إذا تجاوز البنيان لحديث أنس - رضي الله عنه - قال: صليت الظهر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة أربعًا والعصر بذي الحليفة ركعتين. [رواه البخاري (1039].

وعن علي بن ربيعة الأسدي قال: خرجنا مع علي - رضي الله عنه - ونحن ننظر إلى الكوفة فصلى ركعتين ثم رجع فصلى ركعتين وهو ينظر إلى القرية فقلنا له: ألا تصلي أربعًا؟ قال: حتى ندخلها. [رواه البخاري 1/369 تعليقًا، ووصله عبد الرزاق (4321)، قال الحافظ: إسناده صحيح. اهـ. تغليق التعليق 2/421]

الثالث: أن لا يكون السفر سفر معصية عند الجمهور:

فهذه الرخص مشروعة لمن سفره سفر طاعة أو سفرًا مباح، أما العاصي بسفره كقاطع الطريق فلا يترخص بها لأن الرخص لا تُناط بالمعاصي ومن ثم لا يستبيح العاصي بسفره شيئًا من رخص السفر. [المجموع شرح المهذب 4/223، الأشباه والنظائر للسيوطي 95]، وفي الإذن للعاصي بالترخص إعانة له على معصيته والعاصي لا يعان.

والحمد لله رب العالمين.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply