من خلال ما سبق في بيان مدلولي السياسة الشرعية، يتضح أنَّ أحكامها تقوم على الأدلة الشرعية النصيّة والاجتهادية والأصول الاستنباطيةº ولذلك فإنَّ من أهم أدلتها أدلّة أصولهاº إذ هي في حقيقة الأمر تنظيرٌ من تلك الأدلَّة تُرَاعَى فيه مقاصد الشريعة، وتطبيقٌ تُرَاعَى فيه الظروف والأحوال والأعرافº يتأكَّد ذلك بالنظر فيما ساقه العلماء من أدلَّة السياسة الشرعية بمدلولها الخاص وهو الذي سيركّز عليه في هذه الحلقات بشكل أظهر إن شاء الله - تعالى -، وهي أدلَّة كثيرة جدّاًº ويمكن إجمال ما استُدِل به في مناهج على النحو الآتي:
النهج الأول: الاستدلال بشواهد السياسة الشرعيَّة من القرآن العظيم، والسنَّة النبويَّة، وسنَّة الخلفاء الراشدين، وما جرى عليه عمل العلماء من أهل الفقه والدِّينº وهذه من الكثرة بمكانº لذا يكتفى بذكر بعضها:
فمن شواهد السياسة الشرعية من القرآن العظيم:
1- ما حكى الله - تعالى - في سورة الكهف، من أعمال الخضر التي اعترض عليه بسببها موسى - عليهما الصلاة والسلام - لِمَا ظهر له من مخالفتها للشرعº فلما نبَّأه بتأويلها وبين له ما قصده فيها من السياسة المبنيّة على المصلحة سلَّم له.
أهم أدلتها أدلّة أصولهاº إذ هي في حقيقة الأمر تنظيرٌ من تلك الأدلَّة تُرَاعَى فيه مقاصد الشريعة، وتطبيقٌ تُرَاعَى فيه الظروف والأحوال والأعرافº يتأكَّد ذلك بالنظر فيما ساقه العلماء من أدلَّة السياسة الشرعية بمدلولها الخاص وهو الذي سيركّز عليه في هذه الحلقات بشكل أظهر إن شاء الله - تعالى -
قال أبو العباس ابن تيمية - رحمه الله -: \" … قصة الخضر مع موسى لم تكن مخالفة لشرع الله وأمره، … بل ما فعله الخضر هو مأمور به في الشرع بشرط أن يعلم من مصلحته ما علمه الخضرº فإنَّه لم يفعل محرما مطلقا، ولكن خرق السفينة وقتل الغلام وأقام الجدارº فإن إتلاف بعض المال لصلاح أكثره هو أمر مشروع دائما، وكذلك قتل الإنسان الصائل لحفظ دين غيره أمر مشروع … فهذه القضية تدل على أنَّه يكون من الأمور ما ظاهره فسادº فيحرِّمه من لم يعرف الحكمة التي لأجلها فعل، وهو مباح في الشرع باطناً وظاهراً لمن علم ما فيه من الحكمة التي توجب حسنه وإباحته \"1
2- قول الله - عز وجل - في سورة يوسف: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن أَهلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ, فَصَدَقَت وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ (26) وَإِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ, فَكَذَبَت وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ, قَالَ إِنَّهُ مِن كَيدِكُنَّ إِنَّ كَيدَكُنَّ عَظِيمٌ}º ففي هذه الآيات دلالة على صحة الاعتبار بالقرائن، ودلالة الحال، في القضايا السياسية الاستنباطيةº حيث ذكر الله - عز وجل - شهادة هذا الشاهد، أي الشخص الذي شهد ليوسف - صلى الله عليه وسلم - بذكره شاهد الحال، الذي هو قدّ القميص من دبرº لأنَّ فيه تقديرا: شهد شاهد فقال أو ضمنت الشهادة معنى القولº وذلك أنَّ العادة جرت في القميص أنَّه إذا جذب من جهة (الخلف مثلاً) تمزق من تلك الجهة، ولا يجذب القميص من خلف لابسه إلا إذا كان مدبراًº فكون القميص مشقوقاً من هذه الجهة دليل واضح على أنّه هارب عنها، وهي تنوشه من خلفه، ولم ينكر عليه ولم يَعِبهº بل حكى ذلك مقرِّراً له.
3- قــول الله - عز وجل - في سورة الأنبياء: {وَدَاوُودَ وَسُلَيمَانَ إِذ يَحكُمَانِ فِي الحَرثِ إِذ نَفَشَت فِيهِ غَنَمُ القَومِ وَكُنَّا لِحُكمِهِم شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمنَاهَا سُلَيمَانَ وَكُلّاً آتَينَا حُكماً وَعِلماً وَسَخَّرنَا مَعَ دَاوُودَ الجِبَالَ يُسَبِّحنَ وَالطَّيرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79)}º فهـذان الحكمان صحيحان في الظاهرº غير أنَّ الله - تعالى -أثنـى على الحكم المبني على السياسة الشرعية، والفائدة الزائدةº حيث قال الله - عز وجل -: {فَفَهَّمنَاهَا سُلَيمَانَ}.
4- قول الله - سبحانه وتعالى - في سورة التوبة: {وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَت عَلَيهِمُ الأَرضُ بِمَا رَحُبَت وَضَاقَت عَلَيهِم أَنفُسُهُم وَظَنٌّوا أَن لاَّ مَلجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيهِم لِيَتُوبُوا إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)}º فإنَّ عقاب الثلاثة بالهجر على تخلفهم عن الغزو مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في تبوك، ومنعهم من قربان نسائهم وهو منع من أمور مباحة لهم في الأصل، مع الاكتفاء بقبول اعتذار غيرهم من المتخلفين، هو من مقتضيات السياسة الشرعية.
قال أبو العباس: فهذه القضية تدل على أنَّه يكون من الأمور ما ظاهره فسادº فيحرِّمه من لم يعرف الحكمة التي لأجلها فعل، وهو مباح في الشرع باطناً وظاهراً لمن علم ما فيه من الحكمة التي توجب حسنه وإباحته.
قال ابن العربي: \" فيه دليل على أنَّ للإمام أن يُعاقب المذنب بتحريم كلامه على النَّاس أدباً له … وعلى تحريم أهله عليه \".
ومن شواهد السياسة الشرعية في السنَّة النبوية:
1- قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعائشة - رضي الله عنها -: ((لَولا حَدَاثَةُ عَهدِ قَومِكِ بِالكُفرِ لَنَقَضتُ الكَعبَةَ وَلَجَعَلتُهَا عَلَى أَسَاسِ إِبرَاهِيمَ فَإِنَّ قُرَيشًا حِينَ بَنَتِ البَيتَ استَقصَرَت وَلَجَعَلتُ لَهَا خَلفًا)) متفق عليهº فتأسيس البيت على قواعد إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - أمر مطلوب، لكن تركه النبي - صلى الله عليه وسلم -º خوفاً من مفسدة أعظم من مصلحتهº وهذا من أحكام السياسة الشرعية.
2- تولي خالد بن الوليد - رضي الله عنه - إمرة المسلمين في غزوة مؤتة في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم- -، مع أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يُؤَمِّره فيها، بل أثنى عليه، مع ذكره تأمٌّرَه من غير تأمير منه، والحديث رواه البخاريº وإنَّما مستند خالد بن الوليد - رضي الله عنه - ومن معه من الصحب الكرام: اقتضاء السياسة الشرعية المبنية على المصلحة الشرعية لذلكº إذ كانت السياسة الشرعية تقتضي وجود قيادة للجيش، وليس ثَمَّ نص يُرجع إليه.
3- وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لَقَد هَمَمتُ أَن آمُرَ بِالصَّلاةِ فَتُقَامَ ثُمَّ أُخَالِفَ إِلَى مَنَازِلِ قَومٍ, لا يَشهَدُونَ الصَّلاةَ فَأُحَرِّقَ عَلَيهِم)) متفق عليهº وهذا من السياسة الشرعية.
4- قوله - صلى الله عليه وسلم - لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لما استأذنه في قتل عبد الله بن أبي رأس المنافقين: ((دَعهُ لا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقتُلُ أَصحَابَهُ)) متفق عليهº حيث مُنِعَ من قتل المنافقين في ابتداء الإسلامº لأنَّ مصلحة التأليف أعظم من مصلحة القتل.
ومن شواهد السياسة الشرعية من سنَّة الخلفاء الراشدين:
1- جمع أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - للمصحف رواه البخاريº لمَّا كثر القتل في القراء.
2- أمر عمر - رضي الله عنه - بجلد شارب الخمر ثمانين جلدة، وكان شارب الخمر يجلد في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأبي بكر - رضي الله عنه -، وصدراً من خلافة عمر - رضي الله عنه -، أربعين. متفق عليهº فهذا من السياسة الشرعية. قال النووي - مُبَيِّناً حجة الشافعي ومن وافقه في أنَّ حدَّ الخمر أربعين، وما زاد تعزير -: \" وأمَّا زيادة عمر، فهي تعزيرات، والتعزير إلى رأي الإمام: إن شاء فعله وإن شاء تركهº بحسب المصلحة في فعله وتركهº فرآه عمر ففعله، ولو يره النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أبو بكر ولا علي فتركوه.
3- تحريق عثمان - رضي الله عنه - للمصاحف المخالفة للمصحف الذي جمع النَّاس عليهº فهذا عمل بمقتضى السياسة الشرعية.
4- تحريق علي - رضي الله عنه - للزنادقةº فهذا من السياسة الشرعية. قال ابن القيم: \" ومن ذلك [السياسة الشرعية] تحريق علي - رضي الله عنه - الزنادقة والرّافضة، وهو يعلم سنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قتل الكافرº ولكن لمَّا رأى أمراً عظيماً، جعل عقوبته من أعظم العقوباتº ليزجر النَّاس عن مثله \".
وشواهد ذلك كثيرة جدّاً. هذا مجمل ما استدلَّ به العلماء على حجيَّة العمل بالسياسة الشرعية، وهذه بعض شواهده، من القرآن العظيم، ومن السنَّة النبوية، وسنَّة الخلفاء الراشدينº وغيرها من الأدلَّة والشواهد كثيرº وما عُرِض من تطبيقاتٍ,، كافٍ, في تأكيد حجيَّة العمل بها، وأنَّها من مستندات الفقه الشرعي، التي يلتزمها أولوا الأمر العادلونº والأمر في ذلك بيِّنٌ و لله الحمد والمنَّة.
النهج الثاني: الاستدلال بـ(أدلَّة أصول السياسة، ومستنداتها) وهذه ستأتي مفردة إن شاء الله - تعالى -في موضوع: أسس السياسة الشرعية.
النهج الثالث: الاستدلال بما ورد من النصوص في إثبات قاعدة (رفع الحرج)º التي لها تعلق بجميع أصول السياسة الشرعية، وسيُكتَفي بما يُنثر من أدلتها في الاستدلال لأسس السياسة الشرعية، إذ إنَّها لا تنفك عنها.
النهج الرابع: الاستدلال بسنَّة الله - عز وجل - في التشريع منذ بدء الخلقº من حيث مراعاتها في اختلاف الأحكام والشرائع، واختلافَ الأزمان والأحوالº فظهر أنَّها سنَّة الله – تعالى- في سائر الأممº وأنَّ شرع من قبلنا شرع لنا، ما لم يرد شرعنا بخلافهº فيكون في ذلك تنبيه إلى اختلاف الأحكام عند اختلاف الأحوال في زمانناº وأنَّها من قواعد الشرع، وأصول القواعدº وليست بدعاً عما جاء به الشرع.
---------------------------------------------
1- وهناك توضيح لهذا الحكم، سيأتي إن شاء الله - تعالى -في الحديث عن حجية المصلحة المرسلة ضمن أسس السياسة الشرعية.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد