رمضان والصفوة


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

كلما أقبل شهر رمضان أقبلت الخواطر في محاسبة النفس ومراجعتها، والرغبة والأماني في التزود الإيماني وشحن القلب وتزكية النفس وتحليتها، وبالأخص في جانب تقوية العلاقة بالله، وليس هذا بمستغرب فالكل يشهد.

ومع التصحر الإيماني الذي أصاب ويصيب النفوس بسبب المتغيرات والمستجدات على كل الأصعدة، أصبحت النفس العاقلة تشعر بل وتتألم لجوعتها الإيمانية في وقت مجاعة يكاد يصيب الكثير إن لم يكن الجميع، لكنها لا تدري كيف تكسر حدة هذه الجوعة ولو بجرعة يسيرة رغم أن الزاد بين يديها. عجيب..! نفس تحمل الزاد بكل صنوفه، ولا تستطيع أن تسد رمقها؟ آهٍ, وآهٍ, من هذا الزمن وبُنياته! فإذا كان الأطباء يشكون الداء فمن سيصف الدواء؟ سبحان الله! هم يعرفون الدواء ويحملونه، بل ويصرفونه، لكن الكثير منهم لا يستطيع تناوله.لست أتحدث عن الصفوة ممن أعجزه الكسل، أو أصابه الخوف والهلع، أو أغرقه الطمع والجشع، بل عمن يسعى وينفع، ويُعطي ويرفع، ينفع الناس بكلماته، ويرفع هممهم بعظاته، فأشغلوه وأشغلته همته وحب الخير للناس، أتحدث عن الصفوة ودُلاَّل الخير، والنجوم التي يهتدي بها الناس حيث لا يكاد بال أحدهم يهدأ، أو يستجم، وإن استجم الجسد فالفكر والعقل كالرحى لا يستقر.فهؤلاء فرحهم برمضان كفرح من قال: «اللهم أنت عبدي وأنا ربك» أخطأ من شدة الفرح فقد وجدوا ضالتهم برمضان حيث لذة العبادة، ولحظات التدبر والترتيل للقرآن، وروحانية الصيام والقيام، وروعة الخلوة والاعتكاف، و.. و.. و، لكن هيهات فهم دُلاَّل للخير ومحركو القلوب، وماذا يفعل الواحد منهم وقلبه يعتلج ويحترق في حب الخير وتوجيه الناس، ويعلم أن رمضان فرصة فهو شهر التوبة والمحاسبة، وشهر إقبال القلوب وصقلها..، لكنه أيضًا يعلم أن نفسه كغيرها من النفوس بل أشد حاجة للتوبة، والمحاسبة، والتزود بالوقود، فإن فاتت هذه المحطة فقد لا يجد غيرها بسهولة، فهو في صحراء مترامية الأطراف شديدة الغليان والذوبان.

إنها دوامة يصعب على كل أحد -وإن كان من الصفوة- أن يضبط توازنه في إعصار كهذا، خاصة عندما يشتكي القلب تفرقه وشعثه، وبُعده وقسوته فكلنا يروح ويغدو في أعمال وأشغال، تطول معها الأحلام والآمال.

فتنبه أخي، وقف، واحذر! فالنفس تحتاج لوقفات وخلوات، لزيادة رصيد الإيمان وسكب العبرات، خاصة في زمن الفتن والشهوات، الذي ننسى فيه كثيراً حاجة النفس والذات لصفاء القلب، وبقدر ما في القلب من النور سيكون قوة إشعاعه لأن تفاضل الأعمال بتفاضل ما في القلوب من حقيقة الإيمان ولذتـه، ولــذا قــال أبو بكر المزني: «ما فاق أبــو بكــر -رضي الله عنه- أصحاب رسول الله بصوم ولا صلاة، ولكن بشيء كان في قلبه»(1).

ومن تأمل في هذه المرحلة حال الصفوة -وهم ليسوا كغيرهـم- وجد ضعفاً وفتوراً وكسلاً في جوانب العبادة والسلوك، ليس إهمالاً بل انشغالاً. وأعلم أن الكثير منهم يشكو ويتألم ويتحسر لمثل هذا، لكنها الشواغل الدعوية، والدخول مع الناس وللناس، ونسيان النفس وحاجاتها فإن كان فلا يجب أن يكون في رمضان.

إنه صراع المشاعر في نفوس الصفوة الأخيار عند إقبال رمضان، ولذا كان -صلى الله عليه وسلم- يخص رمضان من العبادة بما لا يخص غيره به من الشهور، ويؤثر عن إمام دار الهجرة مالك بن أنـس -رحمه الله- أنه كان يترك حِلَق التدريس في رمضان، ويتفرغ للعبادة وقراءة القرآن، هكذا هم الصفوة. فتعالوا يا نجوم الزمان! لانتهاز الفرص، واستثمار هذا الموسم لتقوية العلاقة بالله، وتصفية القلب مما علق عليه من الرَّين فرمضان جُنة المحاربين، ورياضة الأبرار والمقربين، يعيد للقلب والجوارح صحتها التي سلبتها أيدي الشواغل والصوارف حتى وإن كانت خيراً فالعاقل يعلم يقيناً أن أول ما عليه النجاة بنفسه، وأنه إن لم يأخذ فلن يعطي، وبحسب كمية الوقود يكون طول المسير، وأعلم أن الأمر صعب، وأن التسديد والمقاربة أصعب، لكني أهمس في أذنك همسة محب: إن لم تستطع أن تملأ خزان الوقود أو أن تخفف من تلك الشواغل المباركـة كـل رمضـان، فلا أقل من استثمار عَشره الأخير، وخاصة بالاعتكـاف، فلا بد من خلوة للعاقل يخلو فيها بنفسه للذكر والفكر والمحاسبة لتزكية النفس. يقول عمر -رضي الله عنه-: «خذوا حظكم من العزلة»(2). وقال مسروق: «إن المرء لَحقيق أن يكون له مجالس يخلو فيها، فيذكر فيها ذنوبه، فيستغفر منها»(3).

 فالخلوة بين الفينة والفينة مع النفس ضرورة جدّاً لكي يتفرغ القلب وليس لها مثيل في سُنَّة الاعتكاف، وقد اعتكف خير الصفوة نبي الله -صلى الله عليه وسلم- رغم كثرة شغله، واعتكف أصحابه معه وبعده فهم يعلمون أن في القلب شعثاً لا يلمٌّهُ إلا الإقبـال على الله، وجمع كلِّيته عليه -تعالى- بحيـث يصيــر ذكره -سبحانه- وحبـه، والإقبال عليه زادَه بل وحلاوتَه. فتنـبـه أخي لهذه المعانـي! واستـعن بـالله ولا تعجز، واحذر يا دليل الخيـر التسويف، ومداخل إبليس! فهو حاذق في مداخله على الصفوة. والله المستعان.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

(1)             جامع العلوم والحكم (1/225).

(2)             رواه وكيع في الزهد، وابن المبارك أيضًا في الزهد وغيرهما.

(3)             رواه أحمد في الزهد، وابن أبي شيبة في المصنف وغيرهما.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply