شهر رمضان... كيف نصومه... ونصونه؟


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

1.    مقدمة:

ما يكادُ يُذكَرُ لفظُ (الصِّيام)  إلا ذهب بنا الخيالُ إلى معاني الكفِّ عن الشرابِ والإمساك عن الطعام]1[  ولعلَّ سببَ ذلك غلبةُ الاستعمال للألفاظ اللغويّة في معانٍ, شرعيّةٍ, مخصوصةٍ, كما غلب استعمال الصلاة وهي الدعاء في الصلاة المعهودة ذات الركوع والسجود، وغاب معنى النمو في الزكاة، ومعنى القصد في الحج حتى صار طلبُ المعاني اللغويّة في بعض الأحيانِ يحتاج إلى تأمٌّلٍ, ذِهنيٍّ, وبحثٍ, لغويٍّ,!

 

2.    علاقة اللغويّات بالشرعيّات:

لا شكَّ أنّ طالبَ العلمِ يُدركُ العلاقةَ بين المعاني الشرعيّة والأصولِ اللٌّغويّة التي نُقِلَت منها وذلك لأنه لشدَّة عنايتِهِ بالمصطلحاتِ الشرعيّةِ ومعرفتِهِ بمعاني النصوصِ ـ قد اعتاد ذهنُهُ على حَملِ الألفاظِ على معانيها الشرعيّة، وإن كان يَلحَظ بذوقِهِ ومعرفتِهِ بعضَ إشاراتها اللغويّة!

وهذا ما يُعَبِّرُ عنه الأصوليٌّون -والفقهاءُ في بعضِ فُرُوعِهِم- بقولِهم: "عند إطلاق لفظ الطَّهارة في لفظ الشارع أو كلام الفقهاء ينصرف إلى الموضوع الشرعيِّ دون اللّغويِّ. وكذلك كل ما له موضوعٌ شرعيُّ ولغويُّ إنما ينصرف المطلقُ منه إلى الموضوعِ الشرعيِّ: كالوضوء والصلاة والصوم والزكاة والحج ونحوه لأنّ الظاهر من صاحب الشرع التكلٌّم بموضوعاته"[2[.

 

3.    المعاني اللغويّة للصوم:

ذكر اللغويٌّون للصَّوم نحواً من عشرةِ معانٍ,، تتنوَّع في متعلَّقاتِها، وتتفق في مُشتقّاتِها! كما قال العلامة ابن فارس: "الصادُ والواوُ والميمُ: أصلٌ يدلٌّ على إمساكٍ, ورُكودٍ, في مكان"[3]،

وقال ابنُ عبد البر: "معناه الإمساكُ عما كان يصنعه الإنسانُ من حركةٍ, أو كلامٍ, أو أكلٍ, أو شربٍ, أو مشيٍ, ونحو ذلك من سائر الحركات"[4]،

وقال النووي -رحمه الله-: "الصيام هو في اللغة الإمساك ويستعمل في كل إمساك"[5]،

وقال الكاساني: "هو الإمساك المطلق وهو الإمساك عن أي شيء كان"[6[.

1.    فمن ذلك: الإمساكُ عن الكلام، كما قالوا في قوله -تعالى- حاكياً عن مريم -عليها السلام-: (إنِّي نذرتُ للرحمن صوماً)[7]، فقد ذكر المفسِّرون في أحد وَجهَي التفسير[8] أنه الصمتُ والإمساكُ عن الكلام، قال القرطبي: "الذي تتابعت به الأخبارُ عن أهل الحديثِ ورُواةِ اللغةِ أنَّ الصومَ هو الصمت لأنَّ الصومَ إمساكٌ، والصمتُ إمساكٌ عن الكلام"[9]، وعزاه العلامة الشنقيطي إلى "قول الجمهور"[10[.

2.    ركودُ الرِّيح إذ "يقال: صامت الريح: إذا أمسكت عن الهبوب"[11[.

3.    استواء الشمسِ انتصافَ النهار كأنها ركدت عند تدويمها، وكذلك يقال: (صام النهارُ) قال امرؤ القيس:

فدعها[12] وسَلِّ الهَمَّ عنك بجَسرَةٍ,[13] ذَمولٍ, إذا صام النهارُ وهجَّرا![14[.

وفسّره ابن عبد البر بقوله: "معناه إذا أمسكت الشمس عن الجري، واستوت في كبد السماء"[15]، وقال الجوهري: "صام النهارُ صوماً: إذا قام قائم الظهيرة واعتدل"[16]، وقال السرخسي: "صام النهار: إذا وقفت الشمس ساعةَ الزوال"[17]، وقال الزبيدي: "صام النهارُ إذا اعتدل"[18[.

4.    وُقوف الفرس عن الجري أو الأكل، قال الفيروزبادي: "مصامُ الفرس ومصامته: موقفُه"[19]، واستشهد ابنُ فارس على ذلك بقول الشمّاخ:

"إذا ما استاف منها مصامةً"[20[.

وقال النووي: "يقال: صام: إذا سكت، وصامت الخيل: وقفت"[21]، وقال ابن فارس: "يُقال للقائم: صائم، قال النابغة:

خيلٌ صيامٌ وخيلٌ غيرُ صائمةٍ, *** تحت العجاجِ وخيلٌ تعلك اللٌّجُما![22[.

قال الكاساني في بدائع الصنائع: "أي ممسكة عن العلف وغير ممسكة"[23[.

قال الزبيدي: "أنشد الجوهري[24] لامريء القيس:

كأنَّ الثٌّرَيَّا عُلِّقت من مصامِها *** بأمراسِ كتّانٍ, على صُمِّ جَندَلِ"[25[.

5.    دوام الماء: قال الزمخشري: "صام الماءُ وقام ودام بمعنىً، وماءٌ صائمٌ وقائمٌ ودائمٌ"[26[.

6.    سكون الإنسان عند الموت: كما قال الفيروزبادي: "صام مَنِيَّتَه: ذاقَها"[27[.

7.    الأرض اليابسة: قال الفيروزبادي: "أرض صَوامٌ كسَحاب: يابسةٌ لا ماء فيها"[28[.

8.    ذَرق النَّعام: قال الفيروزبادي: "صام النعامُ: رمى بذَرقِهِ وهو صومُهُ"[29] وبيَّن الزمخشري ذلك بقوله: "صامت النعامة والدجاجة وذلك لوِقفتِها عند ذلك، أو لسكونِها بخروج الأذى"[30[.

9.    وقوف البَكرَة: [31] قال الزبيدي: "بَكرَةٌ صائمةٌ: إذا قامت ولم تدر، وأنشد الجوهري:

شَرٌّ الدِّلاءِ الوَلغَةُ الـمُلازِمَه والبَكَراتُ شَرٌّهنَّ الصائمَه![32[.

وقد فسَّرها الجوهري وابن منظور بأنها "التي لا تدور"[33[.

10.                       الكَفٌّ عن المعاشرة بين النساء الرجال: قال الزمخشري: "شاخ فصامت عنه النساء، قال أبو النجم: *فصِرنَ عنِّي بعد فِطرٍ, صُيَّما!"[34[.

11.                       شجرة الصوم: قال الجوهري: "الصومُ شجرٌ في لغة هُذَيل"[35]، وقال الفيروزبادي:

"صام الرجل: تظلَّل بالصوم: لشجرةٍ, كريهة المنظر"[36[.

 

4.    الصومُ في الشرع:

لقد عرّف الموفق بن قدامة الصوم بأنه "في الشرع عبارةٌ عن الإمساكِ عن أشياء مخصوصة في وقتٍ, مخصوصٍ"[37]، وعرَّفه النووي بأنه "في الشرع إمساكٌ مخصوصٌ عن شيءٍ, مخصوصٍ, في زمنٍ, مخصوصٍ, من شخصٍ, مخصوصٍ"[38[.

وقال شهاب الدين القرافي: "هو في الشرع: الإمساكُ عن شَهوَتَي الفم والفرج أو ما يقوم مقامهما مخالفةً للهوى في طاعة المولى في جميع أجزاء النهار بنيّةٍ, قبل الفجر، أو معه إن أمكن فيما عدا زمن الحيض والنفاس وأيام الأعياد"[39]، واختاره الصاوي في (بلغة السالك لأقرب المسالك)[40[.

وقال الكاساني في بدائع الصنائع: "هو الإمساك عن أشياء مخصوصة: وهي الأكل والشرب والجماع بشرائط مخصوصة"[41[.

 

5.    التعريف المختار:

لعلَّ الإمام الصنعاني مِمَّن عرّف الصيامَ تعريفاً جامعاً حيث وُفِّقَ إلى مُراعاة الناحية التربويّة في التعريف فقد ذكر أنَّ الصيامَ "إمساكٌ مخصوصٌ: وهو الإمساك عن الأكل والشرب والجماعِ ـ وغيرِهما مما ورد به الشرع ـ في النهار على الوجه المشروع ويتبع ذلك الإمساك عن اللغو والرفث وغيرهما من الكلام المحرَّم والمكروه لورود الأحاديث بالنهي عنها في الصوم زيادةً على غيره في وقتٍ, مخصوصٍ, بشروطٍ, مخصوصةٍ"[42[.

 

6.    العلاقة بين التعريفين:

لعلَّ من الظهور بمكانٍ, تقرير أنّ الصوم في اللغة والشرع يتفقان في عموم الإمساك، ويزيد الصوم في الشرع أشياءَ مخصوصةً وشرائطَ مخصوصةً كما تقدَّم فالعلاقة بين المعنيَين إذن عُمُومٌ وخُصُوصٌ مُطلَقٌ هذا بالنسبة إلى أصلِ الاشتقاق، وأما المعاني اللغوية الخاصة: كالإمساك عن الكلام أو الجري أو الأكل فعلاقتها بالصوم الشرعيِّ عمومٌ وخصوصٌ وَجهيُّ لأنّ المعنى اللٌّغويَّ الخاصَّ ينفرد كذلك بوجهٍ, عن الصوم الشرعيِّ.

وقد عبَّر أبو بكر السرخسي -رحمه الله- عن الاشتراك بين المعنى اللغويِّ والشرعيِّ بقولِهِ: "الصومُ في اللغة: هو الإمساكُ... وفي الشريعة: عبارةٌ عن إمساكٍ, مخصوصٍ,: وهو الكفٌّ عن قضاءِ الشهوتين: شهوة البطن وشهوة الفرج، من شخصٍ, مخصوصٍ,: وهو أن يكون مسلماً طاهراً من الحيض والنفاس، في وقتٍ, مخصوصٍ,: وهو ما بعد طلوع الفجر إلى وقت غروب الشمس، بصفة مخصوصة: وهو أن يكون على قصد التقرب فالاسم الشرعيٌّ فيه معنى اللغة"[43[.

 

7.    أدلّة وجوب صيام رمضان:

لا يخفى على طالبِ العلم أنَّ الدليلَ على وجوبِ صومِ شهر رمضان قولُهُ -تعالى-: (يا أيّها الذين آمنوا كُتَِب عليكم الصِّيامُ كما كُتِب على الذين من قبلِكم لعلّكم تتقون أيّاماً معدوداتٍ, فمن كان منكم مريضاً أو على سفرٍ, فعِدَّةٌ من أيّامٍ, أُخَر وعلى الذين يُطيقونه فِديةٌ طعامُ مسكين فمن تطوَّعَ خيراً فهو خيرٌ له وأن تصوموا خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون شهرُ رمضانَ الذي أُنزِل فيه القرآنُ هُدى للناسِ وبيِّناتٍ, من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليَصُمهُ)[44]، والدليلُ من السنة حديث ابنِ عمر في الصحيحين: (بُنِيَ الإسلامُ على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله، وإقام الصلاةِ، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت). وقد ترجم البخاري: (باب وجوب صوم رمضان، وقول الله -تعالى-: (يا أيّها الذين آمنوا كُتَِب عليكم الصِّيامُ كما كُتِب على الذين من قبلِكم لعلّكم تتقون)، وأورد في الباب حديث الأعرابي: (أخبرنِي ما فرَضَ الله عليَّ من الصيام؟ قال: شهر رمضان إلا أن تطَّوَّعَ!) وحديث عائشة: (أنَّ قريشاً كانت تصوم يومَ عاشوراء في الجاهليّة ثم أمر رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- بصيامِهِ حتى فُرِضَ رمضان... )[45[.

وأما الإجماع فمنعقدٌ على وجوبه، كما قال ابن قدامة: "أجمع المسلمون على وجوب صيام شهر رمضان"[46]، وقال النووي: "كَونُ صومِ رمضانَ ركناً وفرضاً مجمعٌ عليه، ودلائل الكتاب والسنة والإجماع متظاهرةٌ عليه"[47[.

 

8.    متى فُرِض صومُ رمضان؟

فُرِضَ صومُ رمضانَ في السنة الثانية من الهجرة فصام النبي -صلى الله عليه وسلم- تسعا. قال النووي -رحمه الله-: "صام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رمضانَ تسع سنين لأنه فرض في شعبان في السنة الثانية من الهجرة، وتوفى النبي -صلى الله عليه وسلم- في شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة"[48]، وقد نقل جماعاتٌ من الفقهاء الإجماعَ على ذلك مثل ابن مفلح في المبدع[49] والمرداوي في الإنصاف[50] وابن ضويان في منار السبيل[51] ومنصور بن يونس البهوتي في الروض المربع[52[.

 

9.    مدرسةُ الصومِ:

أخي المسلم لا شكَّ أنَّ الصيامَ مدرسةٌ تربويّةٌ عظيمةٌ -كما قرَّرَ ابنُ عابدين- فهو "من أعظم أركان الدين، وأوثق قوانين الشرع المتين به قهر النفس الأمارة بالسوء، وأنه مُرَكَّبٌ من أعمال القلب، ومن المنع عن المآكل والمشارب والمناكح عامَّةَ يومِهِ فهو أجمل الخصال"[53[.

 

10.                      الصَّومُ صِيانةٌ:

ليس الصيام -لعمري- تركاً للطعام والشراب فحسب ولكنّه هجرٌ لشهواتِ النفس في ذاتِ الله، وتركٌ لكلِّ قبيحٍ, ابتغاءَ مرضاةِ الله فهو حفظٌ للجوارحِ من النظر الحرام، والسمع الحرام، والقول الحرام. ولله درٌّ القحطاني، حيث قال:

حَصِّن صيامَكَ بالسكوتِ عن الخَنا أطبِق على عينيك بالأجفانِ!

لا تمشِ ذا وجهَينِ ما بين الوَرَى شرٌّ البريَّةِ مَن لَهُ وَجهَانِ!

لا تَحسُـدَن أَحَداً عَلَى نَعمائهِ إنّ الحسودَ لِحُكمِ ربِّك شانِ!

لا تَسعَ بين الصاحبَينِ نميمةً فلأجلِها يتباغضُ الخلانِ![54[.

ورحم الله ابنَ الجوزي حيث عبّر أحسنَ التعبيرِ عن اللّذَّةِ التي يجدها الإنسان الذي يأتي الطاعات وينتهي عن المحرَّمات دِيانةً وصيانةً فإنَّ حلاوةِ الإيمان أعظمُ عند أصحاب الأنفسِ الزكِيَّاتِ مما يجده السفهاءُ الذين حُرِمُوا لذَّةَ الكفِّ عن الشهوات! فقد قال -رحمه الله-: "باللهِ عليكَ.. تَذَوَّق حلاوةَ الكفِّ عن المنهِيِّ فإنها شجرةٌ تُثمِرُ عِزَّ الدنيا وشرفَ الآخرة ومتى اشتدَّ عطشُك إلى ما تهوى فابسط أناملَ الرجاء إلى من عنده الرِّيٌّ الكامل، وقُل: قد عِيلَ صَبرُ الطبعِ في سِنِيِّهِ العِجافِ فاجعَل ليَ العامَ الذي فيه أُغاثُ وفيه أعصِر!"[55[.

وما أحسنَ ما قيل:

لا تَجعَلَن رَمَضَانَ شَهرَ فُكاهَةٍ, *** كَيمَا تُقضَّى بالقَبِيحِ فُنونُهُ!

واعلَم بأنَّكَ لَن تَفُوزَ بأجرِهِ وتصُومَهُ *** حَتَّى تَكُونَ تَصُونهُ![56[.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply