مآثر شهر القرآن


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الخطبة الأولى

أمّا بعد: فاتّقوا الله عبادَ الله، واعلموا أنّ الاستمساكَ بالتّقوى خير مطيّة ومنجاة، وبلوغُها لدى البرَرَة أفضل أمنية مرتجاة، هي زادُ الرّوح وقوت القلوب، وبها يستجلَب المرغوب ويؤمَن المرهوب وتستدفَع الخطوب، وهي خير ما يبلّغ لرضا علاّم الغيوب.

 

أيّها المسلمون، في غمرةِ المادّيات وامتزاج الشّبهات بالشّهوات تُجِمّ النفوس في رحلتها إلى الله والدار الآخرة، ويعتَوِرها الفتور، وتتخلّلها الرتَابة والقصور، ولحكمةٍ, بالغةٍ, خصَّ الباري جلّت حكمته هذه الأمّة بمواسمَ للطاعات وأزمنةٍ, للقربات وفرَص للخير سانحات، مَن اهتبلها وأمضى فيها راحلةَ جسدِه نال الفوزَ والسّعادة، بَله مرضاةَ ربّه وزيادَة، ومن تغافل عنها ولَهَا تصرَّم حبل يقينِه ووَهى، والنّاس في ذلك بين تقيٍّ, مرحوم وشقيٍّ, محروم.

 

إخوةَ الإيمان، ومن أجلِّ هذه الأزمنةِ المباركة ما منّ الله - جل وعلا - عليكم ببلوغِه وموافاتِه وأنتم ترفُلون فِي ثيابٍ, من الخيرِ ضافِية وحياةٍ, آمنة صافية، إنّه شهر القرآن والفُرقان، شهرُ الصيام والقيام، (شَهرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ القُرآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ, مِن الهُدَى وَالفُرقَانِ)[البقرة: 185].

 

ها أنتم أولاءِ تتضرّعون أريجَ أيّامه العاطرة وتُحيون لياليَه الزٌّهرَ الغامرة، شهرٌ مبارك أغرّ، هو روضة بالخيرِ عناء، ومورِد بالبرّ والهدى معطاء، ومشعَل بالمكرُمات والهبات لألاء. في رمضان قلوبٌ أنِست بجنب الرّحيم الغفّار، وألسنةٌ لهجت بالتّوبة والدعاء والحمد والاستغفار، نفوسٌ سعِدت بالتّلاوة والتسبيح وتألّقت بالتهجٌّد والتراويح، دأبُها الخضوع والخشوع، ومقلٌ أسهدَها التّفريط فأرسلت أحرَّ الدّموع، كلٌّ ذلك طاعةً لله وابتغاءً لمراضيه، ولَكَم يُغبَط الموفَّقون على تذوّقهم حلاوةَ الطّاعة في رمضانَ وغيره، وتحليقِهم بجناحَي الرّغبة والرّهبة في كلّ أوقاتهم وحالاتهم، ولن يقدرَ قدرَ هذا الشّهر المبارك ويدرِك أسرارَه إلا من أنار الله بصيرتَه وأيقظَ حسَّه وزكّى نفسه، فيا لله هل يستقلّ بوصفِ هذا الضيفِ الكريم المبارك أفصحُ لسان أو يترجِم عن أفضالِه وخيراته أساطينُ البيان؟! كلاّ.

 

معاشرَ المسلمين، إنّ شهر رمضان ليمثِّل جامعةً شمّاء للخير والبرّ ومدرسةً فيحاء للحِلم والصّبر ومنارةً قعسَاء للإيمانِ والتّقوى، وسُلّمًا لتآلف الأمّة وتعاطفِها وتماسكِها واتّحادها، يزكّي الأرواحَ، ويحدوها إلى بلادِ الأفراح، ويسُلّ سخائمَ النّفوس وأمراض القلوب، ويربّي الإراداتِ الواهنةَ على الحَزم والتّصميم، وذلك بالتحرّر من الشّهوات والانعتاق من الاسترسال في الرّغبات والملذّات، وتلك هي الحكمة العظيمةُ من تذييل آيةِ الصوم بالومضة الرائعة من وَمضَات الأسلوبِ القرآنيّ البديع في قولِه - سبحانه -: (لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ [البقرة: 183]، أي أنّ ثمرةَ جوع البطون وظمَأ الهواجر هي التّقوى، وكفى بها عُروةً وثقى.

 

أيّها الإخوة الصّائمون، وممّا ينِدّ فيه الفهمُ لدى بعض الصّائمين هداهم الله ـ وهو يخالِف حكمةَ الصّوم ويجافِي أصلَ مشروعيّته ـ قصورُ فهمِهم لهذه الشعيرةِ العظيمة وحصرُها في الإمساكِ عن الطّعام والشراب والمفطِّرات الحسّيّة، مسترسِلين في اقتراف الآثام، سائمِين جوارحَهم في مراتِع الغيبة والنّميمة والبغيِ والبهتان والشائعاتِ والأراجيف والذنوب والعِصيان، ومن كان هذا شأنَه في أوقات أحوجَ ما تكون النفوس فيها إلى التّزكية الروحيّة والتصفية النفسيّة والتزوّد إلى الدّار الآخرة فليس لله حاجةٌ في أن يدعَ طعامه وشرابه، كما صحّ بذلك الخير عن سيّد البشر - عليه الصلاة والسلام - عند البخاريّ وغيره[1].

 

معاشرَ الصائمين، ها هي العشرُ الأُوَل من رمضان قد تصرَّمت، وعشره الثانيةُ عشرُ المغفرة قد ازدَلفت لساحتِنا وتشوّفت، وفئامٌ من أبناءِ الأمّة لا يزالون في غفلتِهم سادرين، وعن الخيراتِ والقرُبات محجِمين غيرَ مبادرين، بل إنّ الشهرَ ـ يا عبادَ الله ـ أوشك أن ينتصِف، وكثير من الناس من نفسِه لم ينتصِف.

 

إنّ النفس لتأسى وتلتاع حين تَرى أقوامًا لا سيّما من الشّباب والفتياتِ يقطِّعون النهارَ بالنّوم ملءَ الأجفان والأحداق، ويبدِّدون اللّيالي بذرعِ الطّرقات والأسواق، مطلقين الأبصارَ والأسماعَ فيما حرّم الله. عجبًا لهؤلاء، أينَ آثار الصومُ الظاهرة والباطنة؟! أين دور الرّقابة الأسريّة والرعاية الأبوية؟! أما آن للقلوبِ الغافلة أن تلينَ في شهر القرآن ولزواجر القرآن؟! أَلَم يَأنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخشَعَ قُلُوبُهُم لِذِكرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِن الحَقِّ [الحديد: 16]، وَيكأنَّ غُثائية الأمّةِ قد استمرَؤوا مخازيَ بعض الفضائيّات وسعارها وصغارها في شهر البطولات والعفّةِ والعزّة والكرامات، فلم يبالوا بذلك باله، ويحَهم إن لم يتوبوا إلى الله ويؤوبوا إلى فقهِ حِكَم الصّيام ولذّة المناجاة في التهجّد والقيام، لمُتبَّرٌ ما هم فيه من فكرٍ, منهزِم وسلوكٍ, منخرم، والله المستعان.

 

فيا بغاةَ الخير هَلمّوا وأقبِلوا، ويا بغاةَ الشرّ كفّوا وأقصِروا، لا بدَّ وقد تفاقمتِ الشرور جرّاء العولمةِ والانفتاح مِن العناية بالثّوابت والتمسّك بالأصول وإعزازِ جانبِ الحِسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو طوق النّجاة وصمام الأمان لما يرهَق المجتمعاتِ من قَتَرة وأحزان.

 

أمّةَ القرآن، ومِن مآثر هذا الشّهر الغفيرة ذلكم الارتباط الوثيقُ بين رمضانَ والقرآنº حيث انبثق نور القرآن في ليلةٍ, من ليالي هذا الشهر الكريم، رفيعةِ الذّكر عظيمة القدر، هي خيرٌ من ألف شهر. في هذه الليلة السَّنية اتّصل نور السماء بالأرض وأُنزِل القرآن المعجزةُ الخالدة على قلبِ محمّد، قَد جَاءَكُم مِن اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ [المائدة: 15]، لَقَد أَنزَلنَا إِلَيكُم كِتَابًا فِيهِ ذِكرُكُم [الأنبياء: 10] أي: فخرُكم وشرفكم، كيف لا وهو الملاذ عند الفِتن والمنقِذ من المصائب والمِحَن؟! لقد أحيَى الله بهذا القرآن مواتَ الأمم، وأنقذَ عقائدَها وأخلاقَها من مهاوي العَدم، حرَّر العقل الإنسانيَّ من قيود الأوهام، وأطلقه باحثًا بنورِ العلمِ في الأكوان، سَنُرِيهِم آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِم حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُم أَنَّهُ الحَقٌّ [فصلت: 53].

 

فلا عَجَب ـ عبادَ الله ـ أن تألّقت أرقى مدنيّة عرفتها الإنسانيّة وأروع حضارةٍ, عرفها التأريخ، حضارةِ العدل والفضائل والصّدق والسلامِ وأعلى المكارم، والتي لن تتحقّق لأرقى الأمم حضارةً وثقافة إلاّ إذا اقتبست من أصوله وسارت على شعاعِ هديه ونوره. ولئن جال الغيور بالنّظر في أحوالِ المسلمين اليومَ وما لفّها من التنازع والاختلافِ والتردِّي في سراديب الذّلَّة والضّعف والمهانة لعلم يقينًا أنّ مردَّ ذلك كلّه إلى هجر القرآن ونبذِ العمل بأحكامه وآدابه والتّجافي عن التّحاكمِ والردِّ إليه.

 

فاتّقوا الله يا أمّة القرآن، وتواردوا على كتاب ربّكم شعوبًا ودوَلاً، شبابًا وشِيبًا، رجالاً ونساءً، علماءَ وعامّة، تلاوة وتدبّرًا، تعلّمًا وتفقٌّهًا، عملاً وتخلّقًا، ملتمِسين فيه الشّفاءَ لأدوائكم والكبحَ لأهوائكم، واقفين على مواطنِ الهداية التي اهتدى وسعِد بها أسلافكم، ويومئِذ تستعيدون مجدَكم الغابرَ التّليد وعزَّكم المشرِق العتيد، وتستردّون بإذن الله قدسَكم الفقيدة وأراضيَكم السليبة، خرّج الإمام مسلم في صحيحه أنّ رسولَ الله قال: ((إنّ الله يرفع بهذا الكتابِ أقوامًا ويضَع به آخرين))[2].

 

ولهذا ضربَ السلف الصّالح - رحمهم الله - أروعَ النماذج في العناية بالقرآن في شهرِ القرآن وختمِه كثيرًا فيه، يقول الإمام الزهري - رحمه الله -: \"إذا دخَل رمضان إنّما هو شهر تلاوةِ القرآن وإطعامِ الطعام\"[3]، ولمّا دخل رمضان ترك الإمام مالكٌ - رحمه الله - مجالسَ الحديث والفقه، وأقبل على القرآن. ألا ما أحوجَ الخلفَ للسّير على منهج السلف ليتحقّق لهم صلاح الحال والمآل.

 

أمّة الصيامِ والقيام، ونعطِف بكم ـ يا رعاكم الله ـ إلى التّذكير بيومٍ, أغرَّ من أيّام هذه الأمّة الخوالِد، تحقّق فيه نصرٌ مؤزَّر وفتح مبين، غيّر وجهَ التأريخ وغدا غرّةً في جبين أمّة الإسلام وبطولاتها، إنّه يوم الفرقان الذي فرّق الله فيه بين الحقّ والباطل، يومَ التقى الجمعان: جمع التّوحيد والإيمان وجمع الكفر والأوثان، في السابعَ عشَر من رمضان، فانتصَر المسلمون في غزوة بدرٍ, الكبرى وهم قلّة، وَلَقَد نَصَرَكُم اللَّهُ بِبَدرٍ, وَأَنتُم أَذِلَّةٌ [آل عمران: 123] على جيش الكفر العرَمرَم، فكان في هذه الغزوةِ التأريخية من مواقعَ للعِبَر ومكامِن للعظات للمدّكر ما يجِب أن نستلهمَه ونستبصرَه، سيّما وقد أحدقت بنا الفتنُ وادلهمّت وتسوّرتنا المِحَن وعمَّت، ونجَمت لوثاتٌ فكريَّة مارقةٌ عن المِلّة والجمَاعة، وما تداعَى على أمَّتنا من شُذّاذ الآفاقِ وضِئضِئيهم في خرقٍ, سافر للعهود والمواثيق، يترجِم عن ذلك بجلاء صلفُهم السّافر على ثرى فلسطينَ المجاهِدة تقتيلاً وتشريدًا، وهم بذلك يقدِّمون للعالَم بأسره رسالةً مسطّرة بأحرفٍ, سوداء كالِحة ومِدادٍ, قاتِمة أنّهم أربابُ الإرهابِ الدّوليَ بلا منازع وأعداءُ السّلام العالميّ، وما الأوضاعُ في بلاد الرّافدَين بأحسنَ حالاً من أختِها في أولى القبلتين ومسرَى سيّد الثقلين، وهكذا في سلاسلِ جراحات أمّتنا المنكوءَة في بعضِ البلاد الأخرى المنكوبَة.

 

أمّة الإسلام، مِن مواقفِ التأمّل والاعتبار في أُولى مواقفِ العزّة والانتصار أنّ شهر رمضان شهرُ الجدّ والمصابرة والفتوحاتِ والمثابَرة، وقوّةُ الإيمان وصحّة المعتَقد فوقَ العَدَد والعُدد، كَم مِن فِئَةٍ, قَلِيلَةٍ, غَلَبَت فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذنِ اللَّهِ [البقرة: 249]. ومِن ذلك أنّ نصرَ الله لا يُستجلَب إلاّ بنصرةِ دينِه، إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُركُم وَيُثَبِّت أَقدَامَكُم [محمد: 7].

 

أمّة الإسلام، ومَع ما قرّرته الشّريعة من حُرمة الشّهر الكريم شهرِ الوحيِ والتنزيل وشهرِ المغفرة والرّحمات فلا تزال صدورٌ غلت مراجلُها بالبغضاءِ والحسَد وعقولٌ انحرفت عن سواءِ الدّين والرَّشَد قد ركِبت متنَ الغلوّ والجهل، تحاوِل زعزعةَ أمن هذه الديارِ الآمنة، وتنشر الفسادَ والإجرام في رُباها الحالِمة، فانتهكت حرمةَ الزمان والمكان، وامتشقَت أيديها أعمالَ الإرهاب والعنفِ والتّفجير وأفعالَ الإجرام والإفسادِ والتدمير، فكان سعيُهم في وبال وشأنهم في سِفال بمَنّ الله وفضلِه، حيث ردّ كيدَهم وأحبط مكرَهم، وكان لهم بواسِل الأرصَاد بالمِرصاد.

 

ألا فليعلَم كلٌّ غِرٍّ, مأفون سلَك مسالكَ الإجرام ـ لا سيّما في الشهر الكريم والبلدِ الحرام الذي يأمَن فيه كلٌّ شيء من الطّير والحيوانُ والشجر والنبات والجماد، فكيف بالمسلم؟! ـ أنّ اللهَ - سبحانه - فاضحُه لا محالة، وحافظٌ هذه الدّيار المباركة من كيد الكائدين وحِقدِ المفسِدين الحاقدين المعتدين، وَمَن يُرِد فِيهِ بِإِلحَادٍ, بِظُلمٍ, نُذِقهُ مِن عَذَابٍ, أَلِيمٍ, [الحج: 25].

 

وهيهات أن يكونَ إصلاحٌ مرتَجى بإثارةِ الشّغب والفوضى وسلوكِ مسالك العنفِ وحمل السّلاح وزعزعة الأمنِ والانتحار بأخَرَة، نسأل الله حسنَ الخاتمة، لا سيّما في البلدِ الحرام والزّمن الكريم الحرام، فرُحماك ربَّنا رحماك، واللهمّ سلِّم سلّم، ونعوذ بالله من الرّدَى بعد الهُدى، ومن تفطّن لآثار تلك النابِتة النّشاز استشعرَ أهمّيّة العنايةِ بالجيل وتربيّة النشءِ على منهَج الوسطيّة والاعتدال، وتلك مسؤوليّةٌ عظيمة مهمّة، مشترَكَة بين المسجدِ والأسرة والمدرسةِ والجامعةِ ووسائلِ الإعلام، ليؤدّي كلُّ دورَه التربويَّ في المجتمع صلاحًا وإصلاحًا، والله المسؤول أن ينصرَ دينَه ويعليَ كلمتَه، ويحفظنا والمسلمين من مضلاّت الفتن ما ظهر منها وما بطن، إنّه خير مسؤول وأكرم مأمول.

 

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه كان للأوّابين غفورًا.

 

----------------------------------------

[1] أخرجه البخاري في الصوم (1903) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

[2] أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (817) من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -.

[3] أخرجه ابن عبد البر في التمهيد (6/110-111).

 

الخطبة الثانية

 الحمد لله يسَّر مَن أعطى واتّقى لليُسرى، ومن بَخل واستغنى للعُسرى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، أوجب الزكاةَ لإغاثةِ المحتاجِ والملهوف، ودفعًا للنّوائب والصّروف، وأشهد أنّ نبيّنا محمّدًا عبد الله ورسوله، أجودُ الناس بالنّدى والمعروف، وعلى آله وصحبه الباذلين ممّا ملكت أيديهم كلَّ الصنوف، وسلّم تسليمًا كثيرًا.

 

أمّا بعد: فاتقوا الله أيّها المسلمون.

واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ من صام حقًّا وقام لله صِدقًا رقَّ قلبه ولانَ طبعُه وحلّقت في مدارَات الطّهر روحه وأُرهِفت أحاسيسُه وجاشَت بالبَذل نفسُه وفاضَت بالعطاء كفّه، فاغتنموا ـ وفقكم الله ـ هذا الشهرَ الكريم للاستجابةِ لثالثِ أركانِ الدّين ألا وهو الزّكاة، فإنّما هي قرينةُ الصلاة في كتابِ الله، وهي في المجتمَع ـ لعَمرو الحقّ ـ مواساة وتراحمٌ وتلاحم ونماء، لا جبايةٌ وإعناتٌ وعنَاء، خُذ مِن أَموَالِهِم صَدَقَةً تُطَهِّرُهُم وَتُزَكِّيهِم بِهَا [التوبة: 103].

 

ألا فجُودوا ـ أيّها الكرَماء النبلاء ـ ممّا أفاض الله عليكم، وابسطوا الأياديَ بالنّوال والعطاء، لتبدّدوا بذلك همومَ المَدينين وغمومَ المعسِرين وعَوَز المحتاجين وخصاصَةَ المكروبين، ولتفوزوا بأغلى المِنَن مرضاةِ ربِّ العالمين، وقد وعَد - سبحانه - المنفِقين بالخلفِ الجزيل، فقال عزّ من قائل: وَمَا أَنفَقتُم مِن شَيءٍ, فَهُوَ يُخلِفُهُ وَهُوَ خَيرُ الرَّازِقِينَ [سبأ: 39].

 

يذكَّر بذلك ـ أيّها الأحبّة في الله ـ في الوقتِ الذي اشتدّت فيه الحملاتُ الضّارية على أمّتنا، وشُوِّهت فيه الأعمال الخيريّة والإغاثية، ممّا لا ينبغي أن يفتَّ في الأعضاد ولا يثبّطَ الهِمَم والعزائم، ولكن ليَكن ذلك تحتَ مِضلّة مأمونَة وجهاتٍ, موثوقة.

 

وإنّ لكم في التّنافس في الخيرِ والتسابقِ إليه أسوةً حسنة في نبيّكم حيث كان أجودَ الناس، وكان أجودَ ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسُه القرآن، فلرسول الله حين يلقاه جبريلُ أجودُ بالخير من الرّيح المرسلة.

 

بارك الله لكم في أموالِكم، وبسط لكم في أرزاقكم، وأخلف عليكم خيرًا، ووقى أمَّتنا مضِلاّت الفِتن والغوائل والشّرور والقلاقل، إنّه جواد كريم.

 

ألا وصلّوا وسلّموا ـ رحمكم الله ـ على نبيّكم محمّد سيِّدِ الأنام، خيرِ من صلّى وصام وأفضلِ من تهجّد لله وقام، كما أمركم بذلك المولى الملكُ العلاّم، فقال - تعالى -قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلٌّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلٌّوا عَلَيهِ وَسَلِّمُوا تَسلِيمًا [الأحزاب: 56].

 

اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّد الأولين والآخرين وخاتم النبيّين وأشرف المرسلين نبيّنا محمد بن عبد الله، وعلى آله الطيّبين الطاهرين وصحابتِه الغرّ الميامين والتابعين ومن تبِعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنّا معهم برحمتِك يا أرحم الراحمين.

 

اللهمّ أعزّ الإسلامَ والمسلمين، وأذلّ الشرك والمشركين، ودمّر أعداء الدين...

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply