أمة الفرص الضائعة!


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

ينتهي شهر رمضان ويحتفل المسلمون في أنحاء الأرض بعيد الفطر المبارك، ولا يشعر المرء إلا بذلك الشجن الذي ينتشر في أوصال الروح وقد أصابها كثير من بلاء الدنيا، ونزداد يقيناً بأن الصبر على المكاره عبادة ترفع الإنسان مكاناً علياً، وتدرأ عنه اليأس، وتمده بطاقة من أمل كبير..

بيد أن الذي نعتاده اليوم شيء فوق احتمال البشر، وأننا هذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس أصبحنا كلأً مباحاً لنهم الناس وشهواتهم.

وقد يكون من اللائق أن نصف الحقيقة كما هي دون أن نزينها أو نصنع وهما يحول بيننا وبين فهم واقعنا المؤسف الذي لا يقبل حلاً أو مخرجاً إلا بالمكاشفة والمصارحة، وشجاعة نقد الذات، وتخليصها من ضروب الخيالات والأوهام.

فلقد مر علينا شهر رمضان الكريم شأنه في ذلك كالذي مر منذ عام.. آمال وأحلام كبار، وموقفنا واحد لم يتبدل، فالأمة العربية والإسلامية مستهدفة، واستراتيجية أعدائها واضحة، فليس لهذه الأمة أن تتقدم بل ليس لها أن تخرج من حالة التخلف والضعف بل يجب أن تبقي في هوان متصل، ومشكلات معقدة تمر عليها الليالي فتزيدها تعقيداً، ليس لهذه الأمة أن تستيقظ من سباتها الثقيل، فهو أكبر ضمان لتفوق أعدائها ويسر سيطرتهم عليها.

وفي كل عام نعيد الحديث حول رمضان وأنه فرصة عظيمة لاجتماع الأمة حول ركن من أركان دينها تمتد فائدته إلى أبعد من مجرد عبادة، فهناك من الأبعاد الروحية والمادية ما يجعل من شهر الصوم آية حقيقية لخلاص امة العرب والمسلمين من مصائبها، والنهوض من تلك الكبوة الشديدة، ونتصور أن في مطلع الهلال أملاً يراودنا في استعادة بعض مكانتنا الضائعة، فمن ذا الذي يتخيل أن هذه الأمة التي أفاضت علي الدنيا ديناً وعلماً، خلقاً وعملاً تضرب في أدغال اليأس، وتتراجع بهذه الصورة المحزنة؟ من ذا يتصور أن الأمة التي وحدها الدين، وجمعتها اللغة الواحدة، وضمها الموقع الجغرافي المتعانق في اتساق عجيب، المتنوع في مناخه وفي أرضه أن يأتي عليها أيام كهذه أسود من الليل البهيم؟

من ذا ينبئنا بخبر أن يصبح حال أمة خلقت لتحيا منارة وهداية للعالمين، قد وهبها الله من الثروات الطبيعية ما يجعلها في خير دائم لا ينفد، أن يصبح حالها كذلك.. شتات وضعف وانفصال لم يكن بهذا الشكل يوماً ما؟

ننظر فنري صوراً قد حسنها المغرضون، وليست هذه الحقيقة.. أبداً، إنما الأمر أشد خطراً، وأعمق جرحاً من هذا، شتان بين المظهر والمخبر.

***

نعم هو الهدى الذي جمع القلوب، ووحد النفوس الشاردة، ولكن هيهات أن نكون أهلاً لهذه الغاية النبيلة إلا إذا أعدنا قراءة الواقع المتردي وانتقاد الأخطاء ولوم النفس على ما صرنا إليه من حال الفرقة وشتات الجهد فكيف لأمة لها في كل أرض موضع يجمع الروح والجسد، وتسري في كل دم من أعراق الشعوب لا يكفها عن ذلك مانع أو صاد أو دافع، كيف لها وفي كل بقعة من البطحاء أذان يتردد، وقرآن يتلى، وجبين ساجد؟

إنها المتناقضات التي تدلل على وجود خلل دفين قد استشرى فيها ودب في عزماتها الوهن، فهل كان الزمن الذي حمل عطر الأولين وآثارهم المطبوعة في الضمير قد أقام هذه الحقائق من جديد مع مطلع فجر كل يوم وإمساك الصائمين عن الشهوات روحاً وجسداً.

هل تمكنت الحكمة البالغة، وتدفق العطف، وانتشرت الرحمة في ربوع المسلمين، وعم بينهم فعل الخيرات؟!

إني لأعجب وقد اقترن شهر الصوم بأهم وأكبر فضيلة لضمان الاستقرار الاجتماعي والأمان وسلام النفوس، وهي عبارة أخرى تعدت كل الحواجز الطبقية، وجعلت من أمة العرب والمسلمين أئمة في فكر التكافل ومبادئه، ورواداً في إقامة مجتمع سليم من أمراض الحقد والضغينة والسرقة والفساد، إن الزكاة والصدقات التي لو وزعت بين فقراء ومحتاجي العرب والمسلمين ما بقي منهم فقير أو محتاج إلى يوم القيامة، ولأصبح هذا المجتمع وقد تعافي من أمراضه العضال، كيف..؟

***

إني أعجب بل أكاد أنفطر حزناً على هذه الفرص الضائعة من أيدي المسلمين، فما لأغنيائنا وقد صاروا أكاسرة وقياصرة وملوكاً.

ما لأغنيائنا وقد أعمتهم تلال الذهب والفضة، وأموال تنفق في غير سبيل الخير وفي غير رضا الله، فلا يظن أحد منهم بأن ما يفعلون بخاف على جماهير الناس، وأن ما يلقون به لهم هو الفتات الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، بل هو شيء أدنى من أن يقيم أمة تتصدع وينخر فيها الفساد، ويعمل في أرجائها الفقر عمله، والجهل غدره؟

لقد كان رمضان فرصة سانحة، صحيح أنها تتكرر كل عام مرة، إنما النفس الأمارة بالسوء، وبطانة الشر، وملذات الحياة ولهوها، وعبث المغيبين يجعل من رمضان دائماً فرصة ضائعة لا يمكن أن تدرك أبداً.

لقد جاء محمد - صلى الله عليه وسلم - بحديث لو وعاه الواعون ما وصل حال الأمة الإسلامية والعربية إلى ما آلت إليه! \'ما نقص مال من صدقة\'.

وحث القرآن الكريم في مواضع كثيرة على هذه الصفقة الرابحة، وضرب مثلاً للذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كحبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة، وفوق ذلك يضاعف الله لمن يشاء.

هذه أمة الخير.. فما لأبنائها وقد وقفوا اليوم يبعثرون ثرواتهم، ويبددون ملكهم في هراء ولهو وضلال بعيد؟

أمة تحتل أجزاء منها وهم ما يزالون يغطون في نوم ثقيل؟

أمة تحتاج إلى مصانع ودور العلم وآلياته الجديدة، ولأسباب العصر في زرع الأرض التي تشتاق أن تهتز وتربو بالثمار فلا امتدت الأيدي ولا غارت القلوب غيرة المؤمنين للعمل؟

إننا لو أسقطنا كل ذلك من حساباتنا فما صمنا رمضان، ولا استحقت نفوسنا أن تتمتع بالعيد، اليوم لا مفر فيه من مواجهة أنفسنا والاعتراف بالتقصير.. ثم بذلك العزم الذي ليس من دونه عزم للانتصار على أهوائنا، والاستعداد بقوة لغد أفضل ينتظر خير أمة أخرجت للناس.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply