مشروعية التلقب بالشريف -2-


بسم الله الرحمن الرحيم 

حكم التلقب بالشريف:

ومن هنا أدخل في المسألة التي من أجلها كتبتُ هذه المقدّمة، وهي حكم تلقّب آل البيت بالأشراف في الشرع المطهّر:

وتلقٌّبُ آل البيت بالأشراف قديمٌ، لا يُعلم متى بدأº إلا أنه كان معروفًا من القرن الهجري الثالث. وليس في ذلك ما له علاقة بالحكم الشرعي لهذا اللقب، إلا لمن أدخل التلقّب به في باب البدع! فإنه إن قصد البدعة الشرعيّة التي شَرطُها أن تكون أمرًا في الدين وبقصد التعبٌّد، فهو مخطئ خطأ واضحًاº لأن التلقّب بالشريف من أمور الأعراف والعادات الدنيويّة التي ليست من الدين، ولا هو عبادةٌ ولا يُقصد به العبادة. ولذلك لم يقل أحدٌ (لا عالم ولا جاهل) إنه لا يجوز إحداث ألقابٍ, أو أسماءٍ, إلا لقبًا أو اسمًا كان على زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وما زال الناس يتلقَّبون وتتجدّد لهم ألقابٌ وأسماءٌ لأنسابٍ, لم تكن في زمن السلف الصالح، ولا نكير عليهم من أهل العلم، بل يشاركهم في ذلك أهل العلم أنفسهم، ولا وُصفت بالبدعة لذلك. فإنكار التلقّب بالشريف بدعوى البِدعِيّة، هو البدعةُ في الفتوى، والتي لم تكن في زمن السلف ولا الخلف. وأمّا إن أراد الواصف لهذا اللقب بالبدعة البدعة اللغويّة، فمعلوم أنّ ذلك لا علاقة له ببيان الحكم الشرعي.

وبناءً على ذلك، من أن باب الألقاب الأصل فيه الإباحة، كما هي القاعدة في الأمور الدنيويّة، حتى يقوم الدليل على التحريم يكون التلقّب بالشريف مباحًا حتى يقوم الدليل على التحريم.

ومع وجود الممتعضين الكارهين لهذا التلقّب، إلا أنّي لم أقرأ بحثًا علميًّا مؤصّلاً يستدلّ لتحريمه بغير ما سبق. وهذا الإفلاس في الاستدلال على التحريم، وشحّة الأدلّة إلى درجة عدم الوجود، ممّا يكفي لبيان ضعف هذا الرأي، وعدم صحّة ذلك الموقف.

إلا أني قد سمعتُ وقرأت قليلاً من المقالات الصحفيّة، وليست بحوثًا شرعيّةً علميّة، لبعض الكارهين لهذا التلقّب، فوجدتُهم يحومون في كراهيتهم حول معاني، بنوا عليها موقفهم القلبي تجاه هذا اللقب وتجاه المتلقّبين به.

المعنى الأول (وهو أظهر هذه المعاني): إنكار فضل آل البيت جملةً وتفصيلاً، وأنهم كبقيّة الناس، لا حقّ لهم إلا حق الإسلام وحده. ولذلك تجدهم يحتجّون بمثل قوله - تعالى -: \"ا إِنَّ أَكرَمَكُم عِندَ اللَّهِ أَتقَاكُم\" [الحجرات: 13]، وبمثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى)) (أخرجه الإمام أحمد: رقم 22978)، على أنه لا فضل لآل البيت على غيرهم، وأن اعتقاد فضلهم نعرةٌ عرقيّة ودعوةٌ جاهليّة.

ونسي هؤلاء أنّ ما يقولونه مخالفٌ لما عليه أهل السنّة والجماعة، وقد نقلنا سابقًا قول إمامين منهم، وهما: محمد بن عبد الوهاب، وأحمد بن حنبلº وإلا فالأمر محلّ إجماع عند أهل السنة. فكيف يجيز مسلمٌ لنفسه أن يدّعي فهمًا في كتاب الله - تعالى -وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخالف إجماع الأمّة؟! ألم يكن يكفيهم أن يعلموا أنهم مخالفون للإجماع عندما نفوا فضيلة آل بيت النبوّة، احتجاجًا بتلك النصوص؟!

أَوَنسي هؤلاء أيضَا النصوصَ الأخرى الكثيرةَ الدالّةَ على فضل العرب على العجم، حتى عُدَّ منكر فضل العرب من الطوائف المبتدعة، وسُمٌّوا عند أهل السنة بالشعوبيّة؟! (1).

أَوَنسي هؤلاء ما عقده أئمة السنة والدين من أبواب في كتب الصحاح وغيرها، وما ألّفوه من مؤلفات مفردة في فضل قريش وغيرها من قبائل معيّنة من قبائل العرب، وأوردوا في تلك الأبواب والكتب الأحاديث النبويّة الصحيحة الدالّة على ذلك؟!

أَوَنسي هؤلاء ما صحّ في فضل آل البيت النبويّ من الكتاب والسنة، والذي سبق شيءٌ يسيرٌ منه؟!

ألا يخشون على أنفسهم الدخول في قوله - تعالى -: \"أَفَتُؤمِنُونَ بِبَعضِ الكِتَابِ وَتَكفُرُونَ بِبَعضٍ, فَمَا جَزَاءُ مَن يَفعَلُ ذَلِكَ مِنكُم إِلَّا خِزيٌ فِي الحَيَاةِ الدٌّنيَا وَيَومَ القِيَامَةِ يُرَدٌّونَ إِلَى أَشَدِّ العَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ, عَمَّا تَعمَلُونَ\"[البقرة: 85].

كان الواجب على هؤلاء الرجوع إلى أهل العلم ليبيّنوا لهم كيف يفهمون نصوص الوحيين بما لا يعرّضها للتكاذب والتعارض، ولكي لا يقعوا في الهوى المهلك بالإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعض.

 

تفضيل نسب على نسب!

ولكي أُقرّبَ لهؤلاء فكرة تفضيل نسب على نسب، وعلاقة ذلك بالفضيلة الأخرويّة، دون أن يكون لهذا التفضيل معنى الطَّبَقيّة المقيتة التي حاربها الإسلام، ودون أن يؤدّي ذلك إلى تَوَهٌّمِ تشريع العنصريّة التي نفاها وضادّها الشرعُ المطهَّرº فإني أقول:

أولاً: إن الإسلام لم يفرّق بين الناس في الفروض من الأوامر والنواهي، ولا أباح على شعب ما حرّمه على شعب، ولا استعبد أمّةً لأُمّة. بل ليس في الإسلام تقريرُ إذلال إنسان لجنسه أو عرقه أو لونه، ولا يستجيز دينُ الله - تعالى -أن يعتديَ أحدُ على أحد، ولا أسقط الإسلام حقًّا لشخص لأنه غير شريف النسب، ولا أجاز التغاضي عن معاقبة الشريف إذا ظلم أو اعتدى أو أتى حدًّا من حدود الله - تعالى -.

ثانياً: إن شرف النسب، والذي يبدأ من تفضيل العرب على العجم، وينتهي بتفضيل نسب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على سائر الأنساب هو هِبةٌ ربّانيّة، كبقيّة الهبات الإلهيّة: كالغِنَى، وقوّة البدن، وجمال الصورة، وطول العمر، ونحوها من النِّعَمِ والأقسام الربّانيّة. ولا شك أن الناس يتفاوتون في هذه الهبات تفاوتًا كبيرًا، وربّما توارث جنسٌ من البشر شيئًا منها: كالجمال، أو قوّة الأبدان. فكما لا يصح الاعتراضُ على هذه الهبات الربّانيّة والأقسام الإلهيّة، كذلك لا يصحّ الاعتراض على شرف النسب: لِـمَ أُعطيَ فلانٌ ولم يُعطَ فلان؟!!

ولا شك أن تلك الهبات الربّانيّة الظاهرة، كالغنى، وقوّة البدن، وطول العمر ممّا يُعينُ على فِعل الخَيرات والاستكثار من الحسنات، وهي بذلك تكون سببًا في رفعة الدرجات في الآخرة، وإلى أن تعلوا بصاحبها في جنّات النعيم. فالغنى: عونٌ لصاحبه في الخير، ويَفتَحُ له أبوابًا في الإنفاق في سبيل الله - تعالى -لا تُفتَحُ للفقير: ((ذهب أهل الدثور بالأجور)) (2). وقوّة البدن: تجعل صاحبها أقوى على جهاد أعداء الله - تعالى -، وأقدر على نصرة الإسلام، وأقوم في مواطن الصدع بالحق: ((المؤمن القويّ خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير)) (3). وطول العمر: سببٌ في الاستكثار من زاد الآخرة: صلواتٍ,، وأذكارٍ,، وأعمالٍ, صالحة: ((ألا أخبركم بخياركم؟! أَطوَلكم أعمارًا، وأحسنكم أخلاقًا)) (4).

فأنت ترى أن هذه الهباتِ الربّانيّةَ الدنيويّةَ قد صارت أخرويّةً أيضًا، عندما أعانت المُنعَمَ عليه بها في فعل الخير واكتساب الثواب. فالهبة الربّانيّة أصلها دنيوي، لكنّها عندما أحسنَ صاحبُها عَمَلَه فيها أصبحت أخرويّة، ونفعت صاحبها في النجاة من عذاب الله - تعالى - والفوز بجنّاته.

فكما تحقّق ذلك الفضل الأخروي بسبب تلك النّعم والهبات الربّانيّة، فكذلك الشأن في النسب الشريف، بجامع أنّ هذه الهبات جميعها (بما فيها النسب الشريف) عونٌ لصاحبها على الخير. فإنّ الله - تعالى -قد جعل في طباع صاحب النسب الشريف ما يُيسِّرُ عليه حَملَ هذا الدين، ويكون بذلك الطبع أقدر على إقامة شرع الله - تعالى -من غيره. ولذلك فإن الله - تعالى - عندما اصطفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اصطفاه من أصرح العرب نسبًا، بل هو - صلى الله عليه وسلم - أفضلهم على الإطلاق نسبًا، واختار لوحيَيه (الكتاب والسنّة) أن يكونا بلغة العرب، وتعبّد الناس بهذه اللغة في القرآن والصلوات والأذكار والتفقٌّه في دين الله - تعالى -، وَحَبَا العربَ بأن جعل القبلة والمحجّة والمشاعر ومسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بلادهم، وما كان ذلك الاصطفاءُ والاختيارُ والحِباءُ إلا لحكمةٍ, بالغة، منها: أن أداء واجب حَمل هذه الشريعة الخاتمة العالميّة كان العربُ أقدرَ الشعوب عليها جِبِلّةً وطبيعة (5)، ولذلك كانوا هم أول من حمل راية الإسلام، ففازوا بأن نالوا أجر من دخلوا في دين الله - تعالى -بدعوتهم وفتوحهم التي كسروا بها أسوار الطواغيت الصادّة عن سماع دعوة الحق. وهذا ما قرّره علماء المسلمين، كشيخ الإسلام ابن تيميّة، في بيان فضل العرب وسبب هذا الفضل، وأنه بسبب ما حباهم الله - تعالى - به: في العقول والألسن والأخلاق والطباع. (انظر: اقتضاء الصراط المستقيم: 1/447، ومن أوّل هذا الفصل: 1/419-461).

ومن ثَمَّ يكون شرفُ النسب سببًا لرفعة الدرجات في الجنّة، من جهة أنه أعون لصاحبه على العمل الصالح، كما أنّ الغنى وطول العمر وقوّة البدن عونٌ على العمل الصالح أيضًا. وكما وجب على الناس الرضا بقَسمِ الله - تعالى - في الغنى وقوّة البدن وطول العمر وجمال الصورة، وجب عليهم ذلك في شرف النسب \"ذَلِكَ فَضلُ اللَّهِ يُؤتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضلِ العَظِيمِ\" [الجمعة: 4].

وبذلك يتّضحُ أن العطاء الربّاني المحض، قد يرفع مؤمنًا على مؤمن في الآخرة. وكما نطالب الناس أن يرضوا بعطاء الله الدنيوي، نطالبهم بالرضى بعطاء الله الأخروي، بجامع كونها كلها عطاءات ربّانية، ولعلاقة العطاء الدنيوي بالأخروي كما قدمناه!

وفي الحديث الصحيح: ((إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم: كما بين صلاة العصر وغروب الشمس. أوتي أهل التوراة التوراة، فعملوا بها، حتى إذا انتصف النهار عجزوا، فأُعطُوا قيراطًا قيراطًا. ثم أوتي أهل الإنجيل الإنجيل، فعملوا إلى صلاة العصر، ثم عجزوا، فأُعطُوا قيراطًا قيراطًا. ثم أوتينا القرآن، فعملنا إلى غروب الشمس، فأُعطينا قيراطين قيراطين. فقال أهل الكتابين: أي ربَّنا، أعطيتَ هؤلاء قيراطين قيراطين، وأعطيتنا قيراطًا قيراطًا، ونحن كنّا أكثر عملاً! قال الله: هل ظلمتكم من أجركم من شيء؟ قالوا: لا، قال: فهو فضلي أوتيه من أشا)). (صحيح البخاري: رقم 557).

فنقول لمن لم يؤتَ النسبَ الشريف أو الغنى أو قوّة البدن أو طول العمر: لن يظلمك ربك من عملك شيئًا، وسيجازيك ربك بإحسانك وإساءتك، وأمّا فضله - سبحانه -: فهو حقُّ له - تعالى -يؤتيه من يشاء.

ثالثـاً: أنّ من تمام حبّ الله - تعالى - لعبده المؤمن، أن يكون عند حُسنِ ظن العبد به - سبحانه -، فيحفظه في عقبه، ويَـخلُفُه فيهم بخير، ويشفّعه فيهم يوم القيامة، ويرفعهم إلى درجته في الجنّة. وقد سبق الاستدلال على ذلك بالكتاب والسنّة، ومن الأدلّة عليه أيضًا ما جاء في قصّة الخضر - عليه السلام - مع موسى - عليه السلام -: \"وَأَمَّا الجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَينِ يَتِيمَينِ فِي المَدِينَةِ وَكَانَ تَحتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً\" [الكهف: 82]. فصحّ عن ابن عباس (أنه قال في تفسيرها: ((حُفِظا بصلاح أبيهما، وما ذُكر منهما صلاح)). [أخرجه ابن جرير في تفسيره: 15/366، والحاكم وصححه: 2/369]. فعلّق الحافظ ابن كثير على ذلك بقوله في تفسيره (5/186-187): «فيه دليلٌ على أن الرجل الصالح يُـحفَظُ في ذُريّته، وتشمل بركة عبادته لهم في الدنيا والآخرة، بشفاعته فيهم، ورفع درجتهم إلى أعلى درجة في الجنّة، لِتَقَرَّ عَينُهُ بهم، كما جاء في القرآن ووردت به السنّة. قال سعيد بن جبير: عن ابن عباس: حُفظا بصلاح أبيهما، ولم يُذكر لهما صلاحٌ. وتقدّم أنه كان الأب السابع».

 

سبب مكانة آل البيت؟

وبهذا يتبيَّن أن مكانةَ آل بيت النبيّ - صلى الله عليه وسلم - عند ربهم - عز وجل - هي بسبب مكانة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - من ربّه - عز وجل -، وأن هذه المكانة لآل البيت هي من تمام جزاء الله - تعالى -ومكافأته لحبيبه المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، ومن عظيم ما قضى له ربّه - عز وجل - من الكرامة والإعظام والإحسان والتقريب والتشريف!!

وهنا يتّضح أن هذا التقرير لا يعارض قول الله - تعالى -: \"إِنَّ أَكرَمَكُم عِندَ اللَّهِ أَتقَاكُم\" [الحجرات: 13]، ولا قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى))º لأن معنى هذين النصين وما في معناهما: أن الذي ينفع الإنسان من جه

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply