بسم الله الرحمن الرحيم
الفصل الثالث: أمثلة لمسائل من فقه الأقليات:
المثال الأول: حكم إقامة الأقلية المسلمة في ديار الأكثرية غير المسلمة.
أولاً: اعلم أن تعريف الدار أمر مختلف فيه بين من يرى \"أن دار الإسلام هي كل بقعة تكون فيها أحكام الإسلام ظاهرة\". كما في البدائع والصنائع.
أو \"دار الإسلام هي التي نزلها المسلمون وجرت عليها أحكام الإسلام\" حسب تعريف ابن القيم ناسباً للجمهور.
فهل العبرة بالأحكام أم بالسكان؟ وهل العبرة بجريان الأحكام في وقت من الأوقات حتى ولو احتلها الكفار كما يراه الشافعي؟
وما هو نوع الأحكام هل هي الأحكام السلطانية من حدود وغيرها أم يكفي أن تقام الشعائر؟
وهل تكون الدار مركبة إذا كان للكفار السلطان مع إسلام السكان كما يراه شيخ الإسلام ابن تيمية؟
لعلي أعفي القارئ من هذه الخلاف العريض الذي لا يوجد فيه دليل حاسم لأقول:
إن دار الإسلام هي كل دولة أكثر سكانها من المسلمين وحكامها مسلمون حتى ولو كانوا لا يطبقون بعض الأحكام الشرعية.
ودار غير المسلمين هي كل دولة أكثر سكانها غير مسلمين وحكامها غير مسلمين.
والدار المركبة تتمثل في الدول الفدرالية فيها مسلمون وغير مسلمين. تحتفظ كل ولاية منها بسلطة سن القوانين. كما في نيجريا.
إذا كان الأمر ذكر فمسألة الإقامة قد اختلف فيها العلماء فذهب المالكية وابن حزم من الظاهرية في المحلى إلى أنه لا تجوز إقامة المسلم في دار غير المسلمين سواء خشي الفتنة أم لم يخشها لعدة أحاديث أصحها و أصرحها حديث الترمذي وأبي داود وفيه مقال \" أَنَا بَرِيءُ مِن كُلَّ مُسلِمِ يُقِيمُ بَينَ أظهُرِ المُشرِكِين \". حتى قال ابن حزم من دخل إليهم لغير جهاد أو رسالة من الأمير فإقامة ساعة إقامة. \"أي حرام\".
ومالك - رحمه الله تعالى - له رأي خاص في مسألة الإقامة في دار المعصية حتى أنه لا يجيز الإقامة ببلد يسب في الصحابة أو السلف الصالح.
ومن جهة المعقول أن المسلم يعرض نفسه للهوان ويشاهد المناكر.
والقول الثاني: قول جمهور الفقهاء وهم الأحناف والحنابلة والشافعية حيث أباحوا الإقامة للقادر على إظهار دينه الذي تتوفر له الحماية.
حيث قال الشافعية: أو قدر على الامتناع والاعتزال ثمَّ، ولم يرج نصرة المسلمين بالهجرة كان مقامه واجباً لأن محله دار الإسلام فلو هاجر لصارت دار حرب. (نهاية المحتاج8/)
ودليلهم كما يقول الشافعي أن النبي - عليه الصلاة والسلام - أذن لقوم أسلموا بمكة أن يقيموا بها بعد إسلامهم منهم العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه -.
وقال ابن حجر نقلا عن الماوردي: إذا قدر المسلم على إظهار الدين في بلد من بلاد الكفر فقد صارت للبلد به دار إسلام فالإقامة فيها أفضل من الرحلة منها لما يرتجى من دخول غيره في الإسلام. (فتح الباري 7/230)
وإسلام النجاشي وبقاؤه في قومه وقوله - عليه الصلاة والسلام - عنه \" مَاتَ اليَومَ رَجُلُ صَالِحُ فَقُومُوا فَصَلٌّوا عَلى أَخيكُم أََصحَمَةَ. \" كما في البخاري.
وهذا الخلاف إنما هو إذا كان المسلم قادراً على إظهار شعائر دينه وممارسة عبادته.
أما إذا كان المسلم معرضاً للفتنة في دينه ومدعو للانسلاخ منه بالكلية فيجب عليه الفرار بدينه من تلك الديار إلى دار الأمن والأمان إذا وجد دار إسلام فذلك المطلوب وإلا فدار كفر لا يفتن فيها عن دينه.
ومع ما تقدم من تفصيل الحالتين حالة الأمن على إظهار الدين الذي قال فيه بعض الشافعية بوجوب البقاء وقال فيه البعض الآخر بأن البقاء أفضل.
وحالة خوف الفتنة في الدين والحمل على الخروج من الدين وهي حالة لا رخصة فيها وتجب فيها الهجرة فإن الجمهور يستحبون للمسلم أن يهجر دار الكفر كما يظهر من مراجعة المبسوط والمعيار والمجموع والمغنى وفتح الباري.
ويتأكد طلب الخروج من ديارهم إذا كان لا يستطيع تربية أبنائه تربية إسلامية أو كان بيته مهدداً بالتحلل الأخلاقي ووجد سبيلاً إلى الإقامة في بلد إسلامي فيه بقية من الأخلاق.
فالعبرة في الموازنة بين البلدان من حيث الصلاح والفساد انظر مغنى المحتاج. (4/284)
والمسألة في بقاء المسلم في ديار غير المسلمين ترجع إلى قاعدة التيسير وتنزيل الحاجات والمشقات منزلة الضرورات وهي القواعد التي أشرنا إليها فعلى المسلم أن يقدر ضروراته وحاجاته بقدرها كما أن \"العولمة\" وانفتاح العالم بعضه على بعض لها تأثير على تقدير الحاكم.
وجاء في العبرة مما جاء في الغزو والشهادة والهجرة: وإذا كانت المصلحة العائدة على طائفة المسلمين ببقائه ظاهرة كأن يكون له مدخل في بعض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيجب أن يبقى.
وسيأتي مزيد بيان في فتاوى المجلس الأوربي.
أما الجنسية فهي فرع عن الإقامة ويعرض لها ما يعرض للإقامة من عوارض التحريم عند الخوف من الخروج من الدين عليه أو على أولاده إذا وجد بلداً لا فتنة فيه.
أو الكراهة إذا كان لا يخاف الكفر إلا أنه يشاهد المناكر ويجد بلداً أقل مناكر.
أو الجواز عند التساوي.
أو الوجوب عندما توجد مصلحة قوية للإسلام والمسلمين في بقائه أو تحصل مفسدة في انتقاله.
أو الاستحباب عندما يقوم بالدعوة إلى الدين مع وجود غيره من الدعاة.
وهي أمور تحتاج إلى تحقيق المناط والنظر في المآلات التي أشرنا إليها في جملة القواعد الآنفة الذكر.
المثال الثاني: ما هو تأثير المكان على أحكام التكليف؟ وبعبارة أخرى هل الدار موطن رخصة فتبيح المحظور وتسقط الواجب وترجح من الخلاف؟
هذا السؤال يشتمل على شقين أولهما تأثير الدار في إباحة بعض المحظورات وفي أحكام التكليف بصفة عامة.
وللعلماء في هذه المسألة مذهبان:
مذهب الجمهور وهو أن المكان لا تأثير له في أحكام التكليف وأن العزائم والرخص متساوية في دار الإسلام ودار غير المسلمين وهذا مذهب الشافعي ومالك وأحمد في الصحيح من مذهبيهما ولا يعرف فيه خلاف كبير عن الصحابة سوى ما نقل عن عمرو بن العاص - رضي الله عنه -.
وقد عبر الشافعي عن هذا الاتجاه بعبارات واضحة قوية حيث قال: ومما يوافق التنزيل والسنة ويعقل المسلمون ويجتمعون عليه أن الحرام في دار الإسلام حرام في دار الكفر فمن أصاب حراما فقد حده الله على ما شاء منه ولا تضع عنه بلاد الكفر شيئاً. (الأم 4/165)
وذهب الجمهور إلى هذا بناء على عموم النصوص وعدم تخصيصها في الزمان يدل على عدم تخصيصها في المكان.
ذكر القرافي في الفرق التاسع والسبعين والمائة: بين قاعدة معاملة أهل الكفر وقاعدة معاملة المسلمين\" قول مالك أكره معاملة المسلم بأرض الحرب للحربي بالربا وجوز أبو حنيفة الربا مع الحربي لقوله - عليه السلام -: لا رِبَا بَينَ مُسلِمِ وحَربِي\".
\"لا رِبَا إِلا بَينَ المُسلِمينَ\". والحربي ليس بمسلم.
ووافقنا الشافعي وابن حنبل - رضي الله عنهم - أجمعين لأن الربا مفسدة في نفسه فيمتنع من الجميع ولأنهم مخاطبون بفروع الشريعة لقوله تعالى(وحرم الربا) وعموم نصوص الكتاب والسنة يتناول الحربي.
قال اللخمي وغيره: إذا ظهر الربا بين المسلمين فمعاملة أهل الذمة أولى.
وعلل ذلك بأنهم غير مخاطبين بفروع الشريعة على أحد قولي العلماء.
أما المذهب الثاني فيرى تأثير المكان في الأحكام. فبعض المعاملات التي تحرم في بلاد المسلمين تجوز في ديار غير المسلمين.
وهذا مذهب أبي حنيفة ومحمد بن الحسن وسفيان الثوري وإبراهيم النخعي وهو رواية عن أحمد وقول عبد الملك بن حبيب من المالكية.
وقد عبر عن هذا الاتجاه بعبارات واضحة الحاكم الحنفي في كتابه \"الكافي\" حيث قال: وإن بايعهم - غير المسلمين بدار غير المسلمين - الدرهم بالدرهمين نقداً أو نسيئة أو بايعهم بالخمر والخنزير والميتة فلا بأس بذلك لأن له أن يأخذ أموالهم برضاهم في قولهما - أبي حنيفة ومحمد بن الحسن - ولا يجوز شيء من ذلك في قول أبي يوسف. (ابن عابدين الحاشية 3/248)
ولا نتردد في كون هذا مذهب أبي حنيفة في ديار غير المسلمين بإطلاق ونتوقف مع إطلاق دار الحرب فالحكم عندهم لدار غير المسلمين وإن كانت دار موادعة.
فقد قال السرخسي إن الدار بالموادعة لا تصير دار إسلام وذكر نقولاً عن أبي عبيد في كتابه \" الأموال\" يجيز معاملات غير مشروعة في دار الموادعة مما يدل على أن مفهوم دار الحرب هي دار غير المسلمين.
وكذلك لا تردد في مسألة أن تكون الزيادة للمسلم شرطاً في جواز المعاملة كما ذكره متأخروا الأحناف بل العبرة أن يكون المسلم منتفعاً سواء كانت الزيادة له أو لغيره كما يدل عليه كلام الإمام محمد في السير الكبير في قضية \"ضع وتعجل\".
أدلة هذا المذهب:
ما قدمناه من مرسل مكحول و حديث جابر بن عبد الله أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبته يوم عرفة في حجة الوداع: \" ألا إنَّ كُـلَّ رباً كَانَ فِي الجَاهِليَّةِ فَهو مَوضُوعُ وأَولُ رِباً يُوضَعُ رِبَا العَبَّاسِ بنِ عَبدِ المُطَّلِبِ. (رواه أبو داود في المناسك؟)
وفي هذا ما يدل على إجازة الربا مع أهل الحرب في دار الحرب على ما ذهب إليه أبو حنيفة وأبو يوسف لأن مكة كانت دار حرب وكان بها العباس بن عبد المطلب مسلماً إما من قبل بدر - على ما ذكره ابن إسحاق من أنه اعتذر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لمّا أسر يوم بدر وأمره أن يفتدي فقال له إني كنت مسلما ولم أخرج لقتالك إلا كرهاً فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: \" أَمَّا ظَاهِرُ أَمرِكَ فَقَد كَانَ عَلَينَا فَافدِ نَفسَكَ\". أو من قبل يوم فتح خيبر كما ذكره ابن إسحاق على ما دل عليه حديث الحجاج بن علاط من إقراره للنبي - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة وتصديقه ما وعده الله به وقد كان الربا يوم فتح خيبر محرماً على ما روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتي بقلادة وهو بخيبر من غنائمها فيها ذهب وخرز فأمر بالذهب الذي في القلادة فنزع وبيع وحده. وقال الذهب بالذهب وزناً بوزن. (أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 5/292)
فلمّا لم يردَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما كان من رباه بعد إسلامه - إما من قبل بدر أو من قبل خيبر- إلى أن ذهبت الجاهلية بمكة وإنما وضع منه ما كان قائما لم يقبض دل ذلك على إجازته إذ حكم له بحكم ما كان من الربا قبل تحريمه وبحكم الربا بين أهل الذمة والحربيين إذا أسلموا.
وحديث الحجاج بن علاط الذي دل على أن العباس كان مسلماً حين فتح خيبر.
هو ما روى أنس بن مالك عنه أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - حين فتح خيبر: إن لي بمكة أهلاً ومالاً وقد أردت أن آتيهم فإن أذنت لي أن أقول فعلت فأذن له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك فأتى مكة وأشاع بها أن أصحاب محمد قد استبيحوا وأني جئت لآخذ مالي فأبتاع من غنائمهم ففرح بذلك المشركون واختفى من كان بها من المسلمين فأرسل العباس بن عبد المطلب غلامه إلى الحجاج يقول له ويحك ما جئت به؟ فما وعد الله به ورسوله خير مما جئت به فقال له اقرأ على أبي الفضل السلام وقل له ليخل لي معه بيتاً فإن الخبر على ما يسره فلمّا أتاه الغلام بذلك قام إليه فقبل ما بين عينيه. ثم أتاه الحجاج بن علاط فخلا به في بعض بيوته وأخبره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد فتحت عليه خيبر وجرت فيها سهام المسلمين واصطفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها صفية لنفسه وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أباح له أن يقول ما شاء ليستخرج ماله وسأله أن يكتم ذلك عليه ثلاثاً حتى يخرج ففعل فلمّا أخبر بذلك بعد خروجه فرح المسلمون ورجع ما كان بهم من كآبة على المشركين والحمد لله رب العالمين. (أخرجه ابن حبان ونقلته بالمعنى واختصرت منه كثيراً لطوله وبالله التوفيق).
واحتج الطحاوي لإجازة الربا مع أهل الحرب في دار الحرب بحديث ثور بن زيد الديلي أنه قال بلغني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أيما دار أو أرض قسمت في الجاهلية فهي على قسم الجاهلية و أيما دار أو أرض أدركها الإسلام ولم تقسم فهي على قسم الإسلام\". (أخرجه مالك في الموطأ).
وإنما اختلف أهل العلم فيمن أسلم وله ثمن خمر أو خنزير لم يقبضه: فقال أشهب والمخزومي هو له حلال سائغ بمنزلة ما لو كان قبضه وقال ابن دينار وابن أبي حازم يسقط الثمن عن الذي هو عليه كالربا وأكثر مذاهب أصحابنا على قول أشهب والمخزومي. (ابن رشد المقدمات 2/11)
ابن تيمية في المحرر حيث قال: الربا محرم في دار الإسلام والحرب إلا بين مسلم وحربي لا أمان بينهما. (المحرر 1/318)
كما ورد ذكره كذلك عن آخرين من علماء الحنابلة كما ورد عن بعض علماء المالكية القول بكراهية ذلك وعدم تحريمه ففي البيان والتحصيل لابن رشد الجد قوله: وكذلك الربا مع الحربي في دار الحرب مكروه وليس بحرام لأنه لمّا جاز له أن يأخذ من ماله ما لم يؤتمن عليه لم يحرم عليه أن يربي معه فيه وكره من أجل أنه لم يأخذه على الوجه الذي أبيح له أخذ ماله وإنما أخذه بما عامله عليه من الربا. (البيان والتحصيل 17/291)
وقد روي عن أحمد أنه قال: لا يحرم الربا في دار الحرب. (الفروع لابن مفلح 4/147)
في الدر المختار: وحكم من أسلم في دار الحرب ولم يهاجر كحربي فللمسلم الربا معه خلافاً لهم. (الحاشية 5/186)
وفي بدائع الصنائع للكاساني عند حديثه عن شرائط جريان الربا قال: ومنها: أن يكون البدلان متقومين شرعاً وهو أن يكونا مضمونين حقاً للعبد فإن كان أحدهما غير مضمون حقا للعبد لا يجري فيه الربا وعلى هذا الأصل يخرج ما إذا دخل المسلم دار الحرب فبايع رجلا أسلم في دار الحرب ولم يهاجر إلينا درهما بدرهمين أو غير ذلك من البيوع الفاسدة في دار الإسلام أنه يجوز عند أبي حنيفة وعندهما لا يجوز لأن العصمة وإن كانت ثابتة فالتقوم ليس بثابت عنده. (بدائع الصنائع 5/192)
يقول السرخسي في المبسوط: وإن بايعهم المستأمن إليهم الدرهم بالدرهمين نقداً أو نسيئة أو بايعهم في الخمر والميتة والخنزير فلا بأس بذلك في قول أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - تعالى -ولا يجوز شيء من ذلك في قول أبي يوسف - رحمه الله - لأن المسلم ملتزم أحكام الإسلام حيثما يكون ومن حكم الإسلام حرمة هذا النوع من المعاملة. (المبسوط10/95)
وفي هذه المسألة قرار المجلس الأوربي بإجازة اشتراء البيوت بالقروض البنكية وهو يندرج في قاعدة رفع الحرج وتنزيل الحاجة منزلة الضرورة لترجيح القول الضعيف كما أشرنا إليه في ضوابط الحاجة من هذا الكتاب.
المثال الثالث: العلاقات الإنسانية وحسن التعامل في نصوص مختصرة تحكمها آية سورة الممتحنة \"لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم\".
والبر والقسط في غاية حسن التعامل ففي مسند الطيالسي عن هشام بن عروة عن أبيه أن أسماء بنت أبي بكر قالت: يا رسول الله إِنَّ أُمِي أَتَتنِي فِي عَهدِ قُرَيشِ وهيَ رَاغِبَةُ مُشرِكَةُ أَفَأَصِلُهَا قَالَ: نَعَم صِلِى أُمَكِ: \".
وحديث الترمذي عَن أَبِي ذَرٍّ, قَالَ: قالَ لِي رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - \": اتَّقِ اللهَ حَيثُ مَا كُنتَ وَأَتبعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمحُهَا وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ, حَسَنٍ,\".
فبالنسبة للعوائد والتقاليد فإن لابن تيمية كلاماً يعتبر معياراً لما يمكن أن يسلكه المقيم في دارهم من موافقتهم في سلوكه الظاهر مما ليس مخالفاً للدين ولا هادماً لركن من أركانه.
وبعد أن قرر: أن المخالفة لهم \"للكفار\" لا تكون إلا بعد ظهور الدين وعلوه...
قال: ومثل ذلك اليوم: لو أن المسلم بدار حرب أو دار كفر غير حرب لم يكن مأموراً بالمخالفة لهم في الهدي الظاهر لما عليه من الضرر.بل قد يستحب للرجل أو يجب عليه أن يشاركهم أحيانا في هديهم الظاهر إذا كان في ذلك مصلحة دينية من دعوتهم إلى الدين والإطلاع على باطن أمرهم لإخبار المسلمين بذلك أو دفع ضررهم عن المسلمين ونحو ذلك من المقاصد الصالحة. (اقتضاء الصراط المستقيم 176- 177)
وهذا الكلام يندرج في إطار تأصيل ابن تيمية لقاعدة مخالفة الكفار في الدين.
ويمكن أن نعتبر أن الملابس الأفرنجية والقبعات والنعال وغيرها من هذا الهدي الظاهر ولا ينبغي أن نتوسع في ذلك لارتكاب محرم منصوص.
وكذلك يمكن أن يسمح للمرأة في الغرب بوصل شعرها بغير شعر الآدمي عملا بمذهب أبي حنيفة.
وقد جعل بعضهم منه عدم تحريم حلق اللحية في الغرب بناء على قول قوي للشافعية بالكراهة فهو قول النووي وهو قول عياض من المالكية خلافاً للجمهور إذا دعت إليه الحاجة.
مسألة الآداب:
في الإنصاف للمرداوي: قوله (وفي تهنئتهم وتعزيتهم وعيادتهم: روايتان).
وأطلقهما في الهداية والمذهب ومسبوك الذهب والمستوعب والخلاصة والكافي والمغني والشرح والمحرر والنظم وشرح ابن منجا.
إحداهما: يحرم وهو المذهب صححه في التصحيح وجزم به في الوجيز وقدمه في الفروع.
والرواية الثانية: لا يحرم فيكره وقدمه في الرعاية والحاويين في باب الجنائز ولم يذكر التحريم.
وذكر في الرعايتين والحاويين رواية بعدم الكراهة فيباح وجزم به ابن عبدوس في تذكرته.
وعنه: يجوز لمصلحة راجحة كرجاء إسلامه اختاره الشيخ تقي الدين ومعناه: اختيار الآجري وأن قول العلماء يعاد ويعرض عليه الإسلام.
قلت: هذا هو الصواب وقد عاد النبي - صلى الله عليه وسلم - صبيا يهودياً كان يخدمه وعرض عليه الإسلام فأسلم.
نقل أبو داود: أنه إن كان يريد أن يدعوه إلى الإسلام فنعم.
وحيث قلنا: يعزيه فقد تقدم ما في تعزيتهم في آخر كتاب الجنائز ويدعو بالبقاء وكثرة المال والولد.
زاد جماعة من الأصحاب منهم صاحب الرعايتين والحاويين والنظم وتذكرة ابن عبدوس وغيرهم قاصداً كثرة الجزية.
قال الشافعي: ولا أصل لإلباس الذمي لبساً مميزاً.
المثال الرابع: مسألة استحالة العين وتسمى بانقلاب العين.
مسألة الأدوية والأغذية المشتملة على مواد حيوانية نجسة لأنها من أصل ميتة أو خنزير أو خمر بناء على قاعدة انقلاب العين تطهر هذه المواد كما أن ما لا تحله الحياة من الميتات طاهر فالأنفحه وعظام الميتة وعصبها كلها طاهرة والأنفحة هي المادة الغليظة التي تكون في الكرش
(قوله ويطهر زيت الخ) قد ذكر هذه المسألة العلامة قاسم في فتواه وكذا ما سيأتي متنا وشرحا من مسائل التطهير بانقلاب العين وذكر الأدلة على ذلك بما لا مزيد عليه وحقق ودقق كما هو دأبه - رحمه الله تعالى -فليراجع ثم هذه المسالة قد فرعوها على قول محمد بالطهارة بانقلاب العين الذي عليه الفتوى واختاره أكثر المشايخ خلافا لأبي يوسف كما في شرح المنية والفتح وغيرهما و عبارة المجتبي جعل الدهن النجس في صابون يفتي بطهارته لأنه تغير و التغير يطهر عند محمد ويفتي به للبلوى.
وظاهره أن دهن الميتة كذلك لتعبيره بالنجس دون المتنجس إلا أن يقال هو خاص بالنجس لأن العادة في الصابون وضع الزيت دون بقية الأدهان تأمل ثم رأيت في شرح المنية ما يؤيد الأول حيث قال وعليه يتفرع ما لو وقع إنسان أو كلب في قدر الصابون فصار صابونا يكون طاهرا لتبدل الحقيقة.
ثم اعلم أن العلة عند محمد هي التغير وانقلاب الحقيقة وأنه يفتي به للبلوى كما علم مما مر ومقتضاه عدم اختصاص ذلك الحكم بالصابون فيدخل فيه كل ما كان فيه تغير وانقلاب حقيقة وكان فيه بلوى عامة فيقال كذلك في الدبس المطبوخ إذا كان زيته متنجساً ولاسيما أن الفار يدخله فيبول ويبعر فيه وقد يموت فيه.
وقد بحث كذلك بعض شيوخ مشايخنا فقال وعلى هذا إذا تنجس السمسم ثم صار طحينة يطهر خصوصا وقد عمت به البلوى وقاسه على ما إذا وقع عصفور في بئر حتى صار طينا لا يلزم إخراجه لاستحالته قلت لكن قد يقال إن الدبس ليس فيه انقلاب حقيقة لأنه عصير جمد بالطبخ وكذا السمسم إذا درس واختلط دهنه بأجزائه ففيه تغير وصف فقط كلبن صار جبنا وبر صار طحينا وطحين صار خبزا بخلاف نحو خمر صار خلا وحمار وقع في مملحة فصار ملحا وكذا دردي خمر صار طرطيراً وعذرة صارت رمادا أو حمأة فإن ذلك كله انقلاب حقيقة إلى حقيقة أخرى لا مجرد انقلاب وصف كما سيأتي و الله أعلم.
- وانقلاب العين يعبر عنه بالاستحالة والاستحالة استفعالة من حال يحول إذا تغير أو انقلب أو زال أصلها استحوال بوزن استفعال أُعلت عينه بحذف حرف العلة وهو الواو وهو عين الفعل وعُوضت عنه بتاء التأنيث فصارت استحالة قال ابن مالك في اللامية:
ما عَينُه اعتَلَتِ الإفعالُ منه والاســـتفعالُ بالتَّا وتَعويضُ بها حَصَلا
من المُزالِ.....................
وشرعاً: تغير يحصل في العين النجسة يؤدي إلى زوال أعراضها وتبدل أوصافها يزول بسببه الاسم الأول لزوال الصفات القديمة.
وهي من المطهرات لأنها أزالت العلة التي لأجلها وقع التحريم اتفاقا عند الأحناف والزيدية والظاهرية وأبي محمد بن حزم وعلى المشهور عند المالكية وعلى إحدى الروايتين عند الإمام أحمد.
وقد قطع شيخ الإسلام ابن تيمية من الحنابلة على أنها مطهرة لا فرق في ذلك بين الاستحالة الواقعة من الله ابتداء وبين الواقعة بكسب إنسان كما سيراه القارئ الكريم إن شاء الله - تعالى -.
-إذا حرق إنسان نجاسة حتى صارت رماداً فإن هذا الرماد يصبح طاهراً على المعتمد عند العلماء في المذهب المالكي وإذا كان هذا الرماد طاهراً ترتب على ذلك جواز حمله في الصلاة وفي الطواف وجواز تناوله إذا لم يكن فيه إضرار بالصحة وبالأحرى إذا خُلط بطعام آخر.
-قال البناني في الخمر: فإذا انقلبت خلا انقلبت سائر الأجزاء التي دخلته فزال حكم النجاسة. (البناني حاشية على الزرقاني 1/28)
- قال الزرقاني على خليل: إذا كانت النجاسة ذاتية وتغيرت أعراضها جرى فيها قولان والمشهور الفرق بين ما استحال إلى صلاح كالبيض واللبن وما استحال إلى فساد فلا يطهر. (نفس المصدر 1/24)
- واستدل بحديث ابن أبي شيبة بسنده إلى أبي الدرداء - رضي الله عنه - في المريّ يجعل فيه الخمرة قال: لا بأس به ذبحته النار والملح.
- وجاء في الذخيرة قاعدة تبين ما تقدم وهي: أن الله - تعالى -إنما حكم بالنجاسة في أجسام مخصوصة بشرط أن تكون موصوفة بأعراض مخصوصة مستقذرة و إلا فالأجسام كلها متماثلة واختلافها إنما وقع بالأعراض فإذا ذهبت تلك الأعراض ذهاباً كلياً ارتفع الحكم بالنجاسة إجماعاً كالدم يصير منيّاً ثم آدميا …(الذخيرة 1/180)
وذكر ابن رجب الحنبلي في قواعده في الكلام على طين الطريق المختلط بالنجاسة بعد بحث طويل... والثاني: الاستحالة وفي المذهب خلاف يُبنى عليه طهارة الطين إذا بقيت فيه عين النجاسة ثم استُهلكت فيه حتى ذهب أثرها. (قواعد ابن رجب 1/334)
وهذا الفرع يوافق عليه المالكية قال في المختصر مشبهاً في العفو: \" طين مطر وإن اختلطت العذرة بالمصيب لا إن غلبت وظاهرها العفو. (يعنى ظاهر المدونة).
جاء في حاشية ابن عابدين على الدر المختار معلقا على ما جاء في رد المحتار من قول صاحب: والمسك طاهر حلال وكذا نافجته مطلقاً على الأصح. قال: لاستحالته إلى الطيبة لأنه وإن كان دماً فقد تغير فيصير طاهراً كرماد العذرة. وقال: والمراد بالتغيير الاستحالة إلى الطيبة وهي من المطهرات عندنا. (الدر المختار1/209)
كذلك أومأ ابن قدامة إلى هذه العلة في المغنى بقوله في الكلام على دبغ جلد الميتة بعد أن ذكر القول الأول بأنه: لا يطهر عندهم قال: والثاني: يطهر لقوله - صلى الله عليه وسلم -: \" أََيٌّمَا إِهَابٍ, دُبِغَ فَقَد طَهُرَ\". ولأنه طهر بانقلابه فلم يفتقر إلى استعمال الماء كالخمر إذا انقلبت خلا. (المغنى 1/59-60)
ثم قال العلامة ابن تيمية: وأما دخان النجاسة فهذا مبني على أصل وهو: أن العين النجسة الخبيثة إذا استحالت حتى صارت طيبة كغيرها من الأعيان الطيبة مثل: أن يصير ما يقع في الملاحة من دم وميتة وخنزير ملحاً طيباً كغيرها من الملح أو يصير الوقود رماداً ونحو ذلك.. ففيه للعلماء قولان:
أحدهما: لا يطهر كقول الشافعي وهو أحد القولين في مذهب مالك وهو المشهور عن أصحاب أحمد وإحدى الروايتين عنه.
والرواية الأخرى: أنه طاهر وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك في أحد القولين وإحدى الروايتين عن أحمد ومذهب أهل الظاهر وغيرهم.
وهذا هو الصواب المقطوع به فإن هذه الأعيان لم تتناولها نصوص التحريم لا لفظاً ولا معنى فليست محرمة ولا في معنى المحرم فلا وجه لتحريمها بل تتناولها نصوص الحلِّ.. فهي من الطيبات وهي أيضا في معنى ما اتفق على حله.
فالنص والقياس يقتضى تحليلها.
ثم قال: وأيضا فإن الله - تعالى -حرم الخبائث لما قام بها من وصف الخبث كما أنه أباح الطيبات لما قام بها من وصف الطيب وهذه الأعيان المتنازع فيها ليس فيها شيء من وصف الخبث وإنما فيها وصف الطيب. (الفتاوى21/ 70)
وهذا التعليل الذي علل به واضح لا غبار عليه وعليه تواطأ العلماء كالقرافي وغيره وزاد ابن تيمية ما يؤيده فقال: إن الاستقراء دلنا على أن كل ما بدأ الله بتحويله وتبديله من جنس إلى جنس مثل: جعل الخمر خلا والدم منياً والعلقة مضغة ولحم الجلالة الخبيث طيباً فإنه يزول حكم التنجيس وتزول حقيقة النجس لا تمكن المنازعة في هذا.
المثال الخامس: قضية حجاب المرأة المسلمة.
اعلم أن ستر المرأة لشعر رأسها واجب لقوله - تعالى -: \"ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها\".
وهذا النهي من نهي الوسائل والذرائع والنهي هنا يدل على الأمر بستر غير ما ظهر من الزينة.
فالستر واجب لغيره وكشف شعر الرأس حرام لأن شعر المرأة عورة كسائر جسدها على الصحيح.
وقد قال ابن عاشور في تفسيره: وقد فسر جمع من المفسرين الزينة بالجسد كله وفسر ما ظهر بالوجه والكفين قيل والقدمين والشعر. (التحرير والتنوير 18/207).
وشعر المرأة عورة مخففة في الصلاة خاصة عند مالك فلو كشفت المرأة عن شعرها ندب لها أن تعيد في الوقت.
ومعلوم أن النواهي ليست في مرتبة واحدة وكذلك الأوامر قال الشاطبي:
وبهذا الترتيب يعلم أن الأوامر في الشريعة لا تجرى في التأكيد مجرى واحدا وإنها لا تدخل تحت قصد واحد فإن الأوامر المتعلقة بالأوامر الضرورية ليست كالأوامر المتعلقة بالأمور الحاجية ولا التحسينية ولا الأمور المكملة للضروريات أنفسها بل بينها تفاوت معلوم بل الأمور الضرورية ليست في الطلب على وزان واحد كالطلب المتعلق بأصل الدين ليس في التأكيد كالنفس ولا النفس كالعقل إلى سائر أصناف الضروريات والحاجيات كذلك. (الموافقات3/209)
وبناء على هذا التفاوت في مراتب النهي ومراتب الأمر فقد رتب العلماء على ذلك نتائج عملية وهى أن النهي إذا كان نهي المقاصد ومعناها أن المنهي عنه يتضمن المفسدة التي من أجلها نهى الشارع عنه فهذا لا يباح إلا لضرورة قصوى وذلك كأكل الميتة والدم ولحم الخنزير.
وإذا كانت مرتبة النهي متدنية بأن كان نهي الوسائل والذرائع التي لا تتضمن في نفسها المفسدة ولكنها وسيلة فهذا تبيحه الحاجة وهى مشقة وسطى كما نص عليه ابن القيم وهو يتكلم عن ربا الفضل وربا النسيئة: إن تحريم هذا من تحريم المقاصد وتحريم الآخر تحريم الوسائل وسد الذرائع ولهذا لم يبح من ربا النسيئة شيء. (إعلام الموقعين 2/117).
وقال القرافي: الأحكام على قسمين مقاصد وهى المتضمنة للمصالح والمفاسد في أنفسها ووسائل وهى الطرق المفضية وحكمها حكم ما أفضت إليه من تحريم وتحليل غير أنها أخفض رتبة من المقاصد. (الفروق 2/33)
وقال القاضي أبو بكر بن العربي: وعلى المقاصد انبت أحكام الشريعة وبالمصالح أرتبطت. (القبس 3/1037)
ووضع المشقة له حكمه في الكشف عن أجزاء من البدن فقد جاء في الحديث الصحيح في معركة أحد عن أنس - رضي الله عنه - قال لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: ولقد رأيت عائشة بنت أبى بكر وأم سليم وإنهما لمشمرتان أرى خدم سوقهما تنقزان القرب. وقال غيره: تنقلان القرب على متونهما ثم تفرغانه في أفواه القوم ثم ترجعان فتملآنها ثم تجيئان فتقرغانه في أفواه القوم. (رواه البخاري).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد