بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
ضوابط فقهية استعداداً لاستقبال رمضان:
لا شك أن رمضان يمثل منزلة كبيرة في قلوب المسلمين، وبرغم كثرة فقه رمضان، إلا أننا سنحاول عمل "بانوراما فقهية" نطوف فيها حول أهم الموضوعات التي يحتاجها المسلم في رمضان.
استقبال رمضان: وأول ما يطالعنا: كيف يستقبل المسلم رمضان؟
وعن هذا يرى الدكتور عبد الستار فتح الله الأستاذ بجامعة الأزهر على المسلم أن يتشوق للشهر الكريم، وأن يكثر من الدعاء أن يبلغه الله -تعالى- رمضان "اللهم بَلِّغنا رمضان في خير وإنعام وإحسان يا رب العالمين" وأن نجدد النية ونستعد للعبادة، وأن نبتعد عن اللهو الذي تقع فيه الأمة في رمضان من مشاهدة الأفلام والمسلسلات، وأن تشغل نفسها بصيام النهار وقيام الليل، والاشتغال بالقرآن الكريم، وأن تتربى الأمة على الفضائل في هذا الشهر الكريم، فتتحسن أخلاق الناس وأن يتعلموا الحلم والصبر، فساعتها يعود رمضان شهر الانتصارات على النفس والعدو.
رؤية الهلال:
وعن رؤية هلال رمضان، تطالعنا دوماً الاختلافات الفقهية بين من يوجب رؤية الهلال بالعين، وبين من يجيزها، بل يوجبها بالحساب الفلكي، وإن كان الأمر خلافياً، فإن رمضان يجب أن يكون مصدر توحيد للأمة لا تفريق، وما أحسن ما عبر به الشيخ الدكتور مصطفى الزرقا حين لا يستغرب من علماء السلف اختلافهم لطبيعة الزمان ولعدم وجود أقمار صناعية، ولكن غير مقبول اليوم من علماء الأمة ترك العلم في بيان أمر من الشرع، ويعلل الشيخ الزرقا ذلك أن حديث الرؤية معلل بأن الأمة كانت أمية لا تقرأ ولا تكتب، ولكنها اختلفت الآن، بل يؤكد ذلك بقوله: "إني على يقين أن علماء سلفنا الأولين، الذين لم يقبلوا اعتماد الحساب الفلكي للأسباب التي سأذكرها قريبًا -نقلاً عنهم- لو أنهم وُجدوا اليوم في عصرنا هذا، وشاهدوا ما وصل إليه علم الفلك من تطور وضبط مذهل لغيروا رأيهم، فإن الله قد آتاهم من سعة الأفق الفكري في فهم مقاصد الشريعة ما لم يؤت مثله أتباعهم المتأخرين، فإذا كان الرصد الفلكي وحساباته في الزمن الماضي، لم يكن له من الدقة والصدق ما يكفي للثقة به والتعويل عليه، فهل يصح أن ينسحب ذلك الحكم عليه إلى يومنا هذا؟".
وإن ظل الرأي الآخر معتمداً في الأمة كما علله الشيخ ابن باز -رحمه الله- بقوله: "علق إثبات الأهلة بالرؤية أو بإكمال العدة، وحكمه -صلى الله عليه وسلم- يعم زمانه، وما بعده إلى يوم القيامة لأن الله -عز وجل- بعثه إلى العالمين بشريعة كاملة لا يعتريها نقص بوجه من الوجوه". وأياً ما كان، فاتباع البلد الواحد بما يفتي به مفتوها أولى، بل لا يجوز الخروج عما قاله مفتي البلاد، حتى لا يتفرق الناس في البلد الواحد، وإن كان الأولى اعتماد الحساب الفلكي لما قاله الشيخ القرضاوي: "للخروج بالأمة من الاختلاف الشديد في تحديد بداية صيامها وفطرها وأضحاها، إلى الوحدة المنشودة في شعائرها وعباداتها، المتصلة بأخص أمور دينها، وألصقها بحياتها وكيانها الروحي، وهي وسيلة الحساب القطعي".
مشاهدة الأفلام وسماع الأغاني:
وعن بعض المظاهر السلبية التي تحدث في هذا الشهر من عدد كثير من الناس كمشاهدة الأفلام وسماع الأغاني وغيرها، وهل يبطل الصيام بتلك الأفعال، يرى الشيخ عطية صقر من كبار علماء الأزهر أن مشاهدة وسماع هذه الأشياء لا يبطل الصيام إلا إذا حدث أثر جنسي بسببها، ومع عدم البطلان فإن المسلم يكون قد فاتته فرص كثيرة لشغل الوقت بالعبادة وقراءة القرآن وسماع البرامج الدينية، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه الطبراني: "أتاكم رمضان شهر بركة، يغشاكم الله فيه فيُنزل الرحمة، ويحُطٌّ الخطايا، ويستجيب فيه الدعاء، ينظر الله إلى تنافسكم فيه ويباهي بكم ملائكته، فأروا الله من أنفسكم خيراً فإن الشقي من حرم به رحمة الله -عز وجل-"، فليكن تنافسنا في رمضان في الخير لا في اللهو ولا في الإقبال على الملذات.
كثرة النوم:
ومن تلك الظواهر السلبية أيضاً كثرة النوم في رمضان، ولكن هل يبطل كثرة النوم الصيام؟ وهل صحيح أنه ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قوله: "نوم الصائم عبادة"، وللإجابة عن ذلك يقول الشيخ عطية صقر: "ولو نام الصائم طول النهار فصيامه صحيح، وليس حراماً عليه أن ينام كثيراً ما دام يؤدي الصلوات في أوقاتها، وقد يكون النوم مانعاً له من التورط في أمور لا تليق بالصائم، وتتنافى مع حكمة مشروعية الصيام، وهي جهاد النفس ضد الشهوات والرغبات التي من أهمها شهوتا البطن والفرج، ويدخل في الجهاد عدم التورط في المعاصي مثل الكذب والزور والغيبة، فقد صح في الحديث: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه"، رواه البخاري. هذا ولم يصح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: نوم الصائم عبادة.
الدورات الرياضية:
ومن أهم الظواهر التي تنتشر في رمضان، وتشغل حيزاً كبيراً من اهتمام الناس الدورات الرمضانية، فما حكم تلك الدورات، وهل تنقص أجر الصائمين؟
وتطالعنا فتاوى العلماء بأن مثل هذه الدورات لا يمكن الحكم عليها بالحرمة، ولكن الأولى ألا ينشغل الإنسان بها كثيراً في هذا الشهر، وأن يصرف معظم الوقت في طاعة الله -تعالى-، فيقول الدكتور علي بادحدح الأستاذ بجامعة الملك عبد العزيز: "لا يوجد ما يحرم ممارسة كرة القدم إذا لم يقترن بها محرم أو أدت إلى تضييع الفرائض والواجبات، وقد تكون هناك برامج مصاحبة فيها فوائد دعوية ومسابقات ثقافية، ويكون البرنامج الرياضي عاملاً من عوامل الترغيب للشباب لجذبهم حتى يمكن أن تصل لهم رسالة الدعوة بطريقة غير مباشرة وبأسلوب مشوق، فلا بأس من ذلك إن شاء الله".
ويقول الشيخ محمد صالح المنجد من علماء السعودية: "وهذه الألعاب أقل ما يقال فيها بالنسبة لهذا الشهر أنها من تضييع الوقت، وليس شيء أغلى عند الإنسان من وقته فهو عمره وحياته".
ثم لماذا يختص شهر رمضان بهذه الألعاب.. لماذا لا تكون في شعبان أو رجب أو شوال؟!
ولماذا يختص رمضان بالمسلسلات وغيرها مما تستعد به القنوات، حتى رسخ في أذهان كثير من الناس أن رمضان هو شهر الكرة وشهر المسلسلات، وشهر السهرات... إلخ؟!
وغاب هؤلاء عن الحكمة التي أرادها الله -تعالى- من فرضه لصيام شهر رمضان ألا وهي تقوى الله يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون (183) (البقرة).
إفطار الصائمين:
ومن أبرز أعمال الخير في رمضان إفطار الصائمين، وعنها يسوق لنا الشيخ محمد صالح المنجد عدداً من الأحاديث المرغبة في هذا العمل، منها ما ورد عن زيد بن خالد الجهني قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَن فطَّر صائماً كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء".
وينقل الشيخ المنجد أن السلف الصالح كانوا يحرصون على إطعام الطعام ويرونه من أفضل العبادات حتى إن أحدهم قال: لأن أدعو عشرة من أصحابي فأطعمهم طعاماً يشتهونه أحب إلي من أن أعتق عشرة من ولد إسماعيل، بل كان منهم من يؤثر بفطوره وهو صائم، منهم عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- وداود الطائي ومالك بن دينار، وأحمد بن حنبل، وكان ابن عمر لا يفطر إلا مع اليتامى والمساكين، وكان منهم من يطعم إخوانه الطعام وهو صائم ويجلس يخدمهم، منهم الحسن وابن المبارك.
رمضان نقطة للانطلاق:
وحول الاستفادة من هذا الشهر الفضيل وجعله فرصة للانطلاق نحو الخير يقول الشيخ محمد بن عبد الله الدويش: لاشك أن الأعمال الصالحة تضاعف في رمضان وأفضل الأعمال التوبة إلى الله من الذنوب، فليكن رمضان شهر التوبة، وبذل المستطاع في الإقلاع عن المعاصي في هذا الشهر وستجد إعانة من الله -عز وجل- أكبر وأكثر، ويجب استغلال إقبال النفس في هذا الشهر في الإكثار من الأعمال الصالحة ومن ذلك المحافظة على الصيام من أن يخدشه شيء من نواقصه من المعاصي الظاهرة الفعلية والقولية وكذا الباطنة. وتعويد النفس على المحافظة والالتزام بالفرائض ومنها الصلاة، وتعود هذا الشهر ألا تفوتك تكبيرة الإحرام مع الإمام، وواظب على التراويح فهي فرصة عظيمة للمران على قيام الليل مع انتقاء الإمام المناسب الذي يعتني بصلاته وحسن تلاوته ويكون كثير الخشوع والتأثر بتلاوة القرآن. ومن الأعمال الصالحة الإكثار من تلاوة القرآن وتدبره، فالقرآن هداية للنفس إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم(الإسراء: 9).
جدول رمضاني مقترح:
ويرى الشيخ الدويش ضرورة وضع جدول رمضاني لاستغلال أوقات الشهر الكريم، كل شخص حسب ظروفه، فمن الصعب تحديد جدول محدد يلتزم به الجميع وذلك لتفاوت الناس واختلاف أعمالهم وارتباطاتهم، ولكن أظن أن هناك أموراً لا بد من مراعاتها للجميع:
1. تخصيص وقت لتلاوة القرآن فقد كان هذا هدياً للسلف -رحمهم الله- تعالى- بل كان كثير منهم يترك مجالس الحديث ويقبل على التلاوة.
2. تخصيص وقت لتدبر معاني القرآن وتأمل آياته والاعتبار بما فيها من المعاني العظيمة.
3. تخصيص مقدار للحفظ، فقد أثنى الله - تعالى -على الذين احتوت صدورهم آيات الله -تعالى- بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم(العنكبوت: 49).
4. الحرص على الصلاة مع المسلمين في صلاة التراويح كما ثبت عن المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة".
5. مراعاة أحكام الصيام وفقهها على الوجه المطلوب وتحقيق مقاصده من التقوى والإقبال على الله والإخبات إليه ومحاسبة النفس والإحسان إلى الآخرين، فقد كان المصطفى -صلى الله عليه وسلم- "أجود ما يكون في رمضان"، والجود اسم يشمل بذل المال والنفس والجاه والعقل والفكر وتسخير ذلك كله في خدمة دين الله – تعالى-.
6. عدم الإفراط في النوم كما هو واقع الكثير من المسلمين للأسف الشديد.
كانت هذه تطوافة سريعة مع بعض أحكام الصيام في رمضان.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد