بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
السؤال:
هل ورد ما يدل على النهي عن صيام نصف شهر شعبان الأخير؟ أرجو بيان ذلك أثابكم الله.
الجواب:
النهي عن صيام يوم النصف من شعبان وما بعده ورد في حديث مشهور عند العلماء، ونظراً لكثرة الكلام فيه، ولاختلاف المحدثين فيه ما بين مصحح ومضعف، فيفصل الكلام منه قليلاً بما يناسب المقام.
وقبل تفصيل الكلام، أذكر خلاصة القول في هذا الحديث، ثم أتبعه بالتفصيل:
(1) أن هذا الحديث مداره على العلاء بن عبد الرحمن، وهو صدوق ربما وهم، وقد تفرد بهذا الحديث عن أبيه.
(2) أن العلماء اختلفوا في صحة هذا الحديث وضعفه، فالذين صححوه أخذوا بظاهر السند، والذين ضعفوه أعملوا أموراً أخرى غير ظاهر السند، تتعلق بالمتن حيث رأوا أنه معارض لأحاديث قولية وفعليه أصح منه وأثبت كما سيأتي تفصيله.
(3) أن اختلاف العلماء في صحته وضعفه، انبنى عليه اختلافهم في حكم صيام ما بعد النصف من شعبان، هل هو حرام أو مكروه أو مباح؟ كما ستأتي الإشارة إليه.
أما تفصيل الكلام عليه فهو كما يلي:
الحديث رواه أبو داود في (2/751)، باب في كراهية ذلك (أي وصل شعبان برمضان) ح (2337) من طريق عبد العزيز بن محمد وهو الدراوردي قال: ((قدم عباد بن كثير المدينة، فمال إلى مجلس العلاء، فأخذ بيده فأقامه، ثم قال: اللهم إن هذا يحدث عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا انتصف شعبان فلا تصوموا" فقال العلاء: اللهم إن أبي حدثني عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك)).
والحديث مداره على العلاء بن عبد الرحمن، مختلف فيه، وبالنظر في كلام الأئمة فيه نجد أن عبارة الحافظ ابن حجر فيه قد لخصت هذه الأقوال، وهي قوله: "صدوق ربما وهم"، (التقريب 5247). وأما أبوه فثقة كما قال الذهبي، وابن حجر: "ثقة"، كما في (الكاشف 1/649)، و(التقريب 4046)، وتنظر بعض أقوال الأئمة فيه في (تهذيب الكمال) للمزّي (18/18).
تخريجه:
أخرجه الترمذي (3/115)، باب ما جاء في كراهية الصوم في النصف الثاني من شعبان ح(738)، وأخرجه النسائي في (الكبرى 2/172)، باب صيام شعبان ح(2911)، وابن ماجة (1/528) باب ما جاء في النهي أن يتقدم رمضان [ ] بصوم ح(1650)، وعبد الرزاق (4/161) ح(7325)، وابن أبي شيبة (2/285) ح (9026)، وأحمد (2/442)، وأبو عوانة (98)، وابن حبان (8/356) ح (3589)، وفي (8/358) ح(3591)، والبيهقي (4/209)، من طرق عن العلاء بن عبد الرحمن به بنحوه.
وأخرجه الطبراني في (الأوسط 2/312) ح (1957) من طريق عبيد الله بن عبد الله المنكدري، قال: حدثني أبي عن أبيه عن جده [عبيد الله بن عبد الله بن المنكدر بن محمد بن المنكدر] عن عبد الرحمن بن يعقوب به بنحوه.
وأخرجه ابن عدي في (الكامل 1/224) من طريق إبراهيم بن أبي يحيى، عن محمد بن المنكدر، والعلاء بن عبد الرحمن، عن عبد الرحمن بن يعقوب به بنحوه.
الحكم عليه:
إسناد أبي داود رجاله ثقات سوى الدراوردي والعلاء بن عبدالرحمن، أما الدراوردي فلا يضره هنا ما عنده من الأوهام لأنه توبع من أئمة.
وقد اختلفت أنظار الأئمة في الحكم على هذا الحديث، فمنهم من صححه، ومنهم من ضعفه واستنكره، فأما من صححه فمنهم:
الترمذي حيث قال (3/115): "حسن صحيح، لا نعرفه إلا من هذا الوجه على هذا اللفظ"، والطحاوي في (شرح المعاني 2/83)، وأبو عوانة حيث أخرجه في مستخرجه على صحيح مسلم، وابن حبان (8/358)، وابن عبد البر في (الاستذكار 10/238)، وابن حزم (7/25)، وغيرهم.
لكن قال الحافظ ابن رجب في (اللطائف 260) عقب حكاية التصحيح عن هؤلاء الأئمة: "وتكلم فيه من هو أكبر من هؤلاء وأعلم، وقالوا: هو حديث منكر، منهم عبد الرحمن بن مهدي، والإمام أحمد، وأبو زرعة، والأثرم، وقال الإمام أحمد: لم يرو العلاء أنكر منه، ورده بحديث" لا تقدموا رمضان بصوم يوم.. " ا.هـ.
وقد نقل أبو داود عقب إخراجه الحديث عن ابن مهدي أنه كان لا يحدث بهذا الحديث، وهذا ظاهر في إنكاره إذ لم يحدث به الإمام أحمد.
وأما إنكار أبي زرعة، فقد نقله البرذعي في سؤالاته (2/388)، ونقل أبو عوانة في (مستخرجه98) أن عفان بن مسلم كان يستنكره أيضاً.
ونقل أبو عوانة أيضاً وذكره الحافظ ابن حجر في (الفتح 4/153) أن ابن معين قال عنه: منكر، وإنكار أحمد للحديث نقله عنه المروذي في سؤالاته (117 رقم 273)، وقال النسائي عقب إخراج الحديث في (الكبرى: 2/172): (لا نعلم أحداً روى هذا الحديث غير العلاء بن عبد الرحمن) ا. هـ.
وقال الخليلي في (الإرشاد: 1/218) عن العلاء: "مديني، مختلف فيه لأنه يتفرد بأحاديث لا يتابع عليها ثم ذكر حديث الباب، ثم قال: - وقد أخرج مسلم في الصحيح المشاهير من حديثه دون هذا والشواذ" ا. هـ، وأشار البيهقي (4/209) إلى ضعفه.
وما ذكره الخليلي، فيه إشارة واضحة، أن مسلماً أعرض عن حديثه لما فيه من النكارة، مع أنه أخرج من هذه السلسلة: العلاء عن أبيه كثيراً، وقد أشار إلى هذا السخاوي، كما في (الأجوبة المرضية 1/37).
وما ذكره بعض الأئمة من تفرد العلاء به، لا يعكر عليه ما رواه الطبراني كما سبق تخريجه- من طريق محمد بن المنكدر عن عبد الرحمن بن يعقوب لأن هذه الطريق معلولة بثلاثة أمور:
الأول: أن فيها المنكدر بن محمد المنكدر، وقال عنه أبو حاتم: "كان رجلاً صالحاً لا يفهم الحديث، وكان كثير الخطأ، ولم يكن بالحافظ لحديث أبيه"، وقال عنه أبو زرعة: "ليس بقوي"، وقال ابن معين: "ليس بشيء" وقد وثقه أحمد في رواية أبي طالب نقل ذلك كله ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل 8/406).
الثاني: أن الطبراني قال عقب إخراج الحديث: "لم يرو هذا الحديث عن محمد بن المنكدر إلا ابنه المنكدر، تفرد به ابنه عبد الله" ا. هـ، فهو مع ضعفه تفرد أيضاً.
الثالث: قال ابن عدي في (الكامل 6/455) عن هذه السلسلة (عبيد الله بن عبد الله المنكدري قال: حدثني أبي عن أبيه عن جده).
"وهذه نسخة حدثناه ابن قديد، عن عبيد الله بن عبد الله بن المنكدر بن محمد، عن أبيه عن جده، عن الصحابة وعن غيرهم، وعامتها غير محفوظة ". ا. هـ.
وأما الطريق التي أخرجها ابن عدي من طريق إبراهيم بن أبي يحيى، فلا أثر لها لأن إبراهيم هذا متروك الحديث، كما في الميزان 1/57، والتقريب (93)، والله أعلم.
وبعد: فإن اختلاف أهل العلم بالحديث في الحكم على هذا الحديث انسحب على المسألة فقهياً، فقد اختلف العلماء في حكم الصوم بعد منتصف شعبان.
فمن صح عنده هذا الحديث حكم بكراهة صوم السادس عشر من شعبان وما بعده، وبعضهم صرّح بالتحريم كابن حزم في (المحلى 7/25) إلا أنه خص النهي بصيام اليوم السادس عشر فقط ومن ضعّف هذا الحديث لم يقل بالكراهة كما هو قول جمهور العلماء، محتجين بحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين، إلا رجل كان يصوم صوماً فليصمه". أخرجه البخاري (2/34) باب لا يتقدم رمضان بصوم يوم ولا يومين ح (1914)، ومسلم (2/762) ح (1082) واللفظ له -، وأبو داود (2/750)، باب فيمن يصل شعبان برمضان ح (2335)، والترمذي (3/69)، باب ما جاء "لا تقدموا الشهر بصوم" ح (685)، والنسائي (4/149)، باب التقدم قبل شهر رمضان ح (2172، 2173)، وابن ماجة (1/528)، باب ما جاء في النهي أن يتقدم رمضان بصوم ح(1650) من طرق عن يحي بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.
وقد احتج بهذا الحديث الإمام أحمد على ضعف حديث النهي عن الصوم بعد النصف، وهو قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا انتصف شعبان فلا تصوموا"، والله أعلم.
ويمكن أن يعلل الحديث أيضاً بحديث عائشة -رضي الله عنها- قالت كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم، فما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استكمل صيام شهر إلا رمضان، وما رأيته أكثر صياماً منه في شعبان.
أخرجه البخاري (2/50)، باب صوم شعبان ح(1969)، ومسلم (2/810) ح(1156)، وأبو داود (2/813) باب كيف كان يصوم النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ ح(2434) من طريق أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة -رضي الله عنها-.
ومقتضى هذا بلا شك - أنه كان يصوم شيئاً من الأيام بعد منتصفه.
ومما ضعف به حديث العلاء أيضاً:
الأحاديث الدالة على جواز صوم يوم وإفطار يوم، بعضها في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنه-، وهي مشهورة كثيرة.
وقد أجاب بعض المصححين لحديث العلاء بأن النهي محمول على من لم يبتدئ صيامه إلا بعد النصف، أما من كان يصوم قبل النصف واستمر فلا يشمله النهي، ومنهم من حمل النهي على من يضعفه الصوم عن القيام بحق رمضان.
والظاهر والله أعلم هو رجحان قول الأئمة الذين حكموا عليه بالنكارة والضعف لسببين:
الأول: لكونهم أعلم ممن صحّحه.
الثاني: لقوة الأدلة التي تخالفه، كحديث أبي هريرة، وعائشة، وعبد الله بن عمرو -رضي الله عنهم-، ومما يقوي هذا أعني ضعفه أن الإمام مسلماً -رحمه الله- كان يخرج من سلسلة العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة كثيراً، فما باله أعرض عن هذا الحديث؟! الأمر كما قال الخليلي كما سبق نقل كلامه إنما هو لشذوذ هذا الحديث.
وبناء عليه يقال: إن الصيام بعد النصف من شعبان لا يحرم ولا يكره، إلا إذا بقي يومان أو يوم، وليس للإنسان عادة في الصيام، فإنه ينهى عن ذلك لدلالة حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، والله تعالى أعلم.
وللمزيد ينظر: (شرح معاني الآثار للطحاوي 2/82 87)، و(تهذيب سنن أبي داود لابن القيم مطبوع مع مختصر السنن للمنذري 3/223 225)، و(فتح الباري 4/153) شرح الحديث (1914)، و(تحفة الأحوذي 3/296).
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد