بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
الصيام المفروض هو صيام رمضان، و دليل فرضيته: الكتـــــــــــاب والسنة والإجماع، وفضله عظيم، والحكمة منه ظاهرة. و لما كانت أيام شهر رمضان هي التي فرض الله صيامها، فلا بد من معرفة أول الشهر و آخره، و قد ضبط الشرع طريقتين لثبوت أول الشهر: برؤية هلاله عند طلوعه، و عند عدم رؤيته يثبت بإكمال عدة شهر شعبان ثلاثين يوما، كما يثبت انتهاء شهر رمضان برؤية هلال شوال أو بإكمــــــــــــــــــال عدة شهر رمضان عند عدم رؤية هلال شوال، إذ الشهر القمري يكون تسعة و عشرين يوما أو ثلاثين يوما قولا واحدا، وهذا من فضل الله -تعالى- على عباده و تيسيره عليهم حيث جعل العبادات التي تعتمد على المواقيت مرتبطة بالأمور المحسوسة و العلامات الظاهرة التي يستوي في العلم بها العالم والجاهل و أهل البوادي والحواضر.
واللافت للنظر أن الرؤية التي يثبت بها أول شهر رمضان وآخره لا تحصل لكل مسلم، و لهذا اتفق العلمـــاء على أن الإخبار بالرؤية ممن رآه حجة شرعية تلزم المسلمين في ثبوت شهر رمضان ابتداء وانتهاء إذا توفرت الشروط المطلوبة في المخبر أو المخبرين غير أن اختلاف موضع طلوع الهلال يبقى محل نزاع بين الفقهاء واعتباره في ثبوت الشهر من عدمه.
وفي تحرير محل النزاع يخرج اعتبار اختلاف مطالع الشمس في مواقيت العبادات، و أن لكل بلد مواقيته في الصلوات والإفطار والسحور، فتوحيد مواقيتها في البلدان المختلفة غير متصوّر بالنظر إلى اختلاف الأقطار والبلدان على الكرة الأرضية(1).
كما يخرج من محل النزاع ما إذا ثبتت رؤية الهلال عند الإمام الأعظم و ألزم الناس داخل ولايته بما ثبت من رؤية في بلده، سقط أثر اختلاف البلدان المتباعدة، و وجب الصوم على جميعهم حتى لو كان ثبوت رؤية الهلال في مطلع من مطالع تلك الأقطار دون سائرها، ما دام حكم الإمام الأعلى نافذا على جميع هذه الأقطار والبلدان، فهي في حقه كالبلد الواحد اتفاقا(2)، ذلك لأن مسألة اختلاف المطــــــــــالع محل اجتهاد يولّد آراء و وجهات نظر مختلفة، وحكم الحاكم يرفع النزاع و يحسم الخلاف و يرجح به أحد النظرين أو الأنظار المتباينة، اعتقادا منه بأحقية رجحانه، الأمر الذي يوجب إنفاذ حكمه والامتثال له، والعمل بمقتضاه، ولا يجوز مخالفته فيما قطع فيه الخلاف شرعا طاعة لولي أمر المسلمين، وتوحيدا لكلمتهم.
كذلك لا خلاف بين الفقهاء في تحقق اختلاف مطالع القمر(3)، و إنما النزاع في اعتبار اختلاف مطالعه في ثبوت الأهلة وما يتعلق بها من أحكام كثبوت بدء الصوم في رمضان، و الفطر في شوال، والحج، والإيلاء وعدة المتوفى عنها زوجها وغيرها من الأحكام الشرعية المتعلقة بالأجل والزمن فقد ربطها الله تعالى- بالأشهر القمرية في قوله -تعالى-: "يَسأّلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُل هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحَجِّ"[البقرة: 189]. هذا فيما إذا كانت الأقطار والبلدان خارجة عن حكم الإمام الأعلى أو وجد من المسلمين في بلاد غير مسلمة، فهل رؤية البعض تعم في حق جميع البلدان في ثبوت الأحكام ولا عبرة باختلاف المطالع، بل يجب العمل بالأسبق رؤية، فلو رُئي في المشرق ليلة الجمعة، وفي المغرب ليلة السبت، وجب على أهل المغرب العمل بما رآه أهل المشرق، أم يستقل كل بلد برؤيته و يكون الاعتبار باختلاف المطالع؟ أي يلزم على كل بلد العمل بمطلعه و لا يلزمه مطلع غيره، فإن لم يروا الهلال أكملوا شهر شعبان ثلاثين.
فالفقهاء في هذه المسألة اختلفوا على مذهبين رئيسين:
فالأول: يذهب إلى القول بتوحيد الرؤية و لا يعتبر اختلاف مطالع القمر في ثبوت الأهلة، و بهذا قال الجمهور، و هو المعتمد عند الحنفية، ونسبه ابن عبد البر إلى الإمام مالك فيما رواه عنه ابن القاسم والمصريون، كما عزاه إلى الليث والشـــــــــــــــافعي والكوفيين وأحمد، و به قال ابن تيمية والشوكاني وغيرهم من أهل التحقيق، ويترتب على هذا القول وجوب القضاء إذا بدأ أهل بلد صومهم اليوم الذي يلي رؤية الهلال في بلد آخر.
وذهب المعتبرون لاختلاف المطالع أن رؤية الهلال في بلد لا تلزم في حق أهل بلد آخر، بل لكل بلد رؤيتهم مطلقا سواء تقاربت البلدان أم تباعدت وقد حكاه ابن المنذر عن عكرمة و القاسم بن محمد وسالم ابن عبد الله وإسحاق بن راهويه، وعزا ابن عبد البر هذا القول لابن عباس و ابن المبارك، كما عزاه إلى مالك فيما رواه المدنيون عنه، وإلى المغيرة وابن دينار وابن الماجشون من أتباع مالك(5) وحكاه الماوردي وجها للشافعية(6).
وفرق آخرون ممن يعتبرون اختلاف المطــــــــــــالع بين البلد القريب والبعيد، ويجعلون تقارب البلدان والأقطار في حكم بلد واحد، أما إذا تباعدت فلا تكون الرؤية ملزمة على أهل البلد الآخر، فأهل كل أفق يستقلون برؤيتهم، وهذا هو المعتمد عند الشافعية وبه قال الشيرازي وصححه الرافعي، وبه قال الزيلعي من الحنفية(7).
وقد اختلف فقهاء المذاهب اختلافا شديدا في ضابط القرب والبعد، وما اشترطوه من معيار البعد مبني في حقيقته على استدلال عقلي محض لا يشهد له دليل من الشرع.
وعند التمعن في سبب اختلاف العلماء في اعتبار اختلاف المطالع أو عدم اعتباره في ثبوت الأهلة يظهر رجوعه إلى:
أولا: صلاحية تخصيص عموم الخطاب لسائر المكلفين وتقييد مطلق الرؤية بالدليل العقلي.
ثانيا: في مطلقية مطلع الهلال من نسبيّته.
ثالثا: في تعارض النص والأثر، فهل كان رفض ابن عباس -رضي الله عنهما- الالتزام برؤية أهل الشام في قصة "كريب"(8) مبنيا على الرفع أم على الاجتهاد المحض؟
رابعا: في المعنى الذي يفيده حديث ابن عباس في قصة "كريب" هل يدل على معنى مغاير يقيّد به مطلق قوله -صلى الله عليه وسلم-: "صوموا لرؤيته و أفطروا لرؤيته" أم معناه مطابق له؟
فمن رأى أن عموم الخطاب بالصيام والإفطار متجه إلى من تحققت له رؤية الهلال ولمن حضره من أهل البلد والبلدان القريبة قيّد مطلق الرؤية بالدليل العقلي المتمثل في تباعد الأقطار والبلدان الذي يوجب في الواقع اختلاف المطالع دون تقاربها عادة، وأكد هذا المعنى بقياس مطلع القمر على مطلع الشمس باعتبار نسبية مطلعيهما شرقا وغربا، لأن كلا منهما له وضع كوني يؤثر في اختلاف أوقات العبـــــــــــادات وانعقاد الأهلة، أيده بانعقاد الإجماع المنقول عن أبي عمر بن عبد البر، وحصر اعتبار اختلاف المطالع في البلدان البعيدة دون غيرها على اختلاف في ضابط البعد.
ومن سوى في استقلال كل بلدة بالرؤية بنفسها بين تقارب البلدان وتباعدها فضلا عن أنه اعتمد الاجتهاد السابق في البعد، اعتبر أن رفض ابن عباس -رضي الله عنهما- الالتزام برؤية أهل الشام في قصة "كريب" مبنيّ على الرفع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- لعلمه بدليل يحفظه و إن لم يصرح به، وهو يفيد ما أفــــــــادته الآية في قوله -تعالى-: "فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهرَ فَليَصُمهُ"[البقرة: 185]، و حديث ابن عمر -رضي الله عنها- في قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تصوموا حتى تروا الهلال و لا تفطروا حتى تروه" من أن الشـــــــــــارع علق الحكم على رؤية البعض المعتبر الذي ينزّل منزلة الكل، و تبقى سائر البلدان الأخرى التي لم تر الهلال على مقتضى عموم الآية و الحديث القاضي بوجوب الصوم منوطـــــــــا برؤيتهم على انفراد مع انسحاب ذلك كله على سائر الأهلة، أثبت المعنى المغاير و قيّد به مطلق الرؤية الوارد في قوله -صلى الله عليه وسلم-: "صوموا لرؤيته و أفطروا لرؤيته" وجعل الحجة في القرب من جهة الحكم دالة على البعد بالأولوية.
ومن رأى أن عموم الخطاب في قوله -صلى الله عليه وسلم-: "صوموا لرؤيته و أفطروا لرؤيته" علقه الشرع بمطلق الرؤية و أن تباعد الأقطار لا يوجب اختلاف المطالع شرعا فلا يتقيد مطلق الرؤية بالدليل العقلي لاستواء القرب و البعد في علة الحكم و هي "مطلق الرؤية" إذ الشهر يثبت برؤية هلاله فلا تتعدد ولادته لتوسطه بين هلالين فولادته مطلقة لا تختلف وضعا كونيا بالنسبة لأهل الأفق فيتعذر إلحاقه بمطالع الشمس لنسبيتها و هو سبب الفرق في عدم إمكانية التسوية بينهما قياسا.
و رأى أن حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- في قصة "كريب" لم يورد ابن عباس فيه لفظ النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا معنى لفظه حتى يمكن النظر في عمومه وخصوصه، وعليه فلا يفيد المرفوع منه سوى مطابقة معناه لحديث: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" وما زاد عنه فهو اجتهاد محض في مقابلة النصوص الصريحة، و حال تعارض النص و الأثر فالحجة في صريح قوله -صلى الله عليه وسلم- لا في اجتهاد الصحابي و نظره، فلم يبق مُتمسَّك لهم في حديث "كريب" في تقرير اعتبار المطالع سواء تقاربت البلدان أو تباعدت، فثبت-عندهم- وجوب الصوم على المسلمين كافة لتحقق مناطه و هو مطلق الرؤية.
وفي تقديري أن الأصل العام الثابت الذي نهضت به الأدلة يقضي بوجوب أن يعمل أهل البلدان سواء كانت متقاربة أم متباعدة بعضهم بخبر بعض وشهادته في جميع الأحكـــــــــام الشرعية كحلول الدَّين و وقوع الطلاق والعتاق ووجوب النذر، والرؤية من جملتها، ذلك لأن العبرة بثبوت الشهر نفسه بمطلق الرؤية في قوله -تعالى-: "فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهرَ فَليَصُمهُ"[البقرة: 185] و أن شهود الشهر والتماس الرؤية فيه على الكفاية وقد علق الشارع عموم حكم الصيام والإفطار أيضا بمطلق الرؤية في قوله -صلى الله عليه وسلم-: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غمَّ عليكم فاقدروا له"(10) فهو يُجرَى على إطلاقه ويصدق برؤية البعض، ذلك لأن المطلق يتحقق في أي فرد من أفراده الشائعة في جنسه بمعنى أن عمومه بدلي لا شمولي كما هو مقرَّر أصوليا، فكأن صيغة الحديث وردت بهذا اللفظ: "صوموا وأفطروا إذا تحققت رؤية الهلال" أي مهما كان موقعها من القرب والبعد جريا على قاعدة أن "المطلق يُجرَى على إطلاقه ما لم يرد ما يقيده"، فاستوى القرب والبعد بين البلدان في مطلق الرؤية التي تُعَدٌّ علة الحكم، وعليه فإن اشتراط التباعد بين الأقطار تقييد وزيادة على النص يفتقر إلى دليل يقويه، وإذا انتفى عن الآية والحديث ما يقيدهما وجب العمل بإطلاقه، ومنه يتبين أن لا عبرة في اختلاف المطالع ووجوبُ صومه على الجميع بشهادة البعض المعتبر شرعا، إذ لا يخفى أن انعقاد الشهر إنما يثبت برؤية هلاله، وولادة الشهر لا تتعدد لوجود محله بين هلالين: الأول من ليلة رمضان، والأول من ليلة شوال، فإذا ثبتت ولادة الشهر برؤية الثقات في أول ليلة منه بمطلق الرؤية ثبت -عندئذ- انعقاده وتعلق وجوب الصيام به.
هذا ولا يمكن التمسك برواية ابن عمر -رضي الله عنهما- في قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تصوموا حتى تروا الهلال... " في تقييد الإطلاق الوارد في حديث: "صوموا لرؤيته" لأن ذلك إنما يصح التقييد به لو كان الخطاب فيه مختصا بكل قوم في بلدهم وليس الأمر كذلك لأن الخطاب الشرعي عام موجَّه إلى كافة المخاطبين ربطه الشارع بمطلق الرؤية، فكان محتوى الحديثين متحدا منطوقا و مفهوما لا اختلاف بينهما من حيث الإطلاق، بل الاستدلال بنص رواية ابن عمر مرفوعا: "لا تصوموا حتى تروا الهلال... " على العموم أولى منه على تخصيص الرؤية بكل قوم في بلدهم على انفراد ولا إلى فرد بخصوصه، ذلك لأن معنى شهود الشهر في الآية حضوره والعلم به لا رؤية هلاله، لذلك كان خبر البعض المعتبر الذي رآه ملزما لسائرهم فرؤية البعض رؤية لهم، إذ يلزم على العمل بظـــــــــــاهر الآية والحديث عدمُ الاعتداد برؤية البعض إلا إذا رأى كل فرد بعينه، وهذا الحكم يأباه الشرع والإجماع، إذ من المقرر اتفاقا أن ليس كل فرد من المسلمين مكلفا برؤية الهلال، ولا معلقا بوجوب صومه على رؤيته هو بمفرده، بل التماس الرؤية فرض على الكفاية لا واجب عيني، ولذا يثبت الصوم برؤية البعض المعتبر وشهادته، وعليه فالاستدلال بنصِّ الروايتين المتقدمتين على التعميم أظهر منه على التخصيص.
أما حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- وقصته مع "كريب" فجوابه من وجوه:
أولا: أنه خبر الواحد و هو غير كاف في شهادة الصوم، فلو تقوّى الخبر بمزيد من الرواة لأخذ به ابن عباس -رضي الله عنهما- ولاعتمد على رؤية الشام.
وهذا الجواب ليس بالقويّ لأن ما أفصح به "كريب" ليس بشهادة منه حتى يرفض ابن عباس ما أخبره به، وإنما هو خبر عن حكم بشهادة معتبرة و استفاض في الناس حتى بلغ التواتر و خبر الواحد في ذلك مقبول اتفاقا.
ثانيا: إن قول ابن عباس: "هكذا أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "فلا يلزم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمرهم بعدم الاعتداد برؤية غيرهم، و ليس أيّ منهما موجها إلى كل قوم في بلدهم على ما قرّره الشوكاني، كما أنه من جهة أخرى يمكن أنه أراد بقوله: "هكذا أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"الحديث العام لا حديثا خاصا بهذه المسألة على ما أفاده ابن دقيق العيد(11) إذ المرفوع منه لا يفيد سوى مطابقة معناه لدليل الجمهور على التزام مطلق الرؤية، و ما زاد عنه فهو محض اجتهاد منه لا يصلح حجة تخصص به الأدلة القاضية بتوحيد الرؤية و ذلك لأن ابن عباس -رضي الله عنهما- لم يأت بلفظ النبي - صلى الله عليه وسلم- و لا بمعنى لفظه حتى يحكم بعمومه و خصوصه إنما جاء بصيغة مجملة أشار إلى قصة هي عدم عمل أهل المدينة برؤية أهل الشام على التسليم أن ذلك هو المراد، و أضاف الشوكاني يقول: "ولم نفهم منه زيادة على ذلك حتى نجعله مخصصا لذلك العموم، فينبغي الاقتصار على المفهوم من ذلك الوارد على خلاف القياس و عدم الإلحاق به"(12).
ثالثا: إن حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- محمول على عدم تمكن أهل المدينة من العلم برؤية أهل الشام في رمضان وفي شوال كذلك فيستبقون على رؤيتهم، بمعنى أنه من صام على رؤية بلده ثم بلغه في أثناء رمضان أن الهلال رُئي في غير بلده قبل ذلك اليوم، ففي هذه الحالة يستمر في الصيام مع بلده حتى يكملوا الثلاثين أو يروا هلالهم، ويبقى ما عدا هذه الحالة على وجوب الصوم على المسلمين كـــافة عند تحقق مناط الحكم وهو مطلق الرؤية، أي أن يكون الحكم شاملا -بعد إخراج الحالة السابقة- كل من بلغه خبر رؤية الهلال من أي بلد أو إقليم من غير تحديد مسافة أصلا وبه ينتفي التعارض ويتم الجمع ويتحقق. هذا و قول ابن عباس -رضي الله عنهما- إن حمل على أنه مذهب الصحابي المشتهر الذي لم يعلم له مخالف من الصحابة، فإنما يصير إجماعا عند جماهير العلماء إذا لم يخالف نصا ثابتا، إذ المرفوع أولى من الموقوف مرتبة وحجة و عملا، كما يلزم منه أن يخالفه بعض الصحابة تطبيقا للنص العام الثابت القاضي بوجوب الصيام برؤية الهلال على عموم المخاطبين بمطلق الرؤية، وإن لم ينقل إلينا ذلك، وحينئذ لا يكون قول بعضهم حجة، إذ كلا القولين يحتمل الصواب، و عندئذ فالواجب التخير من أقوالهم بحسب الدليل ولا يجوز الخروج عنها.
ولو تمّ التسليم أن قول ابن عباس -رضي الله عنهما- اشتهر ولم يعرف له مخالف من الصحابة لكونه نطق بالصواب فأمسك بقية الصحابة عن الكلام في المسألة، فإن محل الإجماع إن تقرّر يرد على الاحتمال الأخير من حديث "كريب" الذي يتمثل فيمن صام على رؤية بلده ثم بلغه أثناء رمضان أن الهلال رُئي في غير بلده قبل ذلك اليوم، فيستمر في صيامه مع بلده حتى يكملوا الثلاثين أو يروا هلالهم، و بهذا التوجيه تجتمع الأدلة و تتحد الآراء.
أما استدلال تقي الدين السبكي بما يوميء أن ثمّة إجماعا قديما من الصحابة على اعتبار اختلاف المطالع فلم يرد ما يثبته، إذ لم ينقله إلينا أهل التواتر ولا أهل الآحاد، وكلا القسمين يحتاج إلى النظر من جهة النقل وثبوته، ومن جهة نوع الإجماع ومرتبته، لكن الإجماع المذكور ما هو في الواقع سوى استدلال عقلي على الإجماع بطريق اللزوم، و هذا الاستنتاج العقلي لا يقوى على مقابلة النصوص الثابتة، فضلا عن أنه لو كان ثابتا منعقدا لما اختلف الفقهاء بعده في هذه المسألة اختلافا ظاهرا، وجمهورهم على خلافه.
ولو سلمنا صحته وسلامة نقله لكان محمولا على الاحتمال الأخير توفيقا بين الأدلة و دفعا للتعارض جريا على قاعدة: "الجمع أولى من الترجيح".
أما الاستدلال بالإجماع الذي نقله ابن عبد البر -رحمه الله- في عدم مراعاة الرؤية فيما أخر من البلدان كالأندلس من خراسان، وكذلك كل بلد له رؤيته إلا ما كان كالمصر الكبير وما تقاربت أقطاره من بلاد المسلمين(13)، فقد تعقب الشوكاني دعوى الإجماع في "النيل"(14) بقوله: "ولا يلتفت إلى ما قاله ابن عبد البر من أن هذا القول -أي لزوم الرؤية للجميع- خلاف الإجماع، قال: لأنهم قد أجمعوا على أنه لا تراعى الرؤية فيما بَعُد من البلدان كخراســــــــــــــان والأندلس، وذلك لأن الإجماع لا يتمّ و المخالف هذه الجماعة" أي الجماعة المذكورة في "نيل الأوطار".
أما شيخ الإسلام ابن تيمية فقد حمل كلام ابن عبد البر على وجه حسن وهو عند التعذر من تبليغ خبر رؤية أهل الشرق لأهل الغرب و خاصة إذا كان الخبر لا يصل إلا بعد شهر، قال -رحمه الله- تعالى(15): "فالضابط أن مدار هذا الأمر على البلوغ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "صوموا لرؤيته" فمن بلغه أنه رُئي ثبت في حقه من غير تحديد بمسافة أصلا، وهذا يطابق ما ذكره ابن عبد البر في أن طرفي المعمورة لا يبلغ الخبر فيها إلا بعد شهر فلا فائدة فيه، بخلاف الأماكن التي يصل الخبر فيها قبل انسلاخ الشهر فإنها محل الاعتبار".
هذا و أما قياس مطلع القمر على مطلع الشمس فهو قياس مع ظهور الفارق، ذلك لأن مطلع الشمس نسبي بالإجماع أي يكون مشرقها و زوالها و مغربها يختلف باختلاف مواقع الأقطار على الأرض لمواجهة الشمس للأرض مباشرة، حيث تقابلها يوميا بالتدريج بينما ولادة القمر إنما تكون على وضع كوني مطلق، أي لا يختلف باختلاف الأقطار، و لا يتـــــأثر باختلاف أقاليم الأرض قربا وبعدا، ويدل على ذلك ويؤكده ما ثبت فَلَكيا في مدة مطلع القمر من أقصى بلد إسلامي إلى أقصاه في بلد آخر لا تتجاوز تسع ساعات، فلو كانت ولادة القمر أمرا نسبيا كمطلع الشمس لما حصل الاختلاف الشديد بين الأئمة والعلماء، لذلك لا يستوي قياسا إلحاق المطلق بالنسبي في تقرير اختلاف المطــــــالع وتأكيد اعتباره للفارق الظاهر بينهما، كما أن الاستدلال بالمعقول لا سند له من الشرع، و إنمـــــــــا هو استنتاج عقلي محض لا تقويه الأدلة بل تعارضه على ما هو معلوم من اختلاف العلماء وشدة تنازعهم في تقرير ضابط التباعد، وعليه فإنه إذا ثبتت ولادة القمر شرعا بالرؤية أي في أيّ مطلع فقد انعقد الشهر في حق المسلمين جميعا.
هذا والذي يمكن ترجيحه فقها و اختياره من مذاهب العلماء هو القول بتوحيد الرؤية الذي يوجب التوافق بين أحكام الشرع وأوضاع الكون، و يتفق مع رغبة الشريعة الإسلامية في وحدة المسلمين واجتمــــــــــــاعهم في أداء شعائرهم الدينية، لا سيما في عصرنا هذا حيث إن طرق الاتصال ميسرة ووسائل الإعلام المختلفة متوفرة تجعل البعيد قريبا والصعب سهلا، إذ تمكّن إعلام عموم المخاطَبين مهما اختلفت ديارهم وبلادهم برؤية الهلال في البلد الذي رُئي به شريطة تقييده باشتراك هذه البلدان مع بلد الرؤية بليل أو جزء منه كما هو الشأن في البلاد العربية، أما البلاد النائية التي تزيد مسافتها الزمنية عن يوم بحيث تكون في نهار عندما تكون بقية البلدان الإسلامية في جزء من الليل مما يوجب استحالة تحقق توحيد الرؤية وأداء فريضتهم من الصوم والإفطار في حقهم ذلك اليوم، فإنها تختص برؤيتها استثناء ولا يقاس غيرها عليها بالنظر إلى وضعها الكونيّ الخاص على الكرة الأرضية، عملا بقاعدة أن "ما ثبت على خلاف القياس فغيره عليه لا يقاس".
على أن الميزان المقاصدي يقتضي أنه إذا ثبت عند وليّ أمر المسلمين و إمامهم الأعلى أحد النظرين المُجتهد فيهما و أصدر حكما على وفقه لزم على جميع من تحت ولايته الالتزام بصوم أو إفطار لاعتقاده بأحقيته في اجتهاده -كما تقدم- ولو في خصوص بلد إسلامي، ولا تجوز مخالفته شرعا قولا واحدا درءً للتنازع ودفعا للمفسدة سواء عند من اعتبر المطالع في ثبوت الأهلة أو من نازعه في هذا الاعتبار.
والعلم عند الله -تعالى-،
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
1) تبيين الحقائق للزيلعي(321).
2) تفسير القرطبي(2/296)، مجموعة رسائل ابن عابدين (1/253).
3) مجموعة ابن عابدين(1/250).
4) الاستذكار لابن عبد البر (10/29)، بداية المجتهد لابن رشد (1/287)، أحكام القرآن لابن العربي (1/84)، المغني لابن قدامة (3/88)، فتح الباري لابن حجر (4/123)، مجموع فتاوى الفتاوى لابن تيمية (25/105)، المجموع للنووي (6/274)، نيل الأوطار للشوكاني (5/257)، مجموع رسائل ابن عابدين (1/251).
5) الاستذكار لابن عبد البر(10/29)، بداية المجتهد لابن رشد(1/287)، المجموع للنووي(6/273).
6) فتح الباري لابن حجر (4/123).
7) المجموع للنووي (6/273)، تبيين الحقائق للزيلعي (1/321).
8) و قصة كريب رواها الجماعة إلا البخاري وابن ماجه أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام، قال: فقدمت الشام فقضيت حاجتها، واستهل عليَّ هلال رمضان وأنا بالشام، فرأينا الهلال ليلة الجمعة، ثم قدمت المدينة آخر الشهر، فسألني ابن عباس، ثمّ ذكر الهلال فقال: متى رأيتم الهلال؟ قلت: رأيناه ليلة الجمعة، فقال: أنت رأيته؟ قلت: نعم ورآه الناس و صاموا و صام معاوية، فقال: لكنّا رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه، فقلت: أوَلا تكتفي برؤية معاوية و صيامه؟ فقال: لا، هكذا أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
9) متفق عليه.
10) متفق عليه.
11) الإحكام في شرح عمدة الأحكام لابن دقيق(2/207).
12) نيل الأوطار للشوكاني (5/259).
13) الاستذكار (10/30).
14) (5/259)
15) المجموع(25/107).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد