بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين، وبعد: فإلى أخوتي وأحبتي في الله، إلى من استشهد الله بهم على أجل وأعظم مشهود عليه: توحيده الذي أنزل به كتبه، وأرسل به رسله، وخلق الثقلين ليعبدوه به، إلى من استشهد بهم على هذا الأمر، ولم يذكر لهم وصفاً غير وصفهم بالعلم، لأن المفترض في طالب العلم أن يكون على حال تؤهله للشهادة بالحق وعلى الناس يوم يقوم الأشهاد، لا لشهادة الناس عليه بالتقصير في البلاغ والبيان.
إلى من اصطفاهم الله لحمل شرعه، واستحفظهم كتابه، إلى من تفرش لهم الملائكة أجنحتها، ويستغفر لهم من في السموات ومن في الأرض، حتى الحيتان في الماء، إلى من أخذ عليهم العهد بالبيان وألا يشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً، إلى من هم أعلم الناس بالله وشرعه (وَيَرَى الَذِينَ أُوتُوا العِلمَ الَذِي أُنزِلَ إلَيكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الحَقَّ) [سبأ]، (وإذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعيُنَهُم تَفِيضُ مِنَ الدَّمعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الحَقِّ) [المائدة 83]، (أَفَمَن يَعلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إلَيكَ مِن رَّبِّكَ الحَقٌّ كَمَن هُوَ أَعمَى..) [الرعد، 19]..
إلى من هم أعلم الناس وأدرك الناس لمدلول ومقتضى نصوص المراقبة ومدلول ومقتضى نصوص إرادة الدنيا بعمل الآخرة كقوله - سبحانه -: (واعلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُم فَاحذَرُوهُ) [البقرة 253]، (يَعلَمُ خَائِنَةَ الأَعيُنِ ومَا تُخفِي الصٌّدُورُ) [غافر 19]، (وأَسِرٌّوا قَولَكُم أَوِ اجهَرُوا بِهِ إنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصٌّدُورِ) [الملك 13]، وكقوله - سبحانه -: (مَن كَانَ يُرِيدُ الحَيَاةَ الدٌّنيَا وزِينَتَهَا نُوَفِّ إلَيهِم أَعمَالَهُم فِيهَا وهُم فِيهَا لا يُبخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَذِينَ لَيسَ لَهُم فِي الآخِرَةِ إلاَّ النَّارُ) [هود 15]، (مَن كَانَ يُرِيدُ العَاجِلَةَ عَجَّلنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نٌّرِيدُ ثُمَّ جَعَلنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصلاهَا مَذمُوماً مَّدحُوراً) [الإسراء 18]، (وَلا تَشتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلا تَلبِسُوا الحَقَّ بِالبَاطِلِ وَتَكتُمُوا الحَقَّ وَأَنتُم تَعلَمُونَ) [البقرة 42].
إلى هؤلاء أوجه تذكيري ونصحي، لا لأني أديت واجباً فأنا في مقدمة المقصرين وصغار طلبة العلمº ولكن لتجربة مرت بي، فقد حصل لي نصائح ممن هو أقل مني سناً وعلماً كان لها أثر في نفسي - جزى الله من أسداها إلي خيراً - وقديماً قيل: قد يكون في النهر ما ليس في البحر.
قال - عليه الصلاة والسلام -: (رب مبلَّغ أوعى من سامع)، وقال - تعالى -عن نبيه موسى أنه قال للخضر: (هَل أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمتَ رُشداً) [الكهف 66]، وأخص بتوجيه نصيحتي بعد تعميمها الذي هو الأصل، ذوي الصلة القوية بالسلاطين والمترفين، فإن الافتتان - حسب السنن - أسرع إليهم منه إلى غيرهم، بل إليهم أسرع من السيل إلى منحدره - وقانا الله وإياهم شر الافتتان - قال - عليه الصلاة والسلام -: (من بدا جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى أبواب السلاطين افتتن) [1] - أي عرض نفسه للفتنة - وقال - عليه الصلاة والسلام -: (ما ذئبان جائعان أرسلا في زريبة غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه) [2]، إلى هؤلاء وأمثالهم من المتسابقين إلى أعتاب المترفين والمبادرين بتأول أخطائهم وتبرير وتأييد ما هو محل نظر من أفعالهم، وإلى من يسعون كثيراً مع عالم مصلح ليعدل عن عمل بر بدأه، أو ليسكت عن منكر أنكره، فإني أخاف على نفسي وعليهم في موقف ما من خطورة مخالفة ما استحفظهم الله إياه أمثال: (ولا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثمِ والعُدوَانِ) [المائدة 12]، (رَبِّ بِمَا أَنعَمتَ عَلَيَّ فَلَن أَكُونَ ظَهِيراً لِّلمُجرِمِينَ) [القصص 17]، (إنَّا أنزَلنَا إلَيكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحكُمَ بَينَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ولا تَكُن لِّلخَائِنِينَ خَصِيماً * واستَغفِرِ اللَّهَ إنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً * ولا تُجَادِل عَنِ الَذِينَ يَختَانُونَ أَنفُسَهُم إنَّ اللَّهَ لا يُحِبٌّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً * يَستَخفُونَ مِنَ النَّاسِ ولا يَستَخفُونَ مِنَ اللَّهِ وهُوَ مَعَهُم إذ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرضَى مِنَ القَولِ وكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعمَلُونَ مُحِيطاً * هَا أَنتُم هَؤُلاءِ جَادَلتُم عَنهُم فِي الحَيَاةِ الدٌّنيَا فَمَن يُجَادِلُ اللَّهَ عَنهُم يَومَ القِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيهِم وكِيلاً) [النساء 109] (واحذَرهُم أَن يَفتِنُوكَ عَن بَعضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إلَيكَ) [المائدة 49] (ثُمَّ جَعَلنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ, مِّنَ الأَمرِ فَاتَّبِعهَا ولا تَتَّبِع أَهوَاءَ الَذِينَ لا يَعلَمُونَ * إنَّهُم لَن يُغنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيئاً وإنَّ الظَّالِمِينَ بَعضُهُم أَولِيَاءُ بَعضٍ, واللَّهُ ولِيٌّ المُتَّقِينَ) [الجاثية 19] (ذَلِكَ بِأَنَّهُم قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُم فِي بَعضِ الأَمرِ واللَّهُ يَعلَمُ إسرَارَهُم) [محمد 19].
فيا علماء المسلمين الموقعين عن رب العالمين: المفترض فيكم أن تكون أعمالكم وأقوالكم ومعاملاتكم مادية أو أدبية بياناً وتفسيراً وإظهاراً لشرع الله، أقول لكم مذكراً لا معلماً: تنبهوا جيداً لما يصدر منكم من أقوال أو أفعال أو تقريرات حول الأمور العامة، وما يطلبه ولاة الأمر خاصة، فقد يؤخذ عنكم أمر يصعب عليكم تداركه، وتحقيق قول الله فيه: (إلاَّ الَذيِنَ تَابُوا وأَصلَحُوا وبَيَّنُوا) [البقرة 160] فيما لو استبان لكم خطؤه بعد.
فلا أخطر على الأمة أفراداً أو جماعات، حكاماً أو محكومين من تأول أو تساهل أو زلة عالم - وقانا الله وإياكم شرها - اذكروا في كل ما تأتون وما تذرون وخاصة في هذا الشأن، موقفكم أمام الله الذي لا تخفى عليه خافية، الذي أوجدكم وعلمكم لتكونوا شهداء على الناس بالبيان والبلاغ الحق يوم يقوم الإشهاد يوم لا خلة ولا شفاعة، يوم يتبرأ المتبوعون من التابعين، فلقد وجدتم وعلمتم لتُتَّبَعوا بعلمكم لا لتتبعوا به، ولم يكن ذلك بالنسبة لكم محل اختيار، فأوامر الله تقتضيه، وما يهدد به تلاحم العلماء، والتفاف الشباب حولهم يستدعيه، فلقد أدركت قوى الشر أن ذلك قوة تهدد مصالحها فأخذت تعمل جادة بأساليبها المتنوعة على خلخلة مكانة العلماء في النفوس أحياء أو أمواتاً لتفصل من استطاعت فصله عنهم، كفصل عربات القطار عن غرفة قيادتها، مما يتطلب منكم تضييق المجال أمامها ومواقف أسلافكم وتحفظاتهم معروفة لديكم، ومن أقربها فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ - رحمه الله -، وبالأخص ما هو موجه منها لولاة الأمر، أو يتعلق بالتوحيد أو بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ربط الله خير أولكم بآخركم، وخير آخركم بأولكم، وجعلني وإياكم خير خلف لخير سلف، صدقوا ما عاهدوا الله عليه نصيحة أخ مشفق على نفسه وعليكم وعلى الأمة التي خيرتها وحياتها العادلة السالمة من الغلو والجفاء في التأصيل بكم في كل أمر من أمورها، أقر الله أعينكم بذلك وأبعدكم عن ضده مما أبرزه العلماء للعلماء تحذيراً لهم من الوقوع فيه.
قال ابن رجب - رحمه الله - في شرحه لحديث ما ذئبان جائعان: واعلم أن الحرص على الشرف يستلزم ضرراً عظيماً قبل وقوعه، في السعي في أسبابه، وبعد وقوعه، بالحرص العظيم الذي يقع فيه صاحب الولاية من الظلم والتكبر وغير ذلك من المفاسد، وقد صنف أبو بكر الآجري - وكان من العلماء الربانيين في أوائل المائة الرابعة مصنفاً في أخلاق العلماء وآدابهم، وهو من أجل ما صنف في ذلك، ومن تأمله علم منه طريقة السلف من العلماء، والطريق التي حدثت بعدهم المخالفة لطريقتهم، فوصف فيه عالم السوء بأوصاف طويلة منها أنه قال: وقد فتنه حب الدنيا: الثناء والشرف والمنزلة عند أهل الدنيا، يتجمل بالعلم كما تتجمل بالحلية الحسناء للدنيا...
فتذلل للملوك وأتباعهم فخدمهم بنفسه، وأكرمهم بماله، وسكت عن قبيح ما ظهر له من الدخول في إيواناتهم وفي منازلهم من أفعالهم، ثم قد زين لهم كثيراً من قبيح فعلهم بتأويله الخطأ ليحسن موقعه عندهم، فلما فعل هذا مدة طويلة واستحكم فيه الفساد ولّوه القضاء فذبحوه بغير سكين، فصارت لهم عليه منة عظيمة، ووجب عليه شكرهم فآلم نفسه لئلا يغضبهم عليه فيعزلوه عن القضاء، ولم يلتفت إلى غضب مولاه الكريم..
إلى قوله عنه فالويل لمن أورثه علمه هذه الأخلاق، وهذا العلم هو الذي استعاذ منه النبي - صلى الله عليه وسلم...
وكان يقول: اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعاء لا يسمع، إلى قوله: هذا كلام الإمام أبي بكر الآجري - رحمه الله -، وكان في أواخر الثلاثمائة، ولم يزل الفساد بعده متزايداً على ما ذكرناه أضعافاً مضاعفة، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
وقال - رحمه الله -: - أعني بن رجب - ومن دقيق آفات حب الشرف طلب الولايات والحرص عليها، وهو باب غامض لا يعرفه إلا العلماء بالله العارفون به، المحبون له، الذين يعادون له من جهال خلقه، المزاحمون لربوبيته وإلهيته، مع حقارتهم وسقوط منزلتهم عند الله وعند خواص عباده العارفين به كما قال الحسن - رحمه الله - فيهم: إنهم وإن طقطقت بهم البغال وهملجت بهم البراذين فإن ذل المعصية في رقابهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه..
وقال: ومن هذا الباب أيضاً أن يحب ذو الشرف والولاية أن يحمد على أفعاله ويثنى عليه بها، ويطلب من الناس ذلك ويتسبب في أذى من لا يجيبه إليه، وربما كان ذلك الفعل إلى الذم أقرب منه إلى المدح، وربما أظهر أمراً حسناً، في الظاهر وأحب المدح عليه وقصد به في الباطن شراً، وفرح بتمويه ذلك وترويجه على الخلق، وهذا يدخل في قوله - تعالى -: (لا تَحسَبَنَّ الَذِينَ يَفرَحُونَ بِمَا أَتَوا ويُحِبٌّونَ أَن يُحمَدُوا بِمَا لَم يَفعَلُوا فَلا تَحسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٍ, مِّنَ العَذَابِ) [آل عمران 188]، فإن هذه الآية إنما نزلت فيمن هذه صفاته وهذا الوصف - أعني طلب المدح من الخلق ومحبته والعقوبة على تركه - لا يصلح إلا لله وحده لا شريك له.
ومن هنا كان أئمة الهدى ينهون عن حمدهم على أعمالهم وما يصدر منهم من الإحسان إلى الخلق، ويأمرون بإضافة الحمد على ذلك لله وحده لا شريك له فإن النعم كلها منه... ا. هـ.
وبهذا وبأمثاله يتذكر طالب العلم أن قيمته في دنياه وأخراه في صيانة علمه، وتقوى الله فيه، وبعده به أن يشتري به ثمناً قليلاً، وأنه كلما ابتعد عن المجالس التي لا يقول في أهلها قولته فيهم أمامهم كما يقولها فيهم إذا خرج من عندهم وابتعد كذلك عما تطوق به الرقاب وتخرس به الألسن من أعطيات خاصة به مادية أو أدبية كلما كان أثبت لجأشه وأكثر لاحترامه وأدعى لقبول قوله، وإنه بفقدان ذلك يهون هواناً عظيماً أشبه بهوان اليد التي كانت ثمينة لما كانت أمينة ولما خانت هانت.
وليعتبر علماؤنا بموقف الشيخ سعيد الحلبي عالم الشام في عصره، حين دخل عليه الجبار إبراهيم باشا وكان في حلقة العلم مع طلابه ماداً رجله، فما غيَّر جلسته، وما أَبَه لهذا الداخل الذي كانت تهتز لمروره الأرض، ثم بعد خروجه أرسل له رسولاً معه صرة من المال ليقدمها إليه هدية من الأمير يستعين بها على قضاء حوائجه فقال للرسول: قل للأمير، إن من يمد رجله لا يمد يده! [3] وأختم النصح بأنه إذا كان لطالب العلم في أي عصر أو مصر مكانة وصدارة حقة يؤدي فيها وبها واجب النصح الحقيقي المأخوذ به العهد فغشيان أبوابهم لنصحهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر أولى من البعد عنهم.
أما من لم يكن كذلك فيفر منهم فراره من الأسد حفاظاً على نفسه من الافتتان.
(رَبَّنَا لا تُزِغ قُلُوبَنَا بَعدَ إذ هَدَيتَنَا) [آل عمران8] (رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلتَ واتَّبَعنَا الرَّسُولَ فَاكتُبنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) [آل عمران 53].
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه.
ــــــــــــــــــــ
(1) صحيح الجامع 6122.
(2) حديث صحيح رواه أحمد والنسائي وغيرهما.
(3) والقصة في كتاب:رجال من التاريخ، لعلي الطنطاوي.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد