بسم الله الرحمن الرحيم
تعريف الولاية:
الفصل الأول: من تثبت عليه الولاية:
من عظيم حكمة الله - سبحانه وتعالى - ورحمته بخلقه، أنّه خلق الإنسان أطوارًا وأركبه طباقًا، ونقله من حالٍ, إلى حال. فهو يخرج من بطن أمه ضعيفًا، نحيفًا، وهن القوى، ثم يشب قليلاً حتى يكون صغيرًا، ثم حدثًا، ثم مراهقًا، ثم شابًا، كما قال - تعالى -: \"الله الذي خلقكم من ضعفٍ, ثم جعل من بعد ضعفٍ, قوةٍ,\" [الروم: 54].
وكما ابتدأ ضعيفًا فإن الله يصيّره من بعد قوّته ضعيفًا هرمًا، حتى لا يكاد يدبّر أموره، ولا يلبي شئونه، وكما قال أسامة بن منقذ وقد أعياه حمل القلم بعد ما شاخ:
فأعجب لضعف يدي عن حملها قلمًا *** من بعد حـمل القنا في لبّة الأسد
وكذلك فإن الله يبتلي بعض عباده بأنواع من العاهات، كالجنون ونحوه، مما يفقد الإنسان تمييزه، ولا ريب أن هؤلاء ليسوا بأهلٍ, للتصرٌّف.
فمن رحمة الله - تعالى -أن اعتبرت الشريعة الإسلامية الولاية على الغير في حال عجزه عن النظر في مصالحه.
ونتناول في هذه الدراسة الولاية الجبريّة على الغير في الأمور الماليّة وذلك من خلال ما سيأتيك تباعًا من تمهيدٍ, وفصولٍ, ثلاثة. وفق الله الجميع لهداه.
تعريف الولاية:
أولاً: الولاية في اللغة:
الولاية بكسر الواو مصدر وَلِي، ووَلَي(1) والثانية قليلة الاستعمال(2) يلي وهي تعني القيام على الغير وتدبيره(3).
وتكون الولاية بمعنى القرابة والنّصرة، والمحبة(4). فتأتي الواو مفتوحة ومكسورة(5).
وكلا المعنيين مراعى في الولاية: لأنّها تحتاج من الوليّ إلى التدبير والعمل..كما تحتاج إلى نصرة المولى عليه، والنّسب دَعَامَة قويّة من دعائم تحقيق هذه النصرة(6).
وإن كان الأوّل هو المقصود بهذا البحث.
ثانيًا: الولاية في الاصطلاح:
هي حَقٌّ تنفيذ القول على الغير، شاء الغير أو أبى(7). فيكون الوليّ من له حق القول على الغير.
وقد انتقد الشيخ مصطفى الزرقا هذا التعريف، إذ قال: (وهذا التعريف غير سديدº لأنه يعرف الولاية ببيان حكمها. لا بشرح حقيقتها) أ. هـ(8).
واختار أن يكون التعريف هو: قيام شخص كبير راشد على شخص قاصر في تدبير شئونه الشخصية والمالية(9).
والحقيقة أن التعريف ببيان الحكم أو اللوازم الخارجية - وهو الذي يسمّيه علماء المنطق بالحد الرسمي(10)- نوع معتبر من أنواع المعرفات، فلا ضير في استعماله.
الفصل الأول: من تثبت عليه الولاية:
تثبت الولاية على الصغير، والمجنون ومن في حكمه والمملوك، والسفيه، فهؤلاء تثبت عليهم الولاية. ونفاذ تصرّفاتهم خاضع لعدة اعتبارات. وهناك من لا يولي عليه لكنه يُمنع من التصرف بنوع، أو أنواع من التصرفات كالمريض مرض الموت، والمفلس، وغيرهما، وهذا القسم الأخير غير داخل في بحثنا إذ أنّه لا يولي عليهم.
وسنستعرض الآن هذه الأصناف الأربعة:
أولاً: الصغير..
الصغير في اللغة: ضد الكبير(11).
وهو في عرف الفقهاء: من لم يبلغ من ذكرٍ, وأنثى(12).
والصغير تثبت عليه الولاية باتفاق أهل العلم(13)º لقوله - تعالى -: \"وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدًا فادفعوا إليهم أموالهم\" [النساء: 6].
فلمّا بين أنه لا يجوز دفع المال قبل بلوغ النكاح وإيناس الرشد دلّ ذلك على ثبوت الولاية على غير البالغ(14).
ثانيًا: المجنون...
المجنون في اللغة من أصابه الجنون.
والجنون استتار العقل. واختلاطه، وفساده(15).
وهو في عرف الفقهاء: زوال العقل وفساده(16).
وقد اتفق الفقهاء على إثبات الولاية على المجنون(17).
وفي حكم المجنون المعتوه، ومن أصابه الخرف لكبر سنه.
فإنّ العته نوع من الجنونº إذ هو زوال العقل(18).
إلاّ أنّ الحنفية فرّقوا بينهما فجعلوا العته نوعًا مختلفًاº فهو عندهم من كان قليل الفهم، مختلط الكلام، فاسد التدبير، إلا أنه لا يضرب ولا يشتم كما يفعل المجنون(19).
إلاّ أنه على هذا الاعتبار أيضًا فإنّ المعتوه تثبت عليه الولايةº إذ أن الحنفية يلحقونه بالصبي المميّز(20).
ثالثًا المملوك...
المملوك تثبت عليه الولاية باتفاق(21)º وذلك لعجزه ونقصان رتبته حكمًاº قال - تعالى -: \"ضرب الله مثلاً عبدًا مملوكًا لا يقدر على شيء\" [النحل: 75].
رابعًا السَّفِيه...
يقال سَفِه فلان سَفَاهةً فهو سَفِيه(22).
والسَّفَه نقص في العقل، وهو ضد الحلم(23).
وفي الاصطلاح: خفّةٌ تبعث على العمل في المال بخلاف مقتضى العقل والشرع(24).
وقد اختلف الفقهاء في السَّفيه هل يحجر عليه، على قولين:
القول الأول: لا يحجر على الحر البالغ. وإن كان سفيهًا. وإنّما يوقف تسليم المال إليه حتى يبلغ خمسًا وعشرين سنة، فإذا بلغها سلم إليه ماله. وإن كان مبذرًا.
وبه قال أبو حنيفة(25).
القول الثاني: يحجر على السّفيه مطلقًا. وبه قاله أبو يوسف ومحمد بن الحسن(26)، وهو مذهب المالكية(27) والشافعية(28) والحنابلة(29).
الأدلة:
استدل أصحاب القول الأول بعدّة أدلة منها ما يلي:
1- عمومات الأدلة في البيع، والهبة، والإقرار، من نحو قوله - تعالى -: \"وأحل الله البيع\" [القرة: 282]. فقد شرع الله هذه التصرفات شرعًا عامًا والحجر على السفيه يناقض هذه الأدلة(30).
يمكن أن يناقش: بأن عمومات النصوص خص منها المجنون والصغير بالاتفاق، فليكن السفيه مخصوصًا كذلك بالأدلة الدالة على الحجر عليه.
2- عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رجلاً ذكر للنبي أنه يخدع في البيع فقال إذا بايعت فقل: \"لا خلابة\"(31).
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رجلاً كان يبايع وكان في عقدته(32) ضعف، فدعاه النبي - صلى الله عليه وسلم - فنهاه عن البيع، فقال يا رسول الله إنّي لا أصبر عن البيع فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"إن كنت غير تارك للبيع فقل هاء وهاء ولا خلابة\"(33) (34).
ففي الحديثين دليل على أنّه لا يحجر على الكبير ولو تبين سفهه(35).
نوقش: بأن عدم الحجر عليه لا يدل على منع الحجر على السفيه، لأنه لو كان الحجر عليه لا يصح لأنكر عليهم طلبهم الحجر عليه(36).
3- أن في الحجر عليه سلبٌ لولايته، وسلبها إهدار لآدميته وإلحاق له بالبهائم وهو أشد ضررًا من التبذير، فلا يتحمل الأعلى لدفع الأدنى. فلا يحجر عليه ولو كان مبذرًا منعًا للضرر الأعلى(37).
يمكن أن يناقش: بأن الحجر عليه لحظ نفسه حفظًا لأمواله، وإلحاقه بالبهائم منتقضٌ بالعبد، والصغير، والمجنون، فإنهم يحجر عليه مع آدميتهم.
4- أن منع المال منه يُرادُ منه التأديب، ومنع المال منه بعد بلوغ خمسٍ, وعشرين لا فائدة منه إذ لا يتأدب بعد هذا السن غالبًا، إذ قد يصير جَدًّا في مثل هذا السن(38).
نوقش: أنّ ما ذكر من كونه جدًّا مُتَصَوَّرٌ فيمن له دون هذا السن، فإن المرأة تكون جَدّةً لإحدى وعشرين سنَة(39) فظهر بهذا عدم صحة تعليق الحكم بهذا الوصف وهو بلوغ خمس وعشرين سنة.
5- أن السَّفيه حرٌ بالغ عاقل مُكَلَّف، فلا يحجر عليه كالرشيد(40).
نوقش: بأن القياس منتقض بمن له دون خمس وعشرين سنة، فإنه بالغ حر عاقل مكلف ويمنع من ماله لسفهه اتفاقًا. وما أوجب الحجر قبل خمس وعشرين يوجبه بعدها(41).
واستدل أصحاب القول الثاني بعدّة أدلة منها ما يلي:
1- قوله - تعالى -: \"وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدًا فادفعوا إليهم أموالهم\" [النساء: 60].
فقد علّق الدفع على شرطين، والحكم المعلّق على شرطين لا يثبت بدونهما فلا يدفع المال إلا للرشيد البالغ(42).
2- قوله - تعالى -: \"ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قيامًا\" [النساء: 5].
فقد بين أنّ السفيه لا يجوز دفع ماله إليه(43)، فدلّ على أن سبب الحجر هو السَّفَه(44).
نوقش:
1- بأن المراد بالسفهاء النساء والأولاد الصغار(45).
2- كما نوقش بأن المراد لا تؤتوهم مال أنفسكمº لأنّ الله - سبحانه - أضاف المال إلى المعطي(46).
وأجيب: بأن القول بأنّ السفهاء النساء غير صحيحº فإنما تقول العرب في النساء سفائه أو سفيهات(47).
كما أجيب بأنّ إضافة المال للمخاطبين، لأنها بأيديهم وهم الناظرون فيها، فنسبت إليهم مع كونها للسفهاء(48).
3- قوله - تعالى -: \"فإن كان الذي عليه الحق سفيهًا أو ضعيفًا أو لا يستطيع أن يُمِلَّ هو فليملل وليه بالعدل\" [البقرة: 282].
فأثبت الولاية على السفيه كما أثبتها على الضعيف، وكان معنى الضعيف راجعًا إلى الصغير ومعنى السفيه إلى الكبير البالغº لأن السفه اسم ذمٍّ, ولا يذم الإنسان على ما لم يكتسبه(49).
4- روى عروة بن الزبير أنّ عبد الله بن جعفر ابتاع بيعًا، فقال علي - رضي الله عنه -: لآتينَّ عثمان ليحجُر عليك. فأتى عبد الله بن جعفر الزٌّبيرَ، فقال: قد ابتعت بيعًا، وإنّ عليًا يريد أن يأتي أمير المؤمنين عثمان فيسأله الحجر عليَّ. فقال الزبير: أنا شريكك في البيع. فقال عثمان: كيف أحجُر على رجلٍ, شريكه الزبير(50).
وهذه قصة يشتهر مثلها، ولم يخالفها أحدٌ في عصرهم، فتكون إجماعًا(51).
5- أن الحجر على الصغار إنما وجب لمعنى التبذير، وعدم الرشد، الذي يوجد فيهم، -غالبًا- فوجب أن يكون الحجر على من وجد فيه هذا المعنى وإن لم يكن صغيرًا(52).
الترجيح:
بعد تأمٌّلِ ما سبق يظهر لي رجحان القول الثاني لشهرة الحجر على السَّفيه عند الصحابة كما في حديث لا خلابة، وقصة عبد الله بن جعفر، مع ما ورد على أدلة القول الأوّل من مناقشات، والله أعلم.
----------------------------------------
(1) شذا العرف في فن الصرف ص (69)، وفيه أيضًا أن الولاية من الحرفº لذا كان قياس مصدره فعالة بكسر الفاء.
(2) المصباح المنير ص (258) (ولي).
(3) لسان العرب (15/4070)، معجم مقاييس اللغة (6/141) (ولي).
(4) المرجعان السابقان.
(5) المصباح المنير ص (258) (ولي).
(6) الولاية على النفس للدكتور حسن علي الشاذلي ص (4).
(7) التعريفات للجرجانيº القاموس الفقهي لغة واصطلاحا لسعدي أبو جيب ص (390)º معجم الفقهاء ص (510).
(8) المدخل الفقهي العام (2/845).
(9) المدخل الفقهي العام (2/843).
(10) شرح الأخضري على السلم، ص (28)º معايير الفكر د. محمد الفرفور ص (54)º ضوابط المعرفة للميداني ص (58).
(11) لسان العرب لابن منظور (4/458)º القاموس المحيط ص (545)، (الصغر).
(12) العناية شرح الهداية (8/201). بداية المجتهد (2/211)º مغني المحتاج (2/166)º كشاف القناع (3/442).
(13) المراجع السابقة وانظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (5/29).
(14) النظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (5/28).
(15) القاموس المحيط ص (1532) (جنه)، المصباح المنير ص (43) (جنن)º تهذيب الأسماء واللغات (3/52).
(16) التعريفات للجرجاني ص (82)º القاموس الفقهي لسعدي أبو جيب ص (69).
(17) تكملة فتح القدير شرح الهداية (8/186)º التاج والإكليل (5/57)º مغني المحتاج (2/165)º كشاف القناع (3/446)º الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (5/29).
(18) تهذيب الأسماء واللغات (3/190) الدر النقي (3/619).
(19) حاشية ابن عابدين (6/144).
(20) المبسوط (25/21)º الكفاية شرح الهداية (8/187).
(21) العناية شرح الهداية (8/186)º قوانين الأحكام الشرعية لابن جزي ص (350)º مغني المحتاج (2/165)º معونة أولي النهى (4/567).
(22) المصباح المنير ص (106) (سفه).
(23) معجم مقاييس اللغة (3/79)، (سفه)º القاموس المحيط (1609) (سفه).
(24) التعريفات للجرجاني ص (125)º القاموس الفقهي ص (174).
(25) الهداية (8/191)º بدائع الصنائع (6/172).
(26) الهداية (8/191)º بدائع الصنائع (6/172).
(27) المدونة (5/220)º التاج والإكليل (5/85).
(28) روضة الطالبين (3/465)º مغني المحتاج (2/170).
(29) المغني لابن قدامة (6/609)º كشاف القناع (3/452).
(30) بدائع الصنائع (6/174).
(31) صحيح البخاري كتاب البيوع، باب ما يكره من الخداع في البيع رقم (2117)، فتح الباري (4/395)، صحيح مسلم كتاب البيوع باب من يخدع في البيع رقم (1533) (3/1165).
(32) أي في رأيه ونظره في مصالح نفسه. لسان العرب (3/299) (عقد).
(33) بكسر المعجمة وتخفيف اللام أي لا خديعة. فتح الباري (4/396).
(34) سنن أبي داود كتاب البيوع باب في الرجل يقول لا خلابة رقم (3496)، عون المعبود (9/278)º سنن الترمذي أبواب البيوع باب ما جاء في من يخدع في البيع رقم (1268)º تحفة الأحوذي (4/455)، سنن النسائي الصغرى، كتاب البيوع باب الخديعة في البيع رقم (4485) (7/252)، سنن ابن ماجة كتاب الأحكام باب الحجر على من يفسد ماله رقم (2354) (2/788). من طريق سعيد عن قتادة عنه به. وقد صححه الألباني في صحيح الجامع الصغير رقم (411) (1/134).
(35) فتح الباري (4/396).
(36) المرجع السابق.
(37) الهداية (8/193).
(38) الهداية (8/194)
(39) المغني لابن قدامة (6/596).
(40) الهداية (8/193).
(41) المغني لابن قدامة (6/596).
(42) المرجع السابق.
(43) الجامع لأحكام القرآن (5/27).
(44) بداية المجتهد (2/210).
(45) بدائع الصنائع (6/174).
(46) المرجع السابق.
(47) الجامع لأحكام القرآن (5/28).
(48) الجامع لأحكام القرآن (5/29).
(49) المغني لابن قدامة (6/596).
(50) أخرجه الشافعي في مسنده رقم (286)، والبيهقي في السنن الكبرى (6/61).
(51) المغني لابن قدامة (6/610).
(52) بداية المجتهد (2/210).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد