حكم الأناشيد في المساجد وغيرها


بسم الله الرحمن الرحيم

ينبغي أن تعقد في المسجد ندوات لشعراء المسلمين، الذين سخروا شعرهم للدعوة إلى الله والذب عن دينه، لحض الشباب على العبادة وحَسَنِ الأخلاق، ولتحميسه ودفعه إلى الجهاد في سبيل الله، وأن تنظم الأناشيد الخفيفة ذات المعاني الجميلة، التي تتضمن حب الله ورسوله وحب دين الإسلام وعباد الله الصالحين، وتلقن للصغار حتى يحفظوها ثم ينشدوها في المسجد أمام زملائهم.

إن الأناشيد من أهم المرغبات للأحداث لحضور المكان الذي تنشد فيه. وإنشاد الشعر الذي فيه دعوة إلى الله، أو المباح الذي لا يتعارض مع الآداب الإسلامية، مأذون فيه شرعاً في المسجد وخارج المسجد.

وقد تشدد من يجهلون أو يتجاهلون هذه المشروعية في هذا العصر، أو اجتهدوا في ذلك اجتهادا مخالفا لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكرهوا إنشاد الشعر في خارج المسجد فما بالك بالمسجد؟ ولكن جهل الجاهل أو اجتهاد المخطئ، لا يجوز أن يغير من شرع الله شيئاً.

أدلة مشروعية إنشاد الشعر في المساجد

والأدلة على جواز إنشاد الشعر في المسجد وخارجه، صحيحة وصريحة، وها أنا أسوق شيئاً منها.

فقد مدح الرسول - صلى الله عليه وسلم - الشعر، كما روى أبي بن كعب - رضي الله عنه -، قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن من الشعر حكمة) [صحيح البخاري(5/2276). ]

دل هذا الحديث على أن من الشعر ما هو ممدوح، لأن الحكمة صفة مدح، والله - تعالى -يقول: ((ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً)) [البقرة: 269].

وقد كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حادٍ, حسنُ الصوت يحدو له في أسفاره، يقال له أنجشة، وقال له ذات مرة: (ويحك يا أنجشة رويدك سوقك بالقوارير) [صحيح البخاري (5/2278) وصحيح مسلم (4/1811) أي تمهل في حدائك بالإبل التي تسرع بالنساء، فيتأثرن من ذلك أو أن صوتك يؤثر عليهن فارفق بهن.

وارتجز هو - صلى الله عليه وسلم - عندما أصيبت إحدى أصابعه بسبب عثوره من إصابة حجر، فقال:

هل أنت إلا أصبع دميت *** وفي سبيل الله ما لقيت

[صحيح البخاري (3/1031) وصحيح مسلم (3/1421)]

وكان في بعض أسفاره يطلب من رفيقه أن ينشده شيئاً من أشعار الجاهليين الذين يوافق شعرهم الإسلام، روى الشريد بن سويد الثقفي - رضي الله عنه -، قال: \"ردفت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً، فقال: (هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء)؟ قلت: نعم. قال: (هيه) فأنشدته بيتاً، فقال: (هيه) ثم أنشدته بيتاً، فقال: (هيه) حتى أنشدته مائة بيت. وفي رواية: أنه قال - صلى الله عليه وسلم -: (فلقد كاد يُسلم في شعره) [صحيح مسلم (4/1766)].

وهذا جابر بن سمرة - رضي الله عنه -، وهو من صغار الصحابة، يقول: \"شهدت النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر من مائة مرة، في المسجد وأصحابه يتذاكرون الشعر، وأشياء من أمر الجاهلية، فربما تبسم معهم. [مسند أحمد (5/91) الترمذي (5/140) وقال: \"هذا حديث حسن صحيح\"].

والظاهر، من هذا الحديث أن كثيراً من هذه المجالسة، كان في مسجده - صلى الله عليه وسلم -، بدليل حديث سماك بن حرب، قال: قلت لجابر بن سمرة: أكنت تجالس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم، كثيراً، كان لا يقوم من مصلاه الذي يصلي فيه الصبح، حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت الشمس قام، وكانوا يتحدثون، فيأخذون في أمر الجاهلية، فيضحكون ويبتسم. [مسلم (1/463)]

وكان عبد الله بن رواحه ينشد بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، في عمرة القضاء، فيقول:

خلوا بني الكفار عن سبيله *** اليوم نضربكم على تنزيله

ضرباً يزيل الهام عن فصيله *** ويذهب الحليل عن حليله

فقال له عمر: يا ابن رواحة بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي حرم الله تقول الشعر؟! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (خل عنه يا عمر، فلهي أسرع فيهم من نضح النبل) [سنن النسائي (5/202) الترمذي (5/139) وقال \"حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه\"].

لقد أراد عمر - رضي الله عنه -، أن يجعل من الأدب أمام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي حرم الله عدم إنشاد الشعر، ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أمره أن يترك الشاعر وما يقول، ليبين له أن الشعر النافع لا ضير أن ينشد في أي مكان، بل قد يكون إنشاده أولى، كما هو الحال أمام أعداء الله.

ولعل عمر نسي هذا الدرس من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأنكر على حسان بن ثابت إنشاد الشعر في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعاد حسان إلى تذكيره.

كما روى أبو هريرة - رضي الله عنه - \"أن عمر مر بحسان وهو ينشد الشعر في المسجد، فلحظ إليه شزراً، فقال: قد كنت أنشد فيه، وفيه من هو خير منك، ثم التفتَ إلى أبي هريرة، فقال: أنشدك الله أسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (أجب عني اللهم أيده بروح القدس) فقال: اللهم نعم). [صحيح البخاري (5/2279) وصحيح مسلم (4/1932) واللفظ له.

بل روت عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يضع لحسان منبراً في المسجد، يقوم عليه قائماً يفاخر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو ينافح، ويقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله يؤيد حسان بروح القدس ما نافح أو فاخر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). [أبو داود (5/280) الترمذي (5/138) وقال: \"هذا حديث حسن صحيح غريب\"، وهو في جامع الأصول (5/168)، قال المحشي: ولبعض هذا الحديث شواهد في الصحيحين من حديث البراء بن عازب].

أفبعد هذه النصوص الصحيحة الصريحة، يجوز لمتشدد أن يمنع الشعر وإنشاده في المسجد أو في غيره، ما دام لا خروج فيه عن طاعة الله، وفيه مصلحة تحبيب الصغار إلى المسجد، وفي المسجد يعلمون مبادئ الإسلام وقراءة القرآن والسنَّة، وإقام الصلاة والتحلي بمكارم الأخلاق؟

أترون إنشاد الشعر في المسجد الذي يجلب الصغار والأحداث إليه، خير أم تركهم يتسكعون في الشوارع مع زمر المتشردين، أو يقعدون أمام أجهزة التلفاز والفيديو أو في دور السينما الداعية إلى سوء الأخلاق، ينظرون إلى ما يقودهم إلى الانحراف؟ وهل الشعر إلا كلام كالنثر يمدح صالحه ويذم طالحه؟ مع ما في الشعر من إثارة العواطف وتهييج المشاعر؟!

 

ذم الرسول للشعر لا ينافي مشروعيته:

ولا يظن ظان أن الباحث نسي أو جهل ذم الله ورسوله للشعر والشعراء، فهو على علم وذكر من ذلك، فقد ثبت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - من حديث أبي هريرة الذي شهد لحسان بالثناء عليه ذم الشعر، فقد روى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً حتى يريه ـ أي يصيبه بمرض في رئته ـ خير له من أن يمتليء شعراً). [البخاري (5/2279) ومسلم (4/1769)].

وروى حكيم بن حزام، - رضي الله عنهما -، قال: \"نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يستقاد في المسجد، وأن تنشد فيه الأشعار، وأن تقام فيه الحدود \". [أبو داود (4/167) وقد ضعف الحديث بعض أهل العلم، انظر عون المعبود (12/129)]

وأقول: إن الذي مدح الشعر وأذن للشعراء في الإنشاد في المسجد وخارجه، هو الذي ذم الشعر ونهى عن إنشاده في المسجد، فأي شعر أذن فيه، وأي شعر نهى عنه وذمه؟!

لابد أن يكون المضمون مختلفاً، فالممدوح هو الذي يقصد به نصر دين الله ولا يخالف شرعه، والمذموم هو الشعر المعارض لدين الله، أو الذي يبالغ فيه حتى يلهي عن ذكره ولو كان مباحاً.

وإن القرآن الكريم، لهو الفيصل في هذا الأمر فقد فرق بين ممدوح الشعر ومذمومه، قال - تعالى -: ((والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر أنهم في كل وادٍ, يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيراً وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون)) [الشعراء: 221ـ224].

وقال الإمام الشافعي - رحمه الله -: \"الشعر كلام، فحسنه حسن، وقبيحه قبيح\" [نيل الأوطار (2/167)]

وقال الحافظ ابن حجر، - رحمه الله - وهو يتكلم على ما يظهر من تعارض بين الأحاديث الناهية عن إنشاد الشعر في المساجد والأحاديث الدالة على جواز إنشاده فيها - قال: \"فالجمع بينها وبين حديث الباب أن يحمل النهي على تناشد أشعار الجاهلية والمبطلين، والمأذون فيه ما سلم من ذلك\". [الفتح (1/549)].

وقال ابن عبد البر - رحمه الله -: \" وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا، خير من أن يمتلئ شعرا، فأحسن ما قيل في تأويله والله أعلم، أنه الذي قد غلب الشعر عليه، فامتلأ صدره منه دون علم سواه، ولا شيء من الذكر غيره، ممن يخوض به في الباطل ويسلك به مسالك لا تحمد له، كالمكثر من الهذر واللغط والغيبة وقبيح القول، ولا يذكر الله كثيرا، وهذا كله مما اجتمع العلماء على معنى ما قلت منه، ولهذا قلنا فيما روي عن ابن سيرين والشعبي ومن قال بقولهما من العلماء: الشعر كلام فحسنه حسن وقبيحه قبيح، أنه قول صحيح وبالله التوفيق\" [التمهيد (22/196)]

و قال النووي - رحمه الله -: \"قوله: إن حسان أنشد الشعر في المسجد، بإذن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيه جواز إنشاد الشعر في المسجد إذا كان مباحا، واستحبابه إذا كان في مَمَادحِ الإسلام وأهله، أوفي هجاء الكفار والتحريض على قتالهم أو تحقيرهم ونحو ذلك، وهكذا كان شعر حسان، وفيه استحباب الدعاء لمن قال شعرا من هذا النوع، وفيه جواز الانتصار من الكفار ويجوز أيضا من غيرهم بشرطه، وروح القدس جبريل - صلى الله عليه وسلم -، قوله ينافح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي يدافع ويناضل\" [شرح النووي على مسلم (16/45)]

وقال القرطبي - رحمه الله -: \"قلت: أما تناشد الأشعار فاختلف في ذلك: فمن مانع مطلقا، ومن مجيز مطلقا، والأولى التفصيل وهو أن ينظر إلى الشعر، فإن كان مما يقتضى الثناء على الله - عز وجل -، أو على رسوله - صلى الله عليه وسلم -، أو ذبٍّ, عنهما، كما كان شعر حسان، أو يتضمن الحض على الخير والوعظ والزهد في الدنيا والتقلل منها، فهو حسن في المساجد وغيرها....وما لم يكن كذلك لم يجز، لأن الشعر في الغالب لا يخلو عن الفواحش والكذب والتزين بالباطل، ولو سلم من ذلك، فأقل ما فيه اللغو والهذر، والمساجد منزهة عن ذلك، لقوله - تعالى -((في بيوت أذن الله أن ترفع)) [الجامع لأحكام القرآن (12/271)]

وقال الترمذي: \"وقد روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث رخصة في إنشاد الشعر في المسجد كحديث جابر بن سمرة... ) [تحفة الأحوذي (2/232)

قال العراقي في شرحه \"ويجمع بين أحاديث النهي وبين أحاديث الرخصة فيه بوجهين: أحدهما أن يحمل النهي على التنزيه وتحمل الرخصة على بيان الجواز. والثاني أن يحمل أحاديث الرخصة على الشعر الحسن المأذون فيه، كهجاء المشركين ومدح النبي - صلى الله عليه وسلم - والحث على الزهد ومكارم الأخلاق، ويحمل النهي على التفاخر والهجاء والزور وصفة الخمر ونحو ذلك\" [عون المعبود (3/293)]

ويمكن مراجعة كلام المفسرين على قوله - تعالى -: ((والشعراء يتبعهم الغاوون)).

فتلك نصوص من القرآن والسنة تدل على جواز الإنشاد أو استحبابه في المسجد أو غيره إذا تضمن ما هو خير، وأخرى تدل على ذمه إذا تضمن شرا، وهذه أقوال علماء الأمة من المفسرين والمحدثين والفقهاء تبين التفصيل في إباحة الشعر أو استحبابه، أو تحريمه وكراهته، بحسب مضمونه، مثله مثل النثر حسنه حسن وقبيحه قبيح.

فالقول بتحريم الشعر وإنشاده في المسجد مطلقا، بدعوى احترام المسجد وتنزيهه، مخالف لنصوص السنة الثابتة، وكلام أهل العلم مخالفة واضحة.

أما التفصيل في ذلك، والقول بمشروعية ما فيه مصلحة، وعدم مشروعية ما فيه مفسدة، فهو الصواب الذي لا يجوز اعتماد غيره... وإذا كان في الشعر وإنشاده ما يحبب الصغار في المسجد، فإن المصلحة نقتضي جوازه، بل ندبه.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply