الخلاف المعتبر


بسم الله الرحمن الرحيم

 

الخلاف المعتبر هو الخلاف السائغ ووجوده بين الأمة ظاهرة طبيعية لا بأس بها ولا يوجب فرقة ولا تناقضا ولا تحزبا ولا معاداة، وهو اختلاف التنوع كما يعبر عنه محققو العلماء، وهو معلم من معالم كمال الشريعة وصلاحها لكل زمان ومكان وإنسان، وهو الخلاف المبني على موارد الاجتهاد المعتبر، وهي: ما ترددت بين طرفين واضحين وأصلين شرعيين ويكون الحق مترددا بينهما وبه حصل الإشكال والخلاف(1).

 

- فقد يكون الخلاف قريبا، كالاختلاف في أمر مشروع..هل هو واجب أم مستحب؟ أو الاختلاف في غير المشروع..هل هو محرم أم مكروه؟

 

- وقد يكون الخلاف بعيدا، كالاختلاف في أمر يتردد الحكم عليه ما بين محرم أو مباح أو واجب؟

 

ولقد تعرض شيخ الإسلام ابن تيمية لهذه المسألة فأجاد وأفاد وأورد أنه على وجوه(2).

 

1- منه ما يكون كل واحد من القولين أو الفعلين مشروعا، كما في القراءات التي اختلف فيها الصحابة، فزجرهم عن الاختلاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: (كلاكما محسن) رواه البخاري ومثله الاختلاف في صفة الأذان والإقامة والتشهد والاستفتاح و… إلخ.

 

2- ومنه ما يكون كل من القولين هي في معنى القول الآخر لكن العبارتين مختلفتان …. ثم الجهل أو الظلم يحمل على حمد إحدى المقالتين وذم الأخرى.

 

3- ومنه ما يكون المعنيان متغايرين لكن لا يتنافيان، فهذا قول صحيح وذلك أيضا قول صحيح، وإن لم يكن معنى أحدهما هو معنى الآخر، وهذا يكثر في المنازعات.

 

4- ومنه ما يكون طريقتين مشروعتين، فطائفة سلكت هذا الطريقة وطائفة أخرى سلكت الطريقة الأخرى، وكلاهما حسن في الدين، ثم الجهل أو الظلم يحمل على ذم إحداهما أو تفضيلهما بلا قصد صالح، أو بلا علم، وبلا نية.

 

بادئ ذى بدء لا بد أن نعلم أن المفتي قائم في الأمة مقام النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم) رواه الترمذي، ولأنه مبلغ عنه - صلى الله عليه وسلم - لما في البخاري في خطبته (ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب) فلابد أن تكون هذه الحقيقة في قلب المفتي أولا ليتقى الله - عز وجل -، ولا بد أن يقدرها قدرها، وخصوصا أنه موقع عن رب العالمين في إيقاع الأحكام الشرعية ونافذ أمره بمنشور الخلافة، ثم إن على الأمة أن تقدر ذلك، لأمره - سبحانه وتعالى - بطاعة أولى الأمر - وهم الأمراء والعلماء - كما في آية النساء {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} [النساء: 59] فأمر - سبحانه - بطاعتهم وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولذا لم يكرر الفعل معهم ولجلالة هذه المهمة وعظم قدرها ديانة وواقعا عظمت الشريعة منصب الفتيا، وهيأت له معاني، واشترط له العلماء في كتب الأصول والمقاصد شروطا دارت على أمور معتبرة جدا وأهمها:

 

1- حفظ الديانة وصيانتها، فلا بد أن يتحلى المفتي بقدر عظيم من هذا الجانب وما كان الورع إلا سياجا حافظا لهذا الأصل مانعا من التشفي والتعدي والظلم، ومن لطائف الاستدلال هاهنا أنه في قول الله: {إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين} [الأعراف: 152] قال أبو قلابة - رحمه الله - وهو من سادات التابعين (هي لكل مبتدع من هذه الأمة إلى يوم القيامة) وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: فإن أهل الكذب والفرية عليهم من الغضب والذلة ما أوعدهم الله به(3).

 

2- أن يكون عالما حافظا لكتاب الله كله أو لآيات الأحكام على أقل التقديرات، متناولا لعلمه بناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، وتأويله وتنزيله وما أريد به.

 

3- كما يجب أن يكون حافظا لما يهمه من أحاديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، ويجب أن يكون على علم واطلاع بأحاديث الأحكام، إضافة إلى علمه بالمسائل المجمع عليها، إذ إن الإجماع المعتبر هو المبني على مستند صحيح من الكتاب والسنة.

 

4- كذلك يجب أن يكون عند المفتي من علوم الآلة التي يفهم بها كلام ربه وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - من: اللغة والأصول والصحة والضعف ومسالك العلماء والمجتهدين، ما يحقق مقصوده ويسع به فتاوى الناس.

 

5- أن يكون له من الفقه والعقل ما يفهم به النوازل وواقع المسائل وتكييفها الشرعي لا العاطفي والنفسي، وهو المعبر عنها عند العلماء بالقريحة الصحيحة أو الملكة الفقهية.

 

6- والمفتي المعتبر هو الذي يحمل الناس على المعهود الوسط القسط فلا يذهب بهم مذهب الشدة ولا يميل بهم طرف الانحلال ويجب عليه أن يراعي عدم التشويش على الناس ما ألفوه من دينهم وغرائب الأقوال وشذاذ المسائل واتباعه معهم، ولو كان ما هم عليه قولا مرجوحا ما لم يكن مخالفا لدليل صحيح قطعي أو مقصد معتبر من مقاصد الديانة. والله اعلم.

 

___________________

المراجع:

1- انظر الموافقات للشاطبي 4/ 155-160.

2- باختصار وتصرف من الاقتضاء لابن تيمية 1/149-151 ومجموع الفتاوى 22/274-446 وانظر كذلك رفع الملام عن الأئمة الأعلام.

3- انظر الاقتضاء لابن تيمية 2/281.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply