النقود : أثمان أم سلع ؟


بسم الله الرحمن الرحيم
 
قبل أكثر من ستة قرون، صرخ أحـــد علماء القرن الثامن الهجري صرخة اهتز لها جبل قاسيون بالشام، ووجد لها صدى في أنحائه، إلا أنها لم تجد لها صدى في بني قومه، فوقـع ما لم يكن بالحسبان، وحــل ما حذر منه عالم ذلك الزمان، ثم هاهـــو التاريخ يعيد نفسه، فحل بنا ما حل بهم!! فمن هو يا ترى ذلك الإمام؟

وما هي تلك الصرخة التي اهتز لها قلمه، وعبر عنها بنانه؟

وما هي نتيجة تجاهل تلك الصرخة؟

وكيف أعاد التاريخ نفسه؟

أما الإمام، فهو: العلامة ابن قـيم الجوزية (ت 751هـ) وأما الصرخة، فهي: إنكاره على بــني قومه اتخاذهم النقود سلعاً، يتاجرون بها، ويعدونها للربح، فكانت النتيجة المؤسفةº حيث عم الضرر، ووقع الظلم. هذا ملخص ما جرى، وأدع الحديث للإمام ابن القيم، فهو حي بيننا بكتبه، شاهد عدل بعلمه وفقهه، إذ يقول في كتابه إعلام الموقعين(3/401): \" الدراهم والدنانـير أثمــان المبيــعات، والثـمن هـو المعيار الذي به يعرف تقويم الأموال، فيجب أن يكون محدوداً مضبوطاً لا يرتفع ولا ينخفض، إذ لو كان الثمن يرتفع وينخفض كالسلع لم يكن لنا ثمن نعتبر به المبيعات، بل الجميع سلع، وحاجة الناس إلى ثمن يعتبرون به المـبيعات حاجة ضرورية عامة، وذلك لا يمـكن إلا بسعــر تعرف به القيمة، وذلـك لا يكون إلا بثمن تقوم به الأشياء، ويسـتمر على حالة واحدة، ولا يقوم هو بغيره، إذ يصير سلعة يرتفع وينخفض، فتفسد معاملات الناس، ويقع الخلف، ويشتد الضرر، كما رأيت من فساد معاملاتهم، والضرر اللاحق بهم، حين اتخذوا الفلوس سلعة تعد للربح، فعم الضرر، وحصل الظلم...فالأثمان لا تقصد لأعيانها، بل يقصد التوسل بها إلى السلع\"أهـ

وقال في الطرق الحكـمية(صـ350): \" ويمنع من جعل النقود متجراًº فإنه بذلك يدخل على الناس من الفساد ما لا يعلمه إلا الله، بل الواجب أن تكون النقود رؤوس أموال يتجر بها، ولا يتجر فيها \"أهـ

وهاهو التاريخ يعيد نفسه، وكأن ابن القيم يعيش واقعنا الحاضـــر، أو كأنه ينظر إليه من ستر رقيق! ولذا، فإنه يستحق شهادة دكتوراه فخرية في المال والاقتصاد، وإن كنــت أشك في حفاوته بها لو كان حياً.

نعم، أعاد التاريخ نفسهºلأننا اليوم نرى ونسمع كثيراً عن تذبذب أسعار العملات، وما نتج عنه من تضخم في النقود وضعف قوتها الشرائية، كما هو مشاهد في بعض بلاد الشرق والغرب، وهذا له أسبابه السياسية، والأمنية، والاقتصادية ومن أبرزها العـبث بهذا النقد الذي استــخدم في غير ما صنع له، وهذا ما حذر منه العلامة ابن القيم آنفاً، وألمح إليه الفقيه الشافعي أبو حامد الغزالي(ت505هـ) في إحياء علوم الدين(4/91) والفقيه الحنــفي ابن عابدين(ت1252هـ) في مجموعة رسائله(صـ57) حيث قال: \" رأينا الدراهم والدنانير ثمناً للأشياء، ولا تكون الأشياء ثمناً لها.. فليست النقود مقصودة لذاتها، بل وسيلة إلى المقصود\"أهـ

وأصرح من هذا ما قاله الشيخ محمد رشيد رضا، حيث قال في تفسير المنار(3/108): \"وثم وجد أمر آخر لتحريم الربا من دون البيع، وهو أن النقدين إنما وضعا ليكونا ميزاناً لتقدير قيم الأشياء التي ينتفع بها الناس في معايشهم، فإذا تحـــول هذا وصار النقد مقصوداً بالاستغلال، فإن هذا يؤدي إلى انتزاع الثروة من أيدي أكثر الناس، وحصــرها في أيدي الــذين يجعلون أعمالهم قاصــرة على استــغلال المـال بالمال \"أهـ

وبهذا نقف على إحدى الحكم التي حرم لأجلها الشارع الربا، وهي أن المرابي يشتغل بالنقد عن المشاريع الإنتاجية، فيقــل المعروض من السلع والخدمات، وبالتالي يزيد الطلب عليها، ومع كثرة النقد يقع التضخم، وهو ما عبر عنه بعض الاقتصاديين: (نقود كثيرة، تطارد سلعاً قليلة).

ومن هذا الوجه- وغيره- ذهب بعض الفقهاء المعاصرين إلى المنع من المتاجرة بالعملات -لا بيعها وشراؤها للحاجة- ومن المضاربة بفـروق الأسعار في سوق المالº ومن هؤلاء الفقهاء الدكتور محمد الشباني، كما في بحثيه(الربا والأدوات النقدية المعاصرة، والمضاربة بالأسهم والمشتبهات من المكاسب) وعلل ما ذهب إليه بأدلة، ومقاصد شرعية، جديرة بالنظر والتأمل، ومنها: أنه عــد من المفاسد التي يـؤدي إليها هذا الـنوع من التعامل، الضـرر على الاقتصاد ككلº حيث يتوجه المال المدخر إلى المضاربة فيه، بحيث يصبح دولة بين المضاربين في الأسهم، يتحرك في دائرة واحدة لا يتعداها إلى غيرها... الخ.

وقد أشار إلى هذا المحذور وما يؤدي إليه من كساد، الشيخ أبو حامد الغـزالي في إحياء علوم الدين(4/45) حيث قال: \" إنما حرم الربا من حيـث إنه يمنع الناس من الاشتغال بالمكاسبº وذلك لأن صاحب الدرهم إذا تمكن بواســطة الربا من تحصيل درهم زائد نقداً أو آجلاً خف عليه اكتساب المعيشة، فلا يكد ويتحمل مشقة الكسب والتجارة والصناعة، وذلك يفــضي إلى انقطاع منافع الخلق، ومن المعلوم أن مصالح العالم لا تنتظم إلا بالتجارات، والحرف، والصناعة، والإعمار\"أهـ

وبنظرة خاطفة إلى واقعنا منذ أربعة أشهر أو أكثر، نجـد أن أموالنا أصبحت تصب في فوهة السوق حين غلت القيمة السوقية لبعــض الشركات غلاء غير مسـبوق، واقتصرت المضاربة على فروق الأسعار بعيداً عن الواقع الاقتصادي للشركات المساهمة، فأصبحت السلع هي النقود في الحقيقة، حتى ظهرت مقدمات الكساد في سوق العقارات، والسيارات،... الخ، ولمس كثير من الناس ارتفاع قيمة إيجار الدور والمنازلº لقلـة المعروض، وأصبح هذا حديث الناس، كل هذا في فترة زمنية محدودة! فما الظن لو استمر الحال سنة أو أكثر!!

ثم ألا يكفي هذا حافزاً- على الأقل-لإعادة النظر في حكم اتخاذ النقود سلعاً، وما تفضي إليه هذه المعاملات من مفاسد وأخطار على الفرد والمجتمع؟ أم نحتاج إلى جنائز ومرضى ومفلسين أكثر عدداً، حتى تتحقق لدينا القناعة بذلك؟!!

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply