تتبع الرخص ( التأصيل والواقع )


بسم الله الرحمن الرحيم

 

مدخل:

الناظر في كتب أصول الفقه يجد أنه لا يخلو كتاب أُلِّفَ في هذا الفن قديماً وحديثاً إلا ويوجد به تعريف للرٌّخصة الشرعية، ولهذاº فقد كثرت تعريفات العلماء لها واختلفت، وأجود هذه التعريفات ـ كما قال الشيخ الشنقيطي (1) ـ تعريف «السبكي» لها بأنها: (الحكم الشرعي الذي غُيّر من صعوبة إلى سهولة لعذر اقتضى ذلك، مع قيام سبب الحكم الأصلي)(2).

 

وهذه الرٌّخص التي جاءت بها الشريعة لها أحكامها وشروطها وضوابطها، ولذلك أفرد لها علماء الأصول أبواباً مستقلة في كتبهم تناولت ذلك كله، فإذا أُطلقت الرٌّخصة في كلام أهل العلم فإنما يراد بها هذا المفهوم المتقدم، والذي يراد به بمجيء الشريعة بالتخفيف عن المكلّفين، وتسهيل الأحكام وتيسيرها، والسماح بتناول القدر الضروري من المحظورات عند الحاجة، فالذي لا يستطيع ـ مثلاً ـ استعمال الماء لعدم القدرة عليه أُبيح له التيمم، قال - تعالى -: {فَلَم تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43].

وأيضــاًº فإن حكم أكل الميتة محــرَّم بنـص القـرآن بقـولـه - تعالى -: {حُرِّمَت عَلَيكُمُ الـمَيتَةُ} [المائدة: 3].

لكن جاءت بعد ذلك الـرٌّخــصة الشـرعية المشـروطة بقولـه - تعالى -: {فَمَنِ اضطُرَّ فِي مَخمَصَةٍ, غَيرَ مُتَجَانِفٍ, لإثمٍ, فَإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة: 3].

قال ابن قدامة: (فإن قيل: فكيف يسمى أكل الميتة رخصة مع وجوبه في حال الضرورة؟ قلنا: يسمى رخصة من حيث إن فيه سعة، إذ لم يكلّفه الله - تعالى - إهلاك نفسه..)(3).

والأمثلة على هذا الباب كثيرة، وهذا كله جاءت به نصوص عديدة من الكتاب والسنة تدل عليه، مثل قوله - عز وجل -: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ العُسرَ} [البقرة: 185].

وبقوله - تعالى -: {وَمَا جَعَلَ عَلَيكُم فِي الدِّينِ مِن حَرَجٍ,} [الحج: 78].

وبقوله - صلى الله عليه وسلم -: «عليكم برخصة الله الذي رخص لكم.. »(4).

فدلَّ هذا أن التيسير والتخفيف والترخيص عند المشقة مقصد عظيم من مقاصد الشريعة، وأصل مقطوع به من أصولها(1)º لتحفظ على الناس ضروراتهم وحاجاتهم.

وبناءً على ورود هذه الآيات والأحاديث في كتاب الله - عز وجل - وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - قرّر أهل العلم قواعد كثيرة في ذلك، منها: (المشقة تجلب التيسير)، و (الحرج مرفوع)، و (لا ضرر ولا ضرار)، و (الضرر يزال)، و (إذا ضاق الأمر اتّسع).. إلخ(2).

 

وبعدº فإن مفهوم هذه الرٌّخص الشرعية، ليس المراد في حديثنا بمسألة تتبٌّع الرٌّخص، وإنما ذكرنا ذلك لكي لا يلتبس الأمر، فالرٌّخص الشرعية لا خلاف في الأخذ بها إذا توفرت الشروط وانتفت الموانع، وسيأتي الإشارة إلى بعض ذلك في حكم الأخذ بالرٌّخص، أما مسألة تتبٌّع الرٌّخص بأخذ الأسهل من الأقوال في مسائل الخلاف فهي مدار بحثنا وحديثنا، وسيأتي بيان ذلك في العناصر القادمة بإذن الله - تعالى -.

 

ثانياً: تعريف تتبٌّع الرٌّخص:

وردت عـدة تعريفـات في معنـى تتـبٌّـع الرٌّخـص، فمنهــا: ما عرَّفه «الزركشي» بأنه: (اختيار المرء من كل مذهب ما هو الأهون عليه.. )(3). وعرَّفه «الجلال المحلي» بقوله: (أن يأخذ من كل مذهب ما هو الأهون فيما يقع من المسائل)(4)، وهذه المعاني هي المعنية بهذا البحث، فالمقصود هو تتبٌّع رخص العلماء باتِّباع الأسهل من أقوالهم في المسائل العلمـية، بحـيث لا يكون اتِّباع المكلف لهذه الرٌّخص بدافع قوة الدليل وسطوع البراهين، بل الرغبة في اتِّباع الأيسر والأخف، سواء كان ذلك بهوى في النفس أو بقصد التشهي أو الجهل أو لأسباب أخرى سيأتي بيانها في العناصر التالية.

 

ثالثاً: بين التلفيق وتتبٌّع الرٌّخص:

لمسألة التلفيق (5) علاقة وثيقة بتتبٌّع الرٌّخص، ولذا فإنه يحسن أن نقف عندها، ونبين الفرق بين التلفيق وبين تتبٌّع الرٌّخص.

فالمقصود بالتلفيق عند العلماء هو: الإتيان بكيفية لا يقول بها مجتهد، وذلك بأن يلفِّق في قضية واحدة بين قولين أو أكثر يتولّد منهما حقيقة مركبة لا يقول بها أحد (6).

وقد اختلف العلماء في حكمه: فمنهم من منعه مطلقاً، ومنهم من أجازه مطلقاً، والصحيح ـ والله - تعالى -أعلم ـ التفصيل في ذلك، وهذا هو الذي أقرَّه مجمع الفقه الإسلامي(7)، وهو جواز التلفيق إلا أنه يكون ممنوعاً في الأحوال التالية:

1 ـ إذا أدَّى ذلك إلى الأخذ بالرٌّخص الممنوعة، كـ: تلفيق الشاعر «أبو نواس» في أبياته المشهورة، حيث زعم أن الإمام أبا حنيفة النّعمان قد أباح النبيذ، والشافعي قال: النبيذ والخمر شيء واحد، فلفّق من القولين قولاً نتيجته إباحة الخمر(8).

 

2 ـ إذا أدَّى التلفيق إلى نقض حكم الحاكمº لأن حكمه يرفع الخلاف درءاً للفوضى.

 

3 ـ إذا أدَّى إلى نقض ما عمل به تقليداً في واقعة واحدة(9).

 

4 ـ إذا أدَّى إلى مخالفة الإجماع أو ما يستلزمه (10).

 

5 ـ إذا أدَّى إلى حالة مركبة لا يقرٌّها أحد من المجتهدين، كمن تزوج امرأة بلا ولي ولا شهود، مقلّداً الإمام أبا حنيفة في عدم اشتراط الولاية، ومقلّداً الإمام مالكاً ـ في رواية له ـ في عدم اشتراط الشهادة بذاتها، ويكفي إعلان الزواج.

فهذا الزواج غير صحيحº لأنه لا يجيزه الإمام أبو حنيفـة ولا الإمام مالك على هذه الصورة الملفّقةº لأنه تولّد منه قول آخر مخالف لرأي هؤلاء العلماء على كيفية لا يصححونها، ولا يصح أيضاًº لأنه مخالف للأدلة الصحيحة الواردة في هذه المسألة، ولأن الأصل في الأبضاع (الفروج) التحريم، ولا شك أن فيه تلاعباً بالشريعة وخروجاً عن مقاصدها (1).

وبعد أن تبين لنا مفهوم التلفيق وحكمه نستطيع أن نبين الفرق بين التلفيق الممنوع وتتبٌّع الرٌّخص، فبينهما فروق من نواحي عديدة، منها (2):

1 ـ أن التلفيق جمع بين أقوال العلماء وتصرف فيها بقـول لا يصححه أحد من المجتهدين، وقد ينتج عن ذلك إحداث قول جديد في المسألة لم يقل به مجـتهد، بينمـا الأخـذ بالرٌّخص ليس فيه إحداث قول جديد، وإنما يأخذ برخصة قالها أحد العلماء.

 

2 ـ أن التلفيق قد يؤدي إلى مخالفة إجماع العلماءº بخلاف تتبٌّع الرٌّخص، فإنه يكون بأخذ قول أحد من العلماء.

 

رابعاً: حكم الأخذ بالرٌّخص:

حديثنا في ذلك يأتي على نوعين:

الأول: حكم الأخذ بالرٌّخص الشرعية التي جاءت بها الشريعة الإسلامية.

الثاني: حكم الأخذ برخص الفقهاء والعلماء التي من آرائهم واجتهاداتهم المخالفة للأدلة.

فإذا كان الأخذ والعمل برخص الشارع فإن جمهور العلماء(3) يرون أن الرٌّخصة الشرعية تأتي على أنواع، منها(4):

ـ الرٌّخصة الواجبة: كأكل الميتة للمضطر.

ـ الرٌّخصة المندوبة: كالقصر في الصلاة في السفر إذا توفرت الشروط وانتفت الموانع.

ـ الرٌّخصة المباحة: كالسَّلَم (5)، والتكلّم بكلمة الكفر عند الإكراه مع طمأنينة القلب.

قال في شرح مختصر الروضة: (والرٌّخصة قد تجب، كأكل الميتة عند الضرورة، وقد لا تجب ككلمة الكفر)(6).

ـ الرٌّخصة التي على خلاف الأولى: ومثّلوا لها بفطر المسافر الذي لا يتضرر بالصومº لقوله - تعالى -: {وَأَن تَصُومُوا خَيرٌ لَّكُم} [البقرة: 184].

أما بالنسبة إلى النوع الآخر وهو حكم أخذ المكلّف برخص العلماء وزلاتهم والانتقاء من أقوالهم الأيسر والأخف في بعض أقوالهم المخالفة للأدلة النقلية الصحيحة فهو مما نقل تحريمه بالإجماع كما نقل ذلك غير واحد من أهل العلم كابن حزم وابن عبد البر والباجي وابن الصلاح وغيرهم (7).

ولأجل هذا فقد جاءت عبارات العلماء شديدة في النهي عن فعل ذلك ومشنعة على من فعلها، مثل: قول الإمام الأوزاعي: (من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام)(8). وقول سليمان التيمي: (لو أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله)(9)، إلى غير ذلك من الأقوال التي تبين مدى خطورة العمل بهذه الرٌّخص التي يؤدِّي العمل بها إلى آثار ونتائج معارضة لأصل الشريعة كما سنبينه في العنصر التالي، علماً أن هذا الحكم خاص فيمن تتبَّع الرٌّخص لمجرّد اتِّباع الهوى، أو بحث عن الحكم الأسهل، أو حاول الإعراض أو التجاهل للأدلة، أما إذا كان غير ذلك فقد أجاز مجمع الفقه الإسلامي الأخذ بالرٌّخص بمراعاة الضوابط الشرعية التالية (10):

1 ـ أن تكون أقوال الفقهاء التي يترخص بها معتبرة شرعاً ولم توصف بأنها من شواذّ الأقوال.

2 ـ أن تقوم الحاجة إلى الأخذ بالرٌّخصةº دفعاً للمشقة سواء كانت حاجة عامة للمجتمع أو خاصة أو فردية.

3 ـ أن يكون الآخذ بالرٌّخصة ذا قدرة على الاختيار، أو أن يعتمد على من هو أهل لذلك.

4 ـ أن لا يترتّب على الأخذ بالرٌّخص الوقوع في التلفيق الممنوع.

5 ـ أن لا يكون الأخذ بالرٌّخص ذريعة للوصول إلى غرض غير مشروع.

6 ـ أن تطمئنَّ نفس المترخص للأخذ بالرٌّخصة.

 

إشــارة:

أوضح بعض العلماء كابن الصلاح والنووي وابن القيم وغيرهم (1)، أن من صح مقصده، واحتسب فـي تطلّب حيـلة لا شبهة فيها، ولا تجرّ إلى مفسدة للتخلّص ـ مثلاً ـ من ورطة يمين ونحوها، وهو ثقة، فذلك حســن جمــيل، وعليـه يحمـل ما جاء عن بعض السلف، كقول سفيان: (إن العلم عندنا الرٌّخصة من ثقة، فأما التشديد فيحسنه كل أحد).

قال ابن الصلاح: (وهذا خارج على الشرط الذي ذكرناه، فلا يفرحن به من يفتي بالحيل الجارة إلى المفاسد(2)).

 

خامساً: الآثار المترتبة على تتبٌّع الرٌّخص:

لا شكَّ أن لتتبٌّع الرٌّخص آثاراً ونتائج سلبية تؤدي إلى مسلك خطير. وقد توسع في الحديث عنها «الإمام الشاطبي» في كتابه النفيس (الموافقات)، وأيضاً هناك بعض الإشارات من علماء آخرين كابن الصلاح والنووي وابن القيم.. أجملُها فـي نقاط(3):

 

1 ـ أن فيها مخالفة لأصول الشريعة ومقاصدها، وذلك لأن الشريعة جاءت لتخرج الإنسان من داعية هواه، وجاءت بالنهي عن اتِّباع الهوى، وتتبٌّع الرٌّخص حثُّ لبقاء الإنسان فيما يحقق هواه، واتِّباع ما تميل إليه نفسه.

2 ـ الانحلال من رِبقَةِ التكليف، يقول «الشاطبي» وهو يتكلم عن ذلك: (فإنه مؤدٍ,ّ إلى إسقاط التكليف في كل مسألة مختلف فيهاº لأن حاصل الأمر مع القول بالتخيير أن للمكلف أن يفعل ما يشاء ويترك ما يشاء، وهو عين إسقاط التكليف)(4).

 

3 ـ ترك اتِّباع الدليل إلى اتِّباع الخلاف، وهذا مخالف لقوله - تعالى -: {فَإن تَنَازَعتُم فِي شَيءٍ, فَرُدٌّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إن كُنتُم تُؤمِنُونَ بِاللَّهِ وَاليَومِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيرٌ وَأَحسَنُ تَأوِيلاً} [النساء: 59].

 

4 ـ الاستهانة بالدين وشــرائعــه، إذ يصيــر بـذلك سيـالاً لا ينضبط.

 

5 ـ قد يفضي إلى القول بتلفيق المذاهب على وجه يخرق إجماع العلماء.

 

سادساً: الـمُفتون والواقع:

إن الناظر في حال بعض الـمُفتين اليوم يخشى أن يشملهم ذلك الوعيد والزجر الذي قاله العلماء وحذروا منه في من تتبَّع الرٌّخص الممنوعة، وذلك لأجل وقوعهم في المحظور المنهي عنه، ولكونهم ـ أيضاً ـ أخذوا التيسير منهجاً في الفتوى بناء على أخذ الأسهل من الأقوال، وتساهلوا فيها بحجة مجيء الشريعة باليُسر والسهولة ورفع الحرجº لكون ذلك مقصداً من مقاصدها العظمى التي امتازت به.

وكونُ الشريعة الإسلامية جاءت بذلك مما لا شك فيهº لأنه قاعدة كلية عظمى.

لكن هناك فرق بين هذه القاعدة وبين التساهل وتتبٌّع رخص العلماء ورفع مشقة التكليف باتِّباع كل سهل بدون أصول وضوابط، فحينما نبني الفرع الفاسد على الأصل الصـحيـح، أو نأخذ برخصة إمام من الأئمة خالف فيها الدليل الصحيح الصريح لأسباب وأمور هو معذور فيها (5)، بحجة القاعدة الكبرى وهي التيسير ورفع المشقة والحرج.. فهذا غير صحيح، ويوصلنا إلى منهج يعارض أصل الشريعة ومقاصدها وانضباطها، ولذلك سدَّ العلماء هذا الباب وحرّموه، يقول ابن مفلح: (يحرم التساهل في الفُتيا، واستفتاء من عرف بذلك)(6)، ويقول ابن القيم: (الرأي الباطل أنواع، أحدها: الرأي المخالف للنص، وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام فساده وبطلانه، ولا تحل الفُتيا به ولا القضاء، وإن وقع فيه من وقع بنوع تأويل وتقليد)(7).

وللأسف فإن الذين عرفوا بذلك واتخذوا التيسير المحظور منهجاً لهم فقد وقعوا في محظورات وأخطاء أكبر، فها هم يريدون تطويع الفتوى بحجة مسايرة الواقع ومواكبة العصر ومتغيراته، ولم يفرِّقوا بين الثابت والمتغير، وأرادوا أن يغيّروا الفقه الإسلامي تغييراً موافقاً لقواعدهم، لكي يكون الفقه الإسلامي فقه التيسير والوسطية، وهو كذلك، لكن ليس على قاعدتهم ونظرتهم، ونتيجة لذلك فإن تساهلهم أوصلهم إلى أقوال غريبة وشاذّة، حتى ميّعوا الدين واستطال الجُهـّــال عليه، وعطّلوا بعض الحدود والأحاديث، وأصبحنا نرى فتاوى يستنكرها العوام أصحاب الفطر السليمة فكيف بأهل العلم!! فهذا يرى جواز إمامة المرأة للرجال في الصلاة، وذاك يفتي بجواز شرب الــدخـان لمــن يقـدر على شرائه، وهـذا يـرى أنه لا ينبغي إقامة حدّ الردة على المرتدّ في هذا الوقت، وآخر يرى جواز مصافحة المرأة الأجنبية للرجال وتقبيلها ضارباً على الأحاديث الصريحة عرض الحائط، ولا تعجب أن تسمع من يقول لأحد اللجان الوضعية في بلاده: «ضعوا من المواد ما يبدو لكم أنه موافق الزمان والمكان، وأنا لا يعوزني بعد ذلك أن آتيكم بنصٍّ, من المذاهب الإسلامية يطابق ما وضعتم.. »(1).

 

إن من يسمع لمثل هذه الفتاوى أو يقرؤها ليتبادر إلى ذهنه سؤال كيف وصل الأمر إلى ذلك؟ وهل يجوز لهذا المفتي أو غيره من الـمُفتين الإفتاء في دين الله بالتشهي والتخيّر؟! وهل يجوز البحث عن الأقوال التي توافق غرض المفتي وهواه؟! أو غرض من يحابيه.. فيفتي به ويحكم به؟ يُجيب عن ذلك ابن القيم بقوله: (هذا من أفسق الفسوق وأكبر الكبائر والله المستعان.. )(2).

وهذا «الإمام الشاطبي» ينقل في (موافقاته) كلاماً جميلاً للإمام الباجي قال: «... لا خلاف بين المسلمين ممن يعتدٌّ به في الإجماع أنه لا يجوز ولا يسوغ ولا يحل لأحد أن يفتي في دين الله إلا بالحق الذي يعتقد أنه حق، رضي بذلك من رضيه وسخط من سخطه، وإنما المفتي مخبر عن الله - تعالى - في حكمه، فكيف يخبر عنه إلا بما يعتقد أنه حَكَمَ به وأوجبه؟ والـله - تعالى - يقول لنبيه - عليه الصلاة والسلام -: {وَأَنِ احكُم بَينَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِع أَهوَاءَهُم} [المائدة: 49](3).

ونظـراً لأهمية هذه المسألة فقد عدَّ بعض العلماء ـ كالسمعاني وغيره ـ الكفّ عن الترخيص والتساهل شرط من شروط المفتي(4).

ولو تأملنا ما رواه البيهقي(5) بإسناده عن إسماعيل القاضي يقول: (دخلت على المعتضد بالله فدفع إليّ كتاباً، فنظرت فيه، فإذا قد جمع له من الرٌّخص من زلـل العلمـــاء، وما احتج به كل واحد منهم، فقلت: مصنِّفُ هذا زنديق. فقال: ألم تصح هذه الأحاديث؟ قلت: الأحاديث على ما رويت، ولكن من أباح المسكر ـ النبيذ ـ لم يبح المتعة، ومن أباح المتعة لم يبح المسكر، وما من عالم إلا وله زلّة، ومن أخذ بكل زلل العلماء ذهب دينه، فأمر المعتضد بإحراق ذلك الكتاب)(6). فـهذا المذهب والمسلك الذي سلكوه ليس جديداً كما ترى، بل عُمل من قبل، وأنكره العلماء، وبيّنوا أنه مبنيُّ على أصول فاسدة تذهب الدين وتفسده.

يقول الإمام النووي: (لو جاز اتّباع أيّ مذهب شاء لأفضى إلى أن يلتقط رخص المذاهب متبعاً لهواه ويتخير بين التحليل والتحريم والوجوب والجواز وذلك يؤدي إلى الانحلال من رِبقَةِ التكليف)(7).

فلا شك أن الواجب على الناظر والباحث في النصوص الشرعية أن يخلع على عتبته آراءه الخاصة، ويسلم قياده لهذا النص، يتجه به حيثما توجه، جاعلاً له منهجاً صحيحاً، مراعياً الشروط والضوابط، واضعاً الأشياء في مواضعها الصحيحة، متجرداً للحق، مبتعداً عن الهوى والتعصب، جاعلاً الشمولية وجمع الأدلة نهجه ومعلمه، والحق بدليله مقصده، ومن ثم يعرض الأقوال كلها ويقارنها ويحرّرها وينظر الموافق إلى الكتاب والسنة وإجماع الأمة فيتّبعه، وعليه أن لا يصدر الحكم قبل البحث والتحرّي، فإذا أصدر الحكم قبل البحث صار البحث انتقائياً جزئياً واستدلالاً للحكم الذي رآه واختاره من قبل، فينبغي أن يستدل أولاً للمسألة، ثم يعتقد وليس له أن يعتقد ثم يستدل تبعاً لرأيه ورغبته، وقد أشار إلى ذلك ابن القيم في زاد المعاد(8). أما الذين يدرسون النصوص لتأييد مقررات سابقة في نفوسهم فإن الغالب عليهم عدم الانتفاع بهذه النصوص، فالإخلاص في طلب الحق شرط أساس لتحصيل الهداية وإدراكها.. والله المستعان.

قال الإمام الشاطبي: (فإن في مسائل الخلاف ضابطاً قرآنياً ينفي اتّباع الهوى جملة، وهو قوله - تعالى -: {فَإن تَنَازَعتُم فِي شَيءٍ, فَرُدٌّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]. وهذا المقلد قد تنازع في مسألته مجتهدان فوجب ردها إلى الله والرسول وهو الرجوع إلى الأدلة الشرعية وهو أبعد من متابعة الهوى والشهوة فاختياره أحد المذهبين بالهوى والشهوة مضاد للرجوع إلى الله والرسول.. )(9).

ويقول ابن الصلاح: (لا يجوز للمفتي أن يتساهل في الفتوى، ومن عرف بذلك لم يجز أن يُستفتى، وذلك قد يكون بأن لا يتثبت ويسرع بالفتوى قبل استيفاء حقها من النظر والفكر، وربما يحمله على ذلك توهمه أن الإسراع براعة، والإبطاء عجز ومنقصة، وذلك جهل، ولأن يُبطئ ولا يخطئ، أجمل من أن يعجل فيضلَّ ويُضل.. )(1).

 

سابعاً: الـمُستفتون والواقع:

التساهل.. عدم مراقبة الله - عز وجل -.. ضرب أقوال العلماء بعضها ببعض.. الانتقائية.. سؤال أكثر من عالم وتبنّي أخف قول وأقربه إلى هواه ورغبته.. هذا هو واقع كثير من الـمُستفتين، بينما لو تأمّلنا ما رواه عبد الرازق عن معمر قال: (لو أن رجلاً أخذ بقول أهل المدينة في استماع الغناء وإتيان النساء في أدبارهن، وبقول أهل مكة في المتعة والصرف، وبقول أهل الكوفة في المسكر ـ النبيذ ـ كان شر عباد الله)(2).

قال ابن النجار: (يحرم على ـ العامي ـ تتبٌّع الرٌّخص ويفسق به)(3). ونقل ابن عبد البر الإجماع على عدم جواز تتبٌّع العامي للرٌّخص (4).

وقد أشار «الشاطبي والنووي» إلى أنه إذا أصبح المستفتي في كل مسألة عرضت وطرأت عليه يتتبَّع رخص المذاهب ويتبع كل قول يوافق هواه فإن ذلك يؤدي إلى خلع رِبقَةِ التقوى والتمادي في متابعة الهوى ونقض ما أبرمه الشارع(5).

قال صاحب كتاب (زجر السفهاء عن تتبٌّع رخص الفقهاء): (ومن الأبواب التي فتحها الشيطان على مصراعيها للتلبيس على العباد، بابُ تتبٌّع رخص الفقهاء وزلاتهم، وخدع بذلك الكثيرين من جهلة المسلمين، فانتُهكت المحرمات، وتُركت الواجبات تعلّقاً بقول زَيفٍ, وتمسكاً برخصة كالطَّيف، وإذا ما أنكر عليهم مُنكر تعلّلوا بأنهم لم يأتوا بهذا من قِبَل أنفسهم، بل هناك من أفتى لهم بجواز ذلك. يا حسرةً على العباد! جاءت الشريعة لتحكم أهواء الناس وتهذّبها فصار الحاكم محكوماً والمحكوم حاكماً، وانقلبـت المـوازين رأسـاً على عقب، فصار هؤلاء الجهلة يُحكِّمون أهواءهم في مسائل الخلاف، فيأخذون أهون الأقوال وأيسرها على نفوسهم دون استناد إلى دليل شرعي بل تقليداً لزلّـة عـالـم لـو استبـان له الدلـيل لرجـع عـن قـوله بـلا تـردّد ولا تلكٌّوءٍ,.

فإذا نُصحوا بالدليل الراجح وطُولبوا بحجج الشرع الواضح تنصّلوا من ذلك بحجج واهية، وهي أن من أفتاهم هو المسؤول عن ذلك وليسوا بمسؤولين، فقد قلّدوه والعهدة عليه إن أصاب أو أخطأ، معتقدين أن قول فلان من الناس يصلح حجة لهم يوم القيامة بين يدي الملك الديّان.

فإن تعجب من ذلك فدونك ما هو أعجب منه: إنهم يأخذون برخصـة زيـد من الفقـهاء في مسألة ما، ويهجرون أقواله الثقيـلة فـي المسـائل الأخـرى، فيعمدون إلى التلفيق بين المذاهب والترقيع بين الأقوال، ويحسبون أنهم يحسنون صنعاً، ولا يخفى عليـك ما في هذا من التهاون بحدود الشرع وقوانينه.. )(6).

فلا شك أن على كل واحد من المستفتين مسؤولية يتحمّلها في مسألته التي يريد السؤال عنها وعن مقصده فيها، وأيضاًً على العلماء والدعاة مسؤولية أخرى كبيرةº من توعية المجتمع وتعليمهم واستغلال ذلك في المحاضرات والخطب ووسائل الإعلامº لأنه لا يخفى أن حاجة المسلمين إلى العلم وإلى الفتوى مستمرة في كل زمان ومكان، ويحسن في ذلك تكثيف الحديث عن الشروط المعتبرة التي ذكرها العلماء فيما يلزم المستفتي، وهي أربعة شروط (7):

أولاً: أن يريد باستفتائه الحق والعمل به، لا تتبٌّع الرٌّخص أو مجرد الهوى.

ثانياً: ألا يستفتي إلا من يعلم أو يغلب على ظنّه أنه أهل للفتوى، وينبغي أن يختار أوثق المفتين عنده.

ثالثاً: أن يصف حالته وسؤاله وصفاً دقيقاً واضحاً.

رابعاً: أن ينتبّه لما يقول المفتي من الجواب ويفهمه فهماً واضحاً، ولا يأخذ بعضه ويترك الآخر.

فإذا نشرت هذه الشروط على نطاق واسع كان في ذلك توعية للناس، وكـان ذلـك أدعـى لأن يكونوا أكثر انضباطاً ودقّـةº لأنـها أصــول الاستـفـتاء التي يلزم على جميع المسـتفتين العـمل بهـا، فكـما أن العـلماء يوصون قبل أخذ الفقه بدراسة أصوله، وقبل دراسة التفسير التعرف على أصوله، فكذلك قبل الاستفتاء ينبغي التعرف على أصوله وشروطه.

وأخـيـراًº هذا ما تيسر كتابته والإشارة إليه، وبالله التوفيـق، وصـلى الـله وسـلم علـى نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

----------------------------------------

(1) ينظر: مذكرة الشنقيطي في أصول الفقه، ص (60).

(2) رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب للسبكي (2/26)، واختيارات ابن القيم الأصولية للجزائري (1/175).

(3) روضة الناظر وجنة المناظر (1/261).

(4) أخرجه مسلم (1115)، وأخرجه النسائي (2258) بلفظ: «عليكم برخصة الله التي رخص لكم فاقبلوها»، وصححه الألباني في الإرواء (4/54).

 

(1) ينظر: رفع الحرج في الشريعة الإسلامية لابن حميد، ص (93).

(2) ينظر: كتاب الدرر البهية في الرٌّخص الشرعية للصلابي، ص (60).

(3) البحر المحيط (8/ 381).

(4) شرح المحلي على جمع الجوامع بحاشية البناني (2/400).

(5) للتوسّع في هذه المسألة ينظر: كتاب عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق للشيخ محمد سعيد الباني، وهو مطبوع في مجلد، طبعة المكتب الإسلامي.

(6) عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق للباني، ص (91) وما بعدها.

(7) قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي، ص (159 ـ 160)، وينظر: مجلة المجتمع (ع 8 ج1 ص41)، وعمدة التحقيق في التقليد والتلفيق للباني ص (121 ـ 122)، وينظر: فيض القدير (1/273).

(8) حيث يقول:

أباح العــراقي النبيـذ وشـربـه *** وقال: حـرامان المداومة والسكــرُ

وقال الحجازي: الشرابان واحد *** فحلّت لنا من بين قوليهما الخمرُ

سآخــذ مـن قوليهما طـرفيهـما *** وأشربـها لا فـارق الـوازر الـوزرُ.

ـ ينظر: كتاب زجر السفهاء عن تتبٌّع رخص الفقهاء لجاسم الدوسري، ص (75 ـ 76).

(9) ينظر أمثلة على ذلك في: كتاب عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق للباني ص (121 ـ 122).

(10) المرجع نفسه.

 

(1) عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق للباني ص (121 ـ 122)، وينظر: كتاب الدرر البهية في الرٌّخص الشرعية للصلابي ص (91).

(2) ينظر: حاشية العطار على شرح المحلي (2/442)، وإعانة الطالبين (4/271)، وقرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي (159 ـ 160)، ومجلة المجتمع (ع 8 ج1 ص41).

(3) المالكية والشافعية والحنابلة خلافاً للحنفية.

(4) ينظر: الدرر البهية في الرٌّخص الشرعية للصلابي، ص (39).

(5) السَّلم هو: عقد على موصوف في الذمّة مؤجل بثمن مقبوض بمجلس العقد، ويسمى سلماً وسلفاً. وصورته: أن يقول رجل لرجل آخر فلاح ـ مثلاً ـ: خذ هذه عشرة آلاف ريال حاضرة بمائة صاع من التمر نوعه كذا تحل بعد سنة، فهذا هو السَّلم لأن المشتري قدّم سلماً والـمُسلَم مؤخر. ينظر: المغني مع الشرح الكبير (4/338)، والشرح الممتع على زاد المستقنع لابن عثيمين (4/68)، طبعة دارالإمام مالك والمستقبل.

(6) شرح مختصر الروضة للطوفي (1/465).

(7) مراتب الإجماع ص (58)، وجامع بيان العلم (2/91)، وينظر: الموافقات للشاطبي مع الحاشية (5/82)، وأدب المفتي والمستفتي (ص125).

(8) سير أعلام النبلاء (7/126).

(9) حلية الأولياء (3/32)، جامع بيان العلم وفضله (2/122).

(10) قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي ص (159 ـ 160)، وانظر: مجلة المجتمع (ع 8 ج1 ص41).

(1) أدب المفتي والمستفتي ص (111 ـ 112)، وإعلام الموقعين (4/195)، والمجموع (1/46).

(2) أدب المفتي والمستفتي ص (112).

(3) ينظر في هذه المسألة ما يلي: الموافقات للشاطبي (5/99) (5/83) (5/102 ـ 103)، المجموع للنووي (1/55)، إعلام الموقعين لابن القيم (4/185)، أدب المفتي والمستفتي (ص125).

(4) الموافقات (83/5).

(5) انظر: رسالة شيخ الإسلام ابن تيمية (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) فإنها مفيدة في بابها.

(6) المبدع (10/25)، وانظر: كشاف القناع (6/300).

(7) إعلام الموقعين (1/87).

 

(1) تراجم الأعلام المعاصرين أنور الجندي (ص428).

(2) إعلام الموقعين (4/185).

(3) الموافقات (5/91).

(4) التقرير والتحبير (3/341) لابن أمير الحاج الحنفي، نقلاً عن كتاب (زجر السفهاء عن تتبٌّع رخص الفقهاء) صفحة (55).

(5) السنن الكبرى (10/356).

(6) السير للذهبي (13/465).

(7) المجموع (1/55).

(8) ينظر: زاد المعاد (5/ 368).

(9) الموافقات (5/81 ـ 82).

 

(1) أدب المفتي والمستفتي (ص111).

(2) معرفة علوم الحديث للحاكم، ص (56) وتلخيص الحبير (3/187).

(3) مختصر التحرير، ص: (252).

(4) جامع بيان العلم وفضله (2/91)، وشرح الكوكب المنير (4/578).

(5) ينظر: الموافقات بتصرف (3/123)، وأيضاً المجموع (1/55).

(6) ينظر: كتاب زجر السفهاء عن تتبع رخص الفقهاء للشيخ جاسم بن نهير الدوسري، ص: (11 ـ 12 ـ 13).

(7) انظر:روضة الناضر لابن قدامة، ص (409 إلى 411)، ط: الزاحم، مختصر التحرير، ص (252).

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply