الوقف ومناشط الدعوة


بسم الله الرحمن الرحيم 

الحمد لله وحده، والصّلاة والسّلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه،

أمّا بعد..

 تمهيد:

* فإنّ حبس الأموال والانتفاع بريعها لخدمة النّاس، أو أصناف منهم ليست من المخترعات الحادثة، بل هي قديمة عند أمم الأرض، ولا تزال هذه الأمم تتناقل العمل بها وتنتفع به إلى يومنا هذا.

* ومن الشواهد الظاهرة عليها في هذا الزمن، ما تقوم به الأمم الغربيّة من الوقف على المنظمات التنصيريّة والعلميّة عندهم، ويسمونه (ترستTrust)، حتى أنّ أحدث الإحصاءات تشير إلى أنّ 11% من العقار الأمريكي تملكه جهات غير ربحيّة، ومجموع ما تناله الجمعيات التنصيرية وعددها 25.000 منظمة يبلغ 570 مليار ريال.

وفي إفريقيّة السّوداء 7. 000 مستشفى ومستوصف يتبع المنصرين، وأكثر من 1. 000 دار للأيتام، و120. 000 معهد تنصيري، ورصدت 120 مليار ريال لبناء الكنائس، ولا يكاد الزائر لتلك الكنائس يجد كنيسة في أدغال إفريقيّة إلاّ وقد أوقفت عليها الأوقاف.

ومما يلفت النّظر أنّ جامعة ((هارفرد)) الأمريكيّة لها أوقاف تقارب قيمتها 19 مليار ريال.

* ولو نظرنا إلى الجهات الدعويّة الإسلاميّة، فإننا سنجد الغالب على أحوالهم: ضعف الإمكانات، والعشوائيّة في التّخطيط، ومظاهر البؤس المزري، بل وحتى هذه الجهات على ضعفها رأينا ما يتوقف منها عن أداء عمله بسبب عدم وجود الموارد الماليّة التي تسيره.

 

- الوقف في الإسلام:

* لما بُعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شرع للمسلمين الوقف، وبيّن لهم فضله وأحكامه، في نظام فريد في وسائل تحقيقه وغاياته النّبيلة ومصارفه والعناية به وتنميته.

* ولقد كان الوقف وما زال، سبباً رئيساً في قيام الحضارة الإسلامية بمقوماتها: فمن خلاله عمرت المساجد، وبنيت المكتبات والمدارس، والمشافي، وجعل ريع العقارات المختلفة للإنفاق على الفقراء والمحتاجين، وشقّ الطرق والأنهار، وبناء القناطر، وكل هذا الإنفاق يجعل الأرض خصبة للتلقي والانتفاع بالدعوة إلى الله - تعالى -، بخلاف ما لو عاش الناس في ضنك من عيشهم، لا يجدون من يشبع جوعتهم، ولا من يعالج مرضاهم، ولا من يخفف آلامهم، فإنّهم حينئذ سينصرفون عن الانتفاع بالدعوة إلى قضاء حوائجهم، وهذا مما يرينا أثر الوقف على أوجه البر والإحسان في إنجاح الدعوة إلى الله - تعالى -.

 

- منزلة الدعوة:

* حديثنا عن الدعوة إلى الله - تعالى -وعلاقتها بالوقف، يقودنا إلى ذكر مقدّمة مهمّة قبل طرحه، وهو منزلة الدعوة من الدين الإسلامي.

* إنّ أعظم مقومات الحضارة الإسلامية: إيمان يملأ قلوب أهلها ويدفعهم إلى العمل الصالح، ودعوة إلى هذا الإيمان، وصبر على ما يلاقي المؤمنون في سبيل تمسكهم بدينهم، وأن يكون بينهم من التواصي على الحق ما يثبت أفئدتهم.

قال - تعالى -(والعصر، إنّ الإنسان لفي خسر، إلاّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) [سورة العصر].

وكفى بالدعوة فضلاً ومكانة أنّها مهمّة المصطفين من خلق الله تعالىº وهم: الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام.

قال - تعالى -(فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين النّاس فيما اختلفوا فيه) الآية. [سورة البقرة، الآية 213].

* والدعوة إلى الله - تعالى -تحتل المنزلة الأولى في سُلّم الأولويات بعد تحقيق التوحيد بل لا يُحمى التوحيد، ولا ينتشر إلاّ بالدعوة إلى الله - تعالى -.

والدعوة تحتاج إلى الاستمرار ولا تمكن النّجاة مع توقفها، فهي لا ترتبط بزمان ولا مكان محدودين، بل هي إنشاء وصيانة ومحافظة على المنشآت العلميّة من التناقص فضلاً عن الزوالº لأنّ المؤمن مأمور بتحقيق عبادة ربّه حتى يلقاه، قال - تعالى -(واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) [سورة الحجر، الآية 99].

قال شيخ الإسلام ابن تيميّة: والإنسان خُلق ظلوماً جهولاً، فالأصل فيه عدم العلم وميله إلى ما يهواه من الشرّ، فيحتاج إلى علم مفصّل يزول به جهله.. وعدل ينافي ظلمه، فإن لم يمنّ الله عليه بالعلم المفصّل والعدل المفصّل وإلاّ كان فيه من الجهل والظلم ما يخرج به عن الصّراط المستقيم. ا. هـ.

 

- حاجة الدعوة إلى الوقف:

* وإنَّ الدعوة إلى الله - تعالى -تحتاج من الداعية أن يتقن التخطيط لأعماله الدعويَّة حتّى يصل بها إلى تحقيق أهدافه وغاياته، وبدون التخطيط يقع الإخفاق، وتتبدد الجهود، ويُحال بين الداعية وبين قطف ثمار دعوته، وقد يملٌّ فيقع منه الفتور بسبب توالي الفشل في مشروعاته التي لم يضع لها أسس نجاح يمكن بلوغها من خلال توجيه واستخدام الإمكانات والقدرات المتاحة له.

* ومن أعظم مقومات استمرار الدعوة إلى الله - تعالى -نافعة راشدة: ارتباطها بالعلم والعلماء، ولا تكون نهضة علميّة إلاّ بوجود العلماء وتلاميذهم، ودور التعليم ومكتباتها، والعناية بالدعاة والمدعوينº لذلك كانت العناية بالإنفاق من خلال الأوقاف على العلم وأهله ودوره وعامّة النّاس منذ وقت مبكر جداً، وتدافع وتسابق الحكام والعلماء والأثرياء على الوقف على المكتبات، حتى شكّل الوقف عليها بؤرة النهضة العلميّة التي أتاحت المعرفة وتوارثها للجميع، وقلّ أن نسمع بحاضرة من حواضر المسلمين إلاّ ونجد فيها مكتبة وداراً للعلم قد أوقفت لأهله وطلابه ومن يحتاج من أهله.

ومن الأمثلة الرائعة في ذلك: المدرسة المستنصرية التي بناها الخليفة العباسي المستنصر بالله.

ومن جهود العلماء: بناء مدرسة الشيخ أبي عمر المقدسي في جبل قاسيون، وجعل مكتبتها في جامعها، وأوقف عليها الكتب العظيمة حتى أضحت مرجعاً للعلماء يحجونها من بلاد بعيدة.

* وقد قامت المملكة العربية السعودية على برعاية الوقف منذ تأسيسها، ووضعت له وزارة ترعى شؤونه، خاصة وأنّها مزدحمة بالجهات الدعويّة التي تحتاج في جميع أوقاتها، أو في بعضها إلى الوقفº ومن هذه الجهات الدعويّة: مجمع خادم الحرمين الشريفين لطباعة المصحف الشريف، والرئاسة العامة للبحوث العلميّة والإفتاء، ورئاسة شؤون الحرم المكي والحرم المدني، ووزارة الشؤون الإسلاميّة والأوقاف والدعوة والإرشاد، والمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، ومجلس الدعوة والإرشاد، وهيئات الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، ورابطة العالم الإسلامي، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، والهيئة العليا للدعوة والإسلامية، والجامعات والمعاهد والمدارس التي تدرس فيها علوم الشرعيّة وعلوم الآلة، ومراكز خدمة المجتمع، مراكز البحوث العلميّة، والندوة العالميّة للشباب الإسلامي، وهيئة الإغاثة الإسلاميّة العالميّة، ومؤسسة الملك فيصل الخيريّة، والجمعيّات الخيريّة لتحفيظ القرآن الكريم، والمكاتب التعاونيّة للدعوة والإرشاد وتوعية الجاليات، ومندوبيّات الدعوة والإرشاد في الأحياء والقرى.. إلخ.

وربّ ضارّة نافعة، فإنّ الحملة العالمية الشرسة على موارد الإنفاق على الجهات الدعويّة والخيريّة، وخاصة التبرعات النّقديّة، تجعل العودة إلى إحياء الوقف، والحث عليه، وبيان أحكامه، وتسهيل أوضاعه وشؤونه، وحمايته من أيدي العابثين ضرورة لا مناص عنها.

 

مجالات للوقف مقترحة يمكن من خلالها تحقيق انتفاع مناشط الدعوة بها:

* إنّ كلّ مجال يمكن من خلاله تحقيق ريع للعين الموقوفة يعدّ مجالاً يوصى به متى حفّته القرائن التي تظهر ضمان ربحه وفق الضوابط الشرعيّةº ومن ذلك: المصانع، والمدارس والمعاهد والجامعات، ومراكز البحوث العلمية، والتدريب والتّطوير، ومؤسسات تبني النابهين، والمزارع، والمطاعم، ومحال بيع الملابس والأطعمة ومواد البناء وغيرها، ومواقع وأدوات الترفيه، والعقار المعد للكراء، وطباعة الكتب والأشرطة، وفتح مواقع على الشبكات العالميّة، ومؤسسات السمسرة والتسويق، والدعاية والإعلان، والخدمات العامة والخاصة، والإنشاء والصيانة، والمصارف الإسلاميّة، ومنظمات الحقوق والمحاماة.

 

- إجراءات مقترحة لتحقيق شروط الواقفين في الداخل والخارج:

* إنشاء مركز بحث يُعنى ببحوث الوقف، وخاصة ما يتعلق بأنظمته الداخليّة والدوليّة لضمان استمراره وتحقق شروط واقفه، سواء أكان في دولة إسلاميّة أو غيرها، بحيث لا يتعارض مع قوانينها.

* إنشاء هيئة عليا تُعنى بإقامة المؤتمرات والندوات التي تسعى إلى الخروج بتنظيمات موحدة للوقف.

* الاستفادة من الأنظمة والمنظمات الدوليّة التي تُعنى بحقوق الملكيّة والمؤسسات غير الربحيّة.

* العناية بالوضوح التّام في قضايا إدارة وتطوير وصرف ريع الأوقاف، وإظهار ذلك عبر وسائل الإعلام المتنوعة من مرئيّة ومسموعة ومقروءة، وصنع التقارير الخاصة بالأوقاف ليظهر للواقفين والمنتفعين صدق القائمين على الأوقاف في تحقيق شروط الواقفين، وليكون تصحيح مسارها وتطويره في دائرة الإمكان.

* تعيين المحامين الأقوياء الأمناء للدفاع عن قضايا الأوقاف والتّأكد من عدم التّعدي عليها، وتشغيل المتعطل منها.

* التّنسيق مع الوزارات والإدارات التي لها علاقة بالأوقافº ليكون فيها من يعمل لصالحها، ولو بترتيب أن يكون الإنفاق على هؤلاء الموظفين من ريع الأوقاف، وخاصّة في المحاكم، والبلديات، والمواصلات.

* تفعيل أداء إدارات الأوقاف لتكون قادرة على إدارتها، وتنميتها، وتطوير أوضاعها.

* إنشاء إدارة تتولى صرف ريع الأوقاف حسب شروط الواقفين، وتتأكد أنّ الأموال لا تُحبس عن إنفاقها.

والله الموفق والهادي إلى سواء الصراط.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply